لن تنسى أجيال من المستمعين السوريين صوت ضابط الشرطة في المسلسل يهدّد المتهم بإنزاله إلى «المساعد جميل» أي إلى قبو التعذيب، وانتهاء الحلقات باعتراف «المجرم» وبحكم تصدره المحكمة «حضوريا» باسم الشعب، بإعدام أو سجن المتهم.
يمكن اعتبار المسلسل تلخيصا فنيا لطبيعة النظام السياسيّ السوري برمّته، الذي، يشكل فيه «المساعد جميل» ونظراؤه المرعبون في أقبية فروع الأمن والمخابرات، الجذر الأساسي لعمل النظام، وما يحصل في مخافر الشرطة وقاعات المحاكم هو «حكم العدالة». حل «حكم العدالة» محل مسلسل بعنوان «الجريمة والعقاب» للكاتب نفسه، ويمكن اعتباره «اسما فنيا» لجغرافيا الإبادة الجماعية والثقافية للسوريين، التي تكثفت وتبلورت بعد عام 2011، كما يمكن اعتبار حفرة «حي التضامن» التي حفرتها عناصر المخابرات عام 2013 ليلقوا فيها رجالا ونساء جمعوهم جزافا على الحواجز، وحكموا عليهم بالإعدام دون أن يعرفوا السبب، ودون حتى لمساعدة «المساعد جميل» إحدى قاعات «حكم العدالة» الآنف الذكر!
لغز نعي المعارضة والنظام لـ«الآنسة منيرة»
بدأ السوريون نقاشا ضاريا حول وفاة منيرة قبيسي، مع تفاجؤ البعض من نعي شخصيات إسلامية معارضة لها، بالتزامن مع نعيها من قبل النظام. أشار الكاتب السوري محمد أمير ناشر النعم، إلى قلة المعلومات حول قبيسي وجماعتها وإلى أن «جل من نعاها لا يعرفونها أيضا. لم يلتقوا بها في يوم ما، ولم يجلسوا إليها ولم يسمعوا منها» وأنه لم يكن للسيدة المتوفاة «كتاب أو مقال يقرأونه، ولم يُؤثر عنها حتى سطر واحد أو درس أو حديث مسجل يُستمع إليه!». في غياب الكتاب والمقال والحديث المسجل لـ«الآنسة منيرة» كأدلة منطقية للنقاش أشار بعض الإسلاميين إلى ثمار الجماعة الظاهرية (وجود جماعة من آلاف الفتيات والنساء المحجبات) وهو ما رد عليه ناشر النعم بالإشارة إلى «الناجيات من شرنقة هذه الجماعة ممن يتحدثن عن الأثر السلبي السيئ الذي عانين منه، وكيف أنهن لم يستعدن توازنهن النفسي إلا بعد الانسحاب منها والانفكاك عنها».
يساهم معتز الخطيب، أستاذ فلسفة الأخلاق في جامعة حمد بن خليفة، «القبيسيات ونظام الأسد: من فضاء المنازل الى فضاء النظام» بإضافة بعض «المعلومات المتاحة» لتقديم قراءة مختلفة لظاهرة القبيسيات، تبدو أقرب لتفسير نعي الإسلاميين لها. يرى الخطيب أن الجزم بسردية واحدة عن منيرة القبيسي، وجماعتها، «أمر محلّ إشكال» ويفسّر ضرورة قراءة «الدليل» الذي استخدمه مجمل من انتقدوا منيرة القبيسي وجماعتها، بشكل أكثر عمقا، متوصلا إلى أن «صورة اجتماع وفد نسائي ببشار الأسد ووزير الأوقاف سنة 2012» كانت تمثل «تتويجا لسعي النظام إلى ضبط هذه الجماعة والتحكم فيها». تظهر الجماعة، ضمن المقال الآنف، موضوعة، بعد اندلاع الثورة عام 2011، تحت ضغوط سلطوية لتدجينها وتشغيلها تحت جناح النظام، مثل باقي الأفرع الدينية له، كجماعة كفتارو، ووزارة الأوقاف، وهو ما يظهرها، عمليا، بصورة الجماعة الدعوية الممانعة للتدجين. يشرح الخطيب أن الضغط تم عبر أربعة مسارات وتدرج من رسم صور سلبية لها من خلال الدراما السورية، وإرهاب زعيمتها باستدعائها أمنيا (قبل الثورة) وإجبارها على الخروج من المنازل إلى المساجد، وصولا إلى اغتيال إحدى «الآنسات» عام 2013، وسجن بعض أفراد الجماعة.
ما جرى للقبيسيات، حسب الرواية الآنفة، هو إنزالهن إلى قبو المساعد جميل، حيث خرجن جماعة جديدة مع إعلان ممثلته في الجماعة سلمى عياش، الحكم «حضوريا» بانتظام الجماعة ضمن أجهزة النظام. كان ما يحصل ثورة ضد النظام، ولم يعد هناك وقت جلد وصبر للنظام للتعامل مع الشكليات.
يحلل الخطيب «تقريرا مفصلا» في حوزته حول اللقاء الأول مع بشار الأسد، الذي حضرته «قبيسيات» عام 2012، ويعتبر أن ما جرى كان «استدراجا» للجماعة إلى جامع العثمان بحجة عقد لقاء إلزامي مع وزير الأوقاف، لمناقشة مسائل تتعلق بالمدارس الشرعية، ثم اختيار 80 من مديرات المدارس الشرعية وموظفات الأوقاف اللاتي حضرن لقاء مع بشار الأسد أبلغهن فيه أن لا رجعة عن الحل الأمني. عقب اجتماع آخر مع الأسد حضرته قبيسيات، عام 2014، تم تعيين سلمى عياش أخت زوجة وزير الأوقاف، والقيادية في الجماعة، في منصب معاون وزير الأوقاف، وهو ما اعتبر «رسالة صريحة ومباشرة عن العلاقة بين النظام والقبيسيات» و«انحيازا صريحا وعلنيا» و«مكافأة للجماعة» «التي تم تدجينها».
تكرر الظهور مع الأسد، وآخره كان عام 2022، لكن ثمة من رأى، مثل الشيخ أسامة الرفاعي، أن عياش مثلت انشقاقا داخل الجماعة. تحدثت عياش في كلمة في لقاء مع الأسد عام 2014 باسم «الدعوة النسائية» وأكد بيان لوزارة الأوقاف، عام 2018 عدم وجود تنظيم القبيسيات، فيما تحدث الأسد حينها عن «معلمات القرآن» وحسب الخطيب فقد أنهى النظام «الجماعة رسميا وشعبيا».
ما جرى للقبيسيات، حسب الرواية الآنفة، هو إنزالهن إلى قبو المساعد جميل، حيث خرجن جماعة جديدة مع إعلان ممثلته في الجماعة سلمى عياش، الحكم «حضوريا» بانتظام الجماعة ضمن أجهزة النظام. كان ما يحصل ثورة ضد النظام، ولم يعد هناك وقت جلد وصبر للنظام للتعامل مع الشكليات. الحجاب والمنازل أداتان للمقاومة، والرد هو بكشف الحجاب (وإن بطريقة مختلفة عما فعلته مظليات رفعت الأسد في ثمانينيات القرن الماضي) وبإخراج النسوة من منازلهن وعليه فقد صارت الجماعة «دعوة نسائية» تحت إشراف وزارة الأوقاف، وصار أعضاؤها «معلمات قرآن».
«حفظ النوع» في مواجهة الغزاة!
تمثّل الجماعة، التي نشأت عام 1960، في اعتقادي، رد فعل اجتماعي ديني ومناطقي على الدولة العسكرية ـ الأمنية، التي بدأت باستهداف الاجتماع المدني، وطبقاته العليا اقتصاديا وسياسيا، بدا ذلك نكوصا متدرجا لمواجهة غائلة كبرى، تمثلها الدولة التسلطية. الجماعة، بهذا المعنى، بدأت كمنظومة دفاع وصد أهلية، عبر نظام تحجّب جماعي، وعودة للمنازل. في ظل الدولة الشمولية، التي تحتكر الصعود السياسي والاجتماعي، يكون نظام الشبكات الأهلية، هو تنظيم دفاعي نكوصي. تنظيم يواجه عسكرة وأمننة الدولة وانتهاكها للضوابط الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بنظام رقابة وضبط وتبادل منافع نسوية واجتماعية. العلاقة بين الدائرتين هو ما يجمع أو يفرق نظام قهر عام مع منظومة ضبط وقهر خاصة. واضح أن النساء الدمشقيات اللاتي بدأن الحركة تعاطين مع الخبرة التاريخية المريرة للمدينة مع «الغزاة» فرقة «الآنسة منيرة» إحدى التعبيرات المعقدة عن هذا التاريخ وهو ما يجعلها تحمل الكثير من مفارقاته وتناقضاته، وهنا، وقبل أي اقتراحات سياسية للتفكير، يمكن التفكير في البيولوجيا، وقانون حفظ النوع. تبدو أدوات التحليل السياسي والفقهي غير كافية، وعليه يفترض الاستفادة أيضا من مناهج الأنثروبولوجيا، لفهم الدوائر المتداخلة بين الدعوي والسياسي والمناطقي، وكذلك علم الاجتماع النفسي، للسماح بدراسة طرق تشكل الجماعات النكوصية، في ظل الحاجة الاجتماعية الكبرى لمعنى (الدين ونظام الضبط الخاص).
حملت حركة النساء هذه معنى إيجابيا بطريقة ما، لأنها تنتزع المبادرة من الرجال، وتقوم بتنظيم «أخوية» نسوية أقرب للرهبنة، حيث تنذر «الآنسات» أنفسهن لتطبيق نظام الدفاع الذي اجترحنه، كما تحمل المعاني السلبية للعودة إلى الكهوف، وتطبيق التنميطات الطبقية والجندرية والمناطقية. ما نقرأه من تجارب «الناجيات» و«الناجين» من الجماعة الدعوية، لا يساعد، على أي حال، في التأسف على مآلها، وإن كان يؤكد خسارة طرق الدفاع الأهلية أمام توحش الدولة التسلطية. التأسف، واجب، مع ذلك، على عموم السوريين الذين خرجوا على النظام، لكنّهم لم يخرجوا من منطق «حكم العدالة» الأسدي، بعد.
كاتب من أسرة «القدس العربي»