والقصد أنه ليس أمراً مفاجئاً حين لا يكون قادتها موضع قبول وترحيب شعبيين، أو حين يتعرضون لسيل من الانتقادات تجاه سياساتهم المبهمة والذليلة والتي استهترت غير مرة بما يكابده الملايين واستسهلت التفريط بحقوقهم. كيف يمكن أن يثق السوريون بمعارضة وضعت نفسها في طليعة المروّجين للأوهام عن دور خارجي «إنقاذي وخلاصي» وربطت سياساتها به، ما جعلها في كثير من المحطات تنصاع لأوامر الخارج، الإقليمي أو الدولي، وتسير وفق حساباته وتوقيتاته، ضاربةً عرض الحائط بالجهود المفترض بذلها لمواجهة تحديات الداخل، ولتمكين الذات أولاً، والتأكيد على أن خلاص السوريين لن ينجَز إلا بأيادي السوريين أنفسهم، ولنتذكر هنا، مثلاً، كيف ارتبطت محطات تطورها السياسي وتشكيلاتها التنظيمية بأجندة لا تتعلق بالوضع السوري العياني بقدر ما كانت تتعلق بمطالب الخارج، وكيف تَسابق المعارضون لعقد المؤتمرات وإعلان التكتلات السياسية تلبيةً لإشارات صدرت من هذا الطرف الخارجي أو ذاك، وكيف وُلد «الائتلاف الوطني» نفسه كاستجابة مكشوفة لاشتراط الغرب منحه الشرعية ودعمه، ولنتذكر أيضاً، مرارة ما جلبه انتظارها وتعويلها المزمن على تدخل أميركي جدّي وحازم في الملف السوري؛ مرةً على ما كان يعلنه البيت الأبيض من خطوط حمر ومن مواقف متشددة تجاه نظام دمشق، ومرةً ثانيةً على العقوبات التي فُرضت، كقانون قيصر، ومؤخراً قانون الكبتاغون. ولنتذكر تالياً الخيبات المتكررة من مبالغة بعض زعماء المعارضة في الرهان على حصول توافق بين موسكو وواشنطن يُنهي الحكم السوري ويفتح آفاقاً لمرحلة الانتقال السياسي، كما على ما عدّوه خلافاً بين روسيا وإيران حول المستقبل السوري، ما سمح بتمرير مسار روسي كان همّه الالتفاف على القرار الأممي (2254) وفرض تسوية على مقاس مصالحه. والأهم، لنتذكر الاتكاء المفرط لأهم جماعات المعارضة السورية على تركيا، ومنحها ثقة مطلقة حتى بدا الانصياع لأوامرها كأنه ضرورة لاستمرار الوجود السياسي المعارض نفسه، ما أفضى إلى التسليم بتحالف حكومة أنقرة مع موسكو وطهران، والإذعان لإملاءاتها في المشاركة باجتماعات الآستانة وسوتشي، وفرض مناطق خفض التصعيد وإنجاح ما رُسم من «تسويات ومصالحات» كما إلى تغطية «عملياتها العسكرية» في شمال غربي البلاد، من دون أن ننسى مبالغات المعارضة في التعويل على الدور الأممي وعلى الخطط التي حملها المبعوثون الدوليون، وعلى ما عُرفت بمفاوضات جنيف، وحالياً على ما يمكن أن تسفر عنه أعمال اللجنة الدستورية، وإيهام الناس بأنها باتت مدخل التغيير السياسي.
علاوة على ما سبق يلحّ السؤال: أيُّ موقع يمكن أن تحتله المعارضة السياسية عند السوريين حين تبدو كأنها في وادٍ والمعاناة الشعبية في وادٍ آخر، وتعجز عن بناء قنوات للتواصل والتفاعل مع الناس ومدهم بأسباب الدعم، كما عن توظيف الجهد المطلوب لتنظيم الحياة في المناطق التي خرجت عن سيطرة السلطة؟ وأي قيمة يمكن أن تحوزها معارضة غضّت النظر عن قوى إسلاموية متطرفة نجحت في فرض وجودها على الأرض وخلق واقع اجتماعي يناهض الشعارات الوطنية والديمقراطية، أو حين يتمكن تنظيم الإخوان المسلمين من السيطرة على أهم مؤسساتها وفرض مواقف سياسية عليها تخدم التزامه الآيديولوجي على حساب الهم الوطني، فلا يتردد، مثلاً، تلبيةً لمصالح «إخوته في الدين»، في حضّها على تسعير العداء بين الكرد والعرب والتخلي عن مسؤوليتها الوطنية والأخلاقية في إعادة بناء الثقة بين هذين المكونين السوريين على قاعدة معاناتهم المشتركة من القهر والتمييز؟
واستدراكاً، من أين يمكن أن تستمد المعارضة الرضا والقبول الشعبيين، حين لا تنجح في إظهار نفسها كقدوة ومثلاً يُحتذى، وتنزلق جماعاتها إلى تنازع مفضوح على المناصب والامتيازات، أو حين تتصدر صفوفها ثلة ممن يفتقدون الحد المطلوب من المصداقية والكفاءة وبات دورهم يقتصر على إصدار البيانات وحضور الاجتماعات الرسمية، وتحفل أحاديثهم بسيل من الشتائم والتهم تصل إلى حد التخوين لقاء اختلاف سياسي هنا أو مزاحمة تنظيمية هناك؟
يتفهم السوريون أن ثمة مثالب وأمراضاً تعاني منها بعض جماعات المعارضة، جراء عقود من جور السلطة وظلمها وعنفها، وربما يتفهمون أن ثمة شروطاً موضوعية وتوازنات إقليمية ودولية صارت تتحكم في الوضع السوري ومسارات تطوره وهي تتحكم بالضرورة في الحقل المعارض، لكن أن تغدو المعارضة التي كانوا يتوخّون منها قيادتهم وتوجيههم، وبعد أكثر من عشر سنوات، عنواناً للعجز، بينما تتنامى حاجتهم لمعارضة تمثلهم وطنياً وتنتصر لهويتهم وحلمهم الديمقراطي، متحررةً من الإملاءات الخارجية، وتحنو على مختلف وجوه معاناتهم، وتأخذ بيدهم في هذا الوقت بالذات، الوقت الذي يئنّ فيه الوطن تحت وطأة الضياع والاحتلالات والشروخ المتخلفة، وتتعاظم معه شدة ما يكابده جميع السوريين أينما كانوا، من القهر والنبذ والتمييز، ومن شروط أمن وحياة لم تعد تطاق
----------
الشرق الاوسط.
علاوة على ما سبق يلحّ السؤال: أيُّ موقع يمكن أن تحتله المعارضة السياسية عند السوريين حين تبدو كأنها في وادٍ والمعاناة الشعبية في وادٍ آخر، وتعجز عن بناء قنوات للتواصل والتفاعل مع الناس ومدهم بأسباب الدعم، كما عن توظيف الجهد المطلوب لتنظيم الحياة في المناطق التي خرجت عن سيطرة السلطة؟ وأي قيمة يمكن أن تحوزها معارضة غضّت النظر عن قوى إسلاموية متطرفة نجحت في فرض وجودها على الأرض وخلق واقع اجتماعي يناهض الشعارات الوطنية والديمقراطية، أو حين يتمكن تنظيم الإخوان المسلمين من السيطرة على أهم مؤسساتها وفرض مواقف سياسية عليها تخدم التزامه الآيديولوجي على حساب الهم الوطني، فلا يتردد، مثلاً، تلبيةً لمصالح «إخوته في الدين»، في حضّها على تسعير العداء بين الكرد والعرب والتخلي عن مسؤوليتها الوطنية والأخلاقية في إعادة بناء الثقة بين هذين المكونين السوريين على قاعدة معاناتهم المشتركة من القهر والتمييز؟
واستدراكاً، من أين يمكن أن تستمد المعارضة الرضا والقبول الشعبيين، حين لا تنجح في إظهار نفسها كقدوة ومثلاً يُحتذى، وتنزلق جماعاتها إلى تنازع مفضوح على المناصب والامتيازات، أو حين تتصدر صفوفها ثلة ممن يفتقدون الحد المطلوب من المصداقية والكفاءة وبات دورهم يقتصر على إصدار البيانات وحضور الاجتماعات الرسمية، وتحفل أحاديثهم بسيل من الشتائم والتهم تصل إلى حد التخوين لقاء اختلاف سياسي هنا أو مزاحمة تنظيمية هناك؟
يتفهم السوريون أن ثمة مثالب وأمراضاً تعاني منها بعض جماعات المعارضة، جراء عقود من جور السلطة وظلمها وعنفها، وربما يتفهمون أن ثمة شروطاً موضوعية وتوازنات إقليمية ودولية صارت تتحكم في الوضع السوري ومسارات تطوره وهي تتحكم بالضرورة في الحقل المعارض، لكن أن تغدو المعارضة التي كانوا يتوخّون منها قيادتهم وتوجيههم، وبعد أكثر من عشر سنوات، عنواناً للعجز، بينما تتنامى حاجتهم لمعارضة تمثلهم وطنياً وتنتصر لهويتهم وحلمهم الديمقراطي، متحررةً من الإملاءات الخارجية، وتحنو على مختلف وجوه معاناتهم، وتأخذ بيدهم في هذا الوقت بالذات، الوقت الذي يئنّ فيه الوطن تحت وطأة الضياع والاحتلالات والشروخ المتخلفة، وتتعاظم معه شدة ما يكابده جميع السوريين أينما كانوا، من القهر والنبذ والتمييز، ومن شروط أمن وحياة لم تعد تطاق
----------
الشرق الاوسط.