لكن العنصر الأهم في هذه الدول هو استناد اقتصادها إلى سوق وطنية قوية، أكثر بكثير من اعتمادها على تصدير الخامات والطاقة والمنتجات! تركيا إذاً واحدة من هذه الدول إلى جانب الأرجنتين، فرنسا، والمجموعة الإسكندينافية، وبريطانيا، وأستراليا، واليابان. أما موقع الصين في هذا القرن فسيبقى مرموقاً، لكنّ له نقاشاً آخر. وفي كل الأحوال فإن الشرط الأساسي لهذه التوقعات هو تجنب الحروب والصراعات الداخلية.
لا تتأثر سياسات الدول الناضجة بأمزجة زعمائها على المدى الطويل، بل يبقون مجرد عابرين في كل الأحوال، كما أوضحت في مقالة سابقة حول تاريخ تركيا، إذ تشكل السياسات التركية الراهنة استمراراً طبيعياً لتاريخ الجمهورية، مستندة إلى نهج استراتيجي وضع منذ نشوئها الحديث.
لكن تركيا تختلف عن نظيراتها من حيث الجغرافيا والهيكل الاقتصادي. فهي شبه جزيرة في قلب العالم القديم، لديها ثاني أكبر جيوش الأطلسي، وجوارها الإقليمي يسمح بأكثر المصالح والمخاطر تنوعاً وتشابكاً. بل لا يمكن لوزير الخارجية أو الدفاع أو الأمن التركي، إلا أن يكون قادراً على إدارة فضاءات ممتدة من أوروبا إلى البلقان والقفقاس والشرق الأوسط، والمتوسط، والأسود. إضافة إلى وسط آسيا وروسيا. ثم هناك أميركا والأطلسي بالطبع. كل ذلك في مناخ عودة الصراعات الدامية على خطوط الإمداد البحري.
رغم ذلك، تمتلك تركيا أوراقاً اقتصادية هامة! أهمها نجاح عملية التصنيع لتجعلها مصدر قيمة صناعية مضافة لأوروبا، ولتصبح من أكثر الاقتصادات ريعية في العالم، ولتتمتع بسوق كبيرة مكتفية بذاتها إلى حد كبير، بحيث يقدر أن اقتصادها قد يصمد حتى لو عزلت تركيا عن العالم. وبالنسبة إلى الطاقة، تستفيد تركيا من النزيف الروسي استفادة مهولة، لكنها ترتب بدائل وأنابيب من شمال العراق وأذربيجان الخ.
بعد الغزو الروسي لأوكرانيا تكثفت المخاطر شمال تركيا وغربها، في منطقة تمتد من شرق البلقان وبلغاريا ورومانيا ومولدافيا وبالطبع أوكرانيا. لذلك تطبق تركيا سياسة حذرة فريدة لدرء الحرب من جهة، والعمل على تعظيم مكاسبها وتجنب أن تكون رأس حربة في حرب لم تقررها، من جهة أخرى.
وكما في فيتنام والصومال، تخسر الدول النووية حروبها الصغيرة (العملية العسكرية)، وكذا تتدحرج الأمور في أوكرانيا نحو هزيمة الأهداف الاستراتيجية الروسية. وفي كل الأحوال، لن تكون الهزيمة الروسية من نمط هزيمة هتلر 1945، فلا أحد يبدي شهية لاحتلال روسيا، بل ستكون على الأغلب أشبه بهزيمة صدام حسين 1992. لكن مصير الحرب يبقى، إلى الآن، غير محسوم. وكما يقول ستالين: "الكمّ قد يخلق فرقاً نوعياً"، وهذا ما فعلته روسيا في الحروب الخمسين التي خاضتها منذ إيفان الرهيب، فخسرت نصفها، وربحت النصف الآخر، وكانت تعوض تخلفها في العتاد والتنظيم دوماً بأجساد جنودها.
في كل الأحوال، ما سيتبقى من قوة روسيا المكلومة، سيكون خطيراً، بخاصة بالنسبة إلى دول إقليم البحر الأسود. لذلك تبقى مقاربة تركيا صاحية، إذ يفترض المنطق الاستراتيجي أن لا تريد تركيا لروسيا نصراً. لكن ليس لها مصلحة في انهيارها التام. لذلك تجد مفيداً تجنب تفجير الوضع بالكامل، بل تبادر لتبريد عقل روسيا بثقافتها التجارية العريقة.
وبسبب رفض الصين تحويل عملتها إلى عملة قابلة للتداول السوقي، لم تتمكن روسيا من الاعتماد على اليوان في التداول الدولي، لتصبح تركيا متنفساً رئيسياً، ما يتيح لها مناورة أكبر. وفي نهاية الأمر، ورغم ذلك، تبقى تركيا من دون شك جزءاً من شبكة التحالف الأميركي.
يدرك الاستراتيجيون الأتراك أن الهدف الروسي ليس أوكرانيا بذاتها، بقدر كونها معبراً إلى مضائق استراتيجية عديدة وسط أوروبا. ويقع أحد أهم هذه المعابر في ما يسمى "الفجوة العربية"، وهي منطقة تشمل مولدوفا وشريحة تغطي 20% من شمال شرقي رومانيا.
فلقد كانت هذه الفجوة الاستراتيجية أيضاً، وعلى مدى قرون، منفذ الغزوات الروسية والهنغارية-النمساوية، للاقتراب من اسطنبول.
ورغم حقيقة أن ضمانات الناتو بعد الحرب الأوكرانية قد تعززت بقوة، تحاول تركيا عدم الوصول إلى حافة الهاوية، بل تعمل لتفادي سقوط الجذع الروسي فوق سقفها. عندها سيصبح قلب تركيا واسطنبول والعاصمة مكشوفاً للقوة الروسية، بما في ذلك المضائق التركية الثمينة التي أمنت السيطرةُ عليها، بحسب اتفاقية مونترو، حصاراً نادراً للأسطول الروسي في المتوسط والأسود. ما يعزز بدوره موقع تركيا في الناتو.
لا شك في أن تركيا لا ترغب في تصور احتمال تراجع الدعم الأميركي لأوكرانيا، لأن ذلك سيعني أنه لن يكون أمامها من خيار سوى الشراكة مع رومانيا وبولند وغيرها من دول ما بين البحرين (البلطيق والأسود) لسد هذه الفجوة، وردع الروس عن مغامرة مشابهة.
خلال الأزمة السورية اشتكت تركيا من تحول المتوسط بحيرة روسية، ثم تفاقمت العلاقات مع روسيا بعد ضم القرم 2014، ونشر القوات الروسية في ناغورني كراباخ، ثم الحرب الحالية في أوكرانيا. ومع احتدام هذه الحرب، انشغلت تركيا ببسط قبضتها على البحر الأسود، وكثفت استكشاف موارد الغاز الطبيعي في المتوسط، كما تستمر التدريبات البحرية والبرية التركية في كل البحار المحيطة. بل تصرح بانها تطمح لتصبح "أقوى قوة بحرية في المنطقة".
أصبح التحسب من روسيا وردعها هاجساً مركزيا لتركيا. ومع مرور الوقت يصبح الحياد أصعب في منطقة جغرافية حولتها الحرب مصدر خطر كبيراً على تركيا، بعدما كانت منطقة عازلة عن منافستها التاريخية روسيا.
ورغم دورها كوسيط في النزاع، تتحرك تركيا تحركاً أكثر وضوحاً. إنها الدولة الوحيدة في الناتو التي تزود أوكرانيا بالأسلحة من دون شرط عدم استخدامها ضد أهداف داخل روسيا. ولعبت المسيرات الهجومية والاستطلاعية التركية دوراً حاسماً في الصراع، إضافة إلى قاذفات الصواريخ المتعددة ومعدات الحرب الإلكترونية والذخيرة وانضمام تركيا إلى تحالف الدبابات الذي شكلته بولندا.
تدرك تركيا أن الحرب قد تدوم طويلاً في أوروبا، لذلك فإنها تتحسب، مثل تحسب التاجر العتيق في سوق اسطنبول المسقوف على دكانته، إذ يتمتم كل يوم "يا رزاق، سبحان الدايم"!
---------
النهار العربي
---------
النهار العربي