انطلقت انتفاضة السويداء في منتصف شهر آب 2023، لتعيد الروح الى الثورة السورية، وألقها الأول بشعاراتها الأولى، قبل أن تتطور وتبدع شعاراتها وأهازيجها التي تتناسب مع التغيرات التي طرأت على القضية السورية، كما تميزت باتخاذها موقفا لا رجعة فيه في القطيعة مع بقايا النظام الاستبداد الأسدي، وتميزت أيضا بالمشاركة البارزة للمرأة، وفي الابداع الفني الذي برز في مختلف ميادين الفنون لإضفاء الطابع الراقي الذي يجسد السلوك الرفيع المستوى للمحتجين ومهاراتهم التنظيمية في المحافظة على السلمية.
تشكل احتجاجات السويداء مشكلة حقيقية للنظام الأسدي، وتظاهره بتجاهلها لا يخفي القلق العميق من استمرارها، إذ عمل ما بوسعه، دون جدوى، لإيقافها، ووجه لهذه الانتفاضة، عبر أبواقه وأدواته، اتهامات التخوين والارتباط بالخارج "المؤامرة الكونية"، واتهامات الانفصال، مستغلا إبراز بعض الشعارات النشاز التي رفعها عملاؤه، شعارات تطالب باللامركزية أو الحكم الذاتي، والتي سرعان ما تنبه لها ناشطو الحراك.
هذه الاحتجاجات أحدثت تغيرات كبرى، في سحب ورقة الأقليات التي كان يسوقها النظام أمام الغرب
اتضحت الصورة للجميع، بأن كفاح السويداء وانتفاضتها المستمرة لأكثر من ستة أشهر لا تبرح الساحات، هو استمرار لكفاح الشعب السوري من أجل تحقيق أهدافه في بناء الدولة الوطنية الديمقراطية، دولة الحريات والقانون، وأن السويداء منسجمة مع تاريخها الطويل، وهويتها ضاربة الجذور بامتدادها العربي الإسلامي، وكانت دوما شديدة الحرص على هذا الإرث، الذي تشكل عبر رموز بني معروف التاريخيين، من شكيب أرسلان إلى سلطان الأطرش وكمال جنبلاط وشبلي العيسمي ووحيد البلعوس. لا يمكن للسويداء إلا أن تكون جزءا من هذا المشهد السوري العروبي الإنساني الذي يتوق الى الحرية والخلاص من كل أشكال العبودية.
بدأ يطرح السؤال، ما الذي حققته ستة أشهر من الاحتجاجات؟ لم يتغير شيء؟ ماذا بعد؟ وإلى متى؟ وهل ستؤدي انتفاضة السويداء إلى سقوط النظام؟ الخ.. في الحقيقة، عند مراجعة الحدث مراجعة متأنية، سنجد أن هذه الاحتجاجات أحدثت تغيرات كبرى، في سحب ورقة الأقليات التي كان يسوقها النظام أمام الغرب، فهذه معظم دول الغرب تحذر النظام من مغبة استخدام العنف ضد هذه الاحتجاجات، السلمية الجميلة الراقية، في سلوكها وفي خطابها. إضافة إلى أنها أعادت الأمل للملايين من المنتفضين في الربيع العربي، لتثبت أن الثورة متجددة لا تموت وحقوق الشعوب لا تسقط بالتقادم.
ربما كانت أهم إنجازات هذه الانتفاضة على الصعيد المحلي، بلورة المجتمع المدني، حيث شهدت المحافظة ولادة التنظيمات النقابية الحرة، تجمع المعلمين وتجمع المهندسين والمحامين والعاملين في القطاع الصحي، هذا المجتمع المدني المستقل عن سيطرة حزب الأسد والأجهزة الأمنية، يؤثر في تقوية التماسك الاجتماعي واحتضان الحراك الشعبي.
في ظل هذه الانتفاضة، يعيش مجتمع السويداء تحولات عميقة، إذ وفرت الفرصة لتطور ثقافة الحوار وطرح الكثير من الأسئلة حول الوطن والوطنية، في ثورة على المفاهيم التي رسخها نظام الاستبداد، وبعد أكثر من نصف قرن من تغييب السياسة والثقافة، أخذت تتبلور بعض التيارات السياسية، في تجاوز للأطر التقليدية، بدأت التفكير في محاولة لتشكيل مرجعية تمثل المجتمع تمثيلا حقيقيا، يكون لها الكلمة الفصل في مختلف ميادين الحياة.
فشل أساليب النظام في احتواء انتفاضة السويداء، حمله على أن يراهن على تغييب الدولة عن مسؤولياتها في المحافظة على الأمن وحماية الأرواح والممتلكات، بعد التنصل من مسؤولية توفير مقومات العيش كالماء والخبز والكهرباء، تقف السلطة الأسدية متفرجة أمام عصابات السطو والنهب والخطف وقطع الأشجار وانتشار المخدرات. اختفت هذه العصابات في الشهر الأول من الانتفاضة، مما يؤكد أنها تعمل بإشراف وتوجيه من الأجهزة الأمنية التي غابت عن الفعل في هذه المرحلة، حيث اضطرت التزام الاختباء في مقارها. بعد مضي شهرين على الانتفاضة، استأنفت هذه العصابات دورها في الاعتداء شبه اليومي على المجتمع وتهديد الناس في حياتهم وفي استباحة ممتلكاتهم.
تحول اهتمام الأجهزة الأمنية إلى رعاية العصابات التي تشيع الفوضى، إضافة إلى تهريب وترويج المخدرات إلى الأردن ودول الخليج العربي. وهذا ما حمل الأردن على استهداف القرى الحدودية وإيقاع العديد من الإصابات في صفوف الأبرياء، مما يشكل تهديدا حقيقيا للمجتمع برمته. إن استمرار الفوضى التي رعاها النظام، كفيلة بتفكيك مجتمع السويداء وإجهاض الحراك الذي ستبتلعه هذه الفوضى إذا ما استمرت.
تعيش محافظة السويداء هذا المخاض الصعب، الذي سيشهد ولادة هذه المرجعية التي يجب أن تكون منفتحة على الجميع، على أسس التعددية في إطار الوحدة وتحترم حق الاختلاف، ويجب أن ترى النور في أقرب وقت ممكن. فالمحافظة بأمس الحاجة للوحدة ورص الصفوف والتنظيم والتخطيط وترتيب البيت الداخلي، ومحاولة تغطية غياب الدولة وتقصيرها في حماية السلم الأهلي وإشاعة الأمن والطمأنينة في المجتمع. مرجعية تسند إلى لجان متخصصة في مختلف الميادين، في السياسة وفي الأمن وفي الاقتصاد والإعلام، تتمكن من رقابة المؤسسات وممارسة الضغوط عليها لتحسن أدائها، والحد مما أصابها من فساد، ومنع تجاوزاتها للقانون والتدخل للدفاع عن ضحايا التعسف الأمني والإداري، والمثال الأبرز هو التدخل لمساندة المدرس المفصول صدام النجم الذي فصل لمشاركته في الاحتجاجات.
يجب أن تتمكن هذه المرجعية من فتح الحوار مع جميع القوى السورية، خاصة مع منظمات المجتمع المدني ومجالس محافظات الجنوب والتنسيق فيما بينها، حيث كان الجنوب وما زال عنوان الوحدة الوطنية السورية.
إن مواجهة هذا التحدي يستوجب من النخب التي تطرح نفسها لتحمل المسؤولية أن تكون نقيضا لنظام الفساد والاستبداد قولا وفعلا
ربما كان إنتاج هذا الإنجاز الذي تأخر كثيرا، من أهم التحديات التي تهدد حراك السويداء في هذه المرحلة، الحراك الذي نجح في تجاوز كل محاولات النظام لوقفه أو احتوائه، يتعثر الآن بسبب النخب السياسية التقليدية وأنا نياتها وإيديولوجياتها. أخطر ما يواجه الحراك تعثر إنتاج مرجعية ذات مصداقية، لا تقصي أحدا، مرجعية تحظى بثقة المجتمع المدني والأهلي ودعمهما، وتتمثل أهداف الشعب السوري في استعادة وحدته وبناء دولته الوطنية الديمقراطية الموحدة، مرجعية تتمكن من تغطية "غياب الدولة"، لا أن تحل محلها، لأن السلطة الأسدية الآن، في محاولة إجهاض الحراك، تترك المحافظة مسرحا للعصابات تلتهمها الفوضى. مع الأمل أن يتمكن الجميع، عبر الحوار، من بلورة تصور للخروج من المأزق والمساعدة في أن يتوج هذا المخاض بولادة هذه المرجعية التي تجسد وحدة المجتمع في مواجهة هذه المرحلة المعقدة، وإلا كيف لنا أن ننجح في استعادة وحدة الشعب السوري إذا لم نتمكن من إنجاز وحدة أبناء المحافظة؟
إن مواجهة هذا التحدي يستوجب من النخب التي تطرح نفسها لتحمل المسؤولية أن تكون نقيضا لنظام الفساد والاستبداد قولا وفعلا، أن تتبنى الحوار الحقيقي والشفافية وأن تتطلع إلى حجم المسؤولية الملقاة على عاتقها، أن تتحلى بأخلاق الثوار الحقيقيين في العمل الدؤوب من أجل تحقيق أهداف الثورة والترفع عن الأنانية والمصالح الشخصية أو الحزبية الضيقة، والتطلع إلى الأهداف النبيلة في تعزيز وحدة المجتمع وتحصينه ليتمكن من الاستمرار في احتضان الحراك الثوري.
إن الإصرار على استمرار الاحتجاجات في السويداء، يعني استمرار الضغط على النظام ووضعه في دائرة الخطر والاستهداف. بانتظار أن يقوم الإخوة في باقي المحافظات في ملاقاة هذه الاحتجاجات، بالإضراب والعصيان المدني، وهذا يحتاج إلى عمل دؤوب، من قبل الناشطين على امتداد الوطن السوري وفي المنافي، لتعبئة الشعب وحشده تحت عنوان: سوريا ديموقراطية موحدة أرضا وشعبا. لن يتمكن النظام من مواجهة وحدة الشارع السوري لوقت طويل، فانسداد الأفق والتدهور الاقتصادي غير المسبوق يجعل من الانفجار مسألة حتمية قادمة، انفجار يؤدي إلى تفكك الدائرة الضيقة التي تحمي النظام، مما يفتح الطريق نحو الانتقال السلمي، ويفتح الآفاق أمام الشعب السوري لوضع البلاد على سكة الحياة وإعادة الإعمار..
-----------
تلفزيون سوريا