.
1))
ما زلت أذكر هجرتي الأولى!
هل الذاكرة مضطربة، أم أن الأحداث تفرض عليها أن تنتقي ما يناسبها؛ فترفعها إلى سطحها، وأتخيل أنها أول ما لفت نظري في بلاد المهجر؟
مدهش أمر الإنسان هنا في الغرب، إذا ما مرَّ به في حياته اليومية ما لا يعجبه لا يدعه يمر، ولا يقول: “وما جدوى رأيي؟”، وإنما يبادر إلى فعلٍ ما، أي فعل، رسالة احتجاج، أو اتصال، أو تصرف ما، المهم أنه لن يدعه يمر.
ما فعلته الشيوعية والنظم الشمولية والديكتاتورية هي أنها حقرت من قيمة الإنسان، فرسخ في ذهنه أنه لا تأثير له مطلقًا، وإنما الأمر كله في أيدي السلطة، سواء الحاكم، أو حتى مسؤول البلدية، إنما هو -كشخص مؤثِّر- فلا وجود له، ولا قيمة له؛ هو كيان عاجز عن فعل أي شيء إلا بإذنٍ من السلطة، لذلك أندهشُ -وأنا ابن العالم الثالث- من حكاية روزا الشهيرة.
(2)
في مدينة مونتغمري تستقل السيدة السوداء الحافلة، وتجلس في الصف الأول من المقاعد الخلفية المخصصة للسود، إلى أن يصعد -لاحقًا- عدد من الركاب أصحاب البشرة البيضاء، فيتجه السائق إلى حيث تجلس روزا، ويحرِّك علامة المقطع المخصص للسود إلى الخلف؛ ويطالب روزا والركاب السود الثلاثة الجالسين بجانبها بالتخلي عن مقاعدهم، والعودة للوراء؛ حتى يتسنى للمسافرين البيض الجلوس، ينصاع الركاب الثلاث السود للأمر، إلا روزا فقد قرَّرت أن تقول: لا، وأن تفعل شيئًا ما، مؤمنة بأنها ليست عاجزة.
تُعتقل روزا، ينتشر الخبر بين ناسها، ويتضامن معها سود المدينة.
الحكاية طويلة جدًّا، لكن روزا تنجح في النهاية في إبطال القانون الذي يشرِّع الفصل العنصري في الحافلات العامة.
يقول مارتن لوثر كينغ في كتابه “خطوة نحو الحرية”: في الواقع، لا أحد يستطيع أن يفهم عمل السيدة روزا باركس ما لم يُدرك أن كأس التحمُّل تفيض في النهاية، وأن الطبيعة البشرية تصرخ: “لا أستطيع أن أتجرع المزيد من كأس الظلم”.
(3)
هل تعرف ما هي الأسئلة المحرَّمة؟!
في حياتنا تحديات عظيمة، لا أحد ينكرها، لكن الفكرة كلها أن تلك هي طبيعة الحياة، وأن هذه التحديات هي المحك، فلولاها لتساوى الجميع، ولأصبح بوسع الناس كلهم مقاومة أمراضهم وعللهم، ولحصلوا على أعلى الشهادات الجامعية، ولأتقنوا كل اللغات، ولجمعوا أكبر الثروات.
التحديات هي من طبائع الأشياء، من سنن الحياة، فماذا أنت فاعل في مواجهتها، هذا هو المحك، وصدقني: لا ينجو إلا مخلص.
ولذلك ثمة أسئلة محرَّمة، حرَّمها كل حرٍّ على نفسه، فعند الواجب لا يسأل نفسه: هل أفعل أم لا أفعل؟ وإنما يبادر إلى الفعل، لا يحسِب للأمر كثيرًا، يؤمن بنفسه، وفي قاموسه الحياتي لا يعرف كلمة: “العجز”، يعتبرها عذرًا يعتذر به الناس لأنفسهم؛ ليبرروا تقاعسهم.
ذاك الحر المخلص -عندما يباغته العدو- لا يسأل نفسه: هل بوسعي المقاومة أم لا؟
هذا سؤال لا يُثار من أساسه، وإنما يبادر إلى المقاومة، مهما كانت قوة خصمه، ومهما كانت قوته ضعيفة في مواجهتها، إنه يقاوم ولو -تطلب الأمر- بأظافره.
وهذا ما فعله الأحرار في فلسطين، حكايتهم -أيضًا- طويلة من الحجارة إلى الصواريخ.
(4)
نعم لا يعترف المخلص بالعجز.
خذ مثلاً عدوان الكيان على غزة، انقسم الناس المتضامنون والذين يعيشون خارج غزة إلى فريقين:
فريق يلتزم السكون والصمت.
يقول: نحن عاجزون لا حيلة لنا، وماذا عسانا أن نفعل؟
وفريق يواجه التحديات.
المخلص مبدع، يتحايل على كل المعوقات، يفكر خارج الصندوق، يخترع وسائل، ويبتكر طرقًا، إنه -كما قلت لك- مخلص، والمخلص يُختبر في المحنة، والمخلص ينجو.
(5)
المخلص ينجو من الطابور الخامس!
هذا الطابور هو أشد فتكًا من العدو نفسه؛ لأنه بين صفوفنا.
هو نفسه الذي قال يومًا: وما جدوى الحجارة؟ ثم لما أصبحت الحجارة صواريخ قال: وما جدوى هذه الصواريخ إنها أشبه بلعب الأطفال؟ ثم كبرت الصواريخ فأصبحت تدك المدن.
المحبِّط -ابن الطابور الخامس- يقول لك ساخرًا: أنت مجاهد الكيبورد، تجلس في بيتك، في منطقة راحتك، تكتب وتحث الناس على المقاومة.
نعم، أنا في بيتي، ولكن قلبي هناك، وأفعل ما في وسعي، دلني أنت ماذا تفعل غير تثبيط همَّتي؟!
المخلص يؤمن بقيمة الفعل مهما صغر، يدرك أن الكلمة تلو الكلمة تصحِّح المفاهيم، وتعدِّل المسار، تنصح، وتوحِّد، وتسد الفُرَج.
لا تحقروا من الأعمال الصغيرة أو البسيطة شيئًا؛ فهي أفضل من الوقوع في خطيئة السكون.
(6)
لا أحد يطلب من حاملي بنادقهم -للدفاع عن عائلاتهم وبيوتهم- أن يتركوها ويتوجهوا للرأي العام، لكن أنت -أيها المخلص، الذي يعيش بعيدًا عن هذه المأساة الجارية، ولا يستطيع أن يشاركهم الدفاع عن بيوتهم، أو يضمد جريحًا، أو يدفن شهيدًا- ماذا تفعل بربك إذن؟
لا تستهن بنفسك أبدًا، ولا بقدراتك التي سوف يحاسبك الله -تعالى- أنه منحك إياها ولم تنصر بها مظلومًا.
ليس بالضرورة أن تكون كاتبًا أو صحفيًّا أو فنانًا.
لماذا نستطيع أن نعبِّر عن أنفسنا على منصات التواصل، وعند الجد ندَّعي أننا لسنا بكتَّاب أو مؤلفين؟
اكتب بالعربية، بالعامية، مهما كان أسلوبك، ومهما كانت طريقتك.
اكتب لهؤلاء الذين نسميهم: الرأي العام العالمي، يسمع لك أو لا يسمع لك، افعل أنت ما في وسعك، شارك بكلمتك، ولا تعبأ إن كانت تؤثِّر أم لا، افعل ما يمليه عليك ضميرك، ناشد العالم؛ فإن فيه عقلاء وأحرارًا وراشدين، ساسة وكتَّابًا وفنانين.
سوف تندم عندما تنقلب كل هذه الأمور لصالح الحق، وسوف تنقلب بإذن الله، وعندها تكتشف أنك كنت من القاعدين.
(7)
كل الذين انتصروا هم الذين لم يعترفوا بالعجز.
لم يعترفوا بعذر “المستحيل”.
بل استهزؤوا به.
أنت كثير ولو كنت وحدك.
فاحترس من الذين انتصروا؛ فقد أسقطوا عذرك.
ولذلك يحق لهم أن يحاسبوك يوم النصر أنك لم تفعل شيئًا.
أنت في ظهورهم، فلا تخنهم.
ما زلت أذكر هجرتي الأولى!
هل الذاكرة مضطربة، أم أن الأحداث تفرض عليها أن تنتقي ما يناسبها؛ فترفعها إلى سطحها، وأتخيل أنها أول ما لفت نظري في بلاد المهجر؟
مدهش أمر الإنسان هنا في الغرب، إذا ما مرَّ به في حياته اليومية ما لا يعجبه لا يدعه يمر، ولا يقول: “وما جدوى رأيي؟”، وإنما يبادر إلى فعلٍ ما، أي فعل، رسالة احتجاج، أو اتصال، أو تصرف ما، المهم أنه لن يدعه يمر.
ما فعلته الشيوعية والنظم الشمولية والديكتاتورية هي أنها حقرت من قيمة الإنسان، فرسخ في ذهنه أنه لا تأثير له مطلقًا، وإنما الأمر كله في أيدي السلطة، سواء الحاكم، أو حتى مسؤول البلدية، إنما هو -كشخص مؤثِّر- فلا وجود له، ولا قيمة له؛ هو كيان عاجز عن فعل أي شيء إلا بإذنٍ من السلطة، لذلك أندهشُ -وأنا ابن العالم الثالث- من حكاية روزا الشهيرة.
(2)
في مدينة مونتغمري تستقل السيدة السوداء الحافلة، وتجلس في الصف الأول من المقاعد الخلفية المخصصة للسود، إلى أن يصعد -لاحقًا- عدد من الركاب أصحاب البشرة البيضاء، فيتجه السائق إلى حيث تجلس روزا، ويحرِّك علامة المقطع المخصص للسود إلى الخلف؛ ويطالب روزا والركاب السود الثلاثة الجالسين بجانبها بالتخلي عن مقاعدهم، والعودة للوراء؛ حتى يتسنى للمسافرين البيض الجلوس، ينصاع الركاب الثلاث السود للأمر، إلا روزا فقد قرَّرت أن تقول: لا، وأن تفعل شيئًا ما، مؤمنة بأنها ليست عاجزة.
تُعتقل روزا، ينتشر الخبر بين ناسها، ويتضامن معها سود المدينة.
الحكاية طويلة جدًّا، لكن روزا تنجح في النهاية في إبطال القانون الذي يشرِّع الفصل العنصري في الحافلات العامة.
يقول مارتن لوثر كينغ في كتابه “خطوة نحو الحرية”: في الواقع، لا أحد يستطيع أن يفهم عمل السيدة روزا باركس ما لم يُدرك أن كأس التحمُّل تفيض في النهاية، وأن الطبيعة البشرية تصرخ: “لا أستطيع أن أتجرع المزيد من كأس الظلم”.
(3)
هل تعرف ما هي الأسئلة المحرَّمة؟!
في حياتنا تحديات عظيمة، لا أحد ينكرها، لكن الفكرة كلها أن تلك هي طبيعة الحياة، وأن هذه التحديات هي المحك، فلولاها لتساوى الجميع، ولأصبح بوسع الناس كلهم مقاومة أمراضهم وعللهم، ولحصلوا على أعلى الشهادات الجامعية، ولأتقنوا كل اللغات، ولجمعوا أكبر الثروات.
التحديات هي من طبائع الأشياء، من سنن الحياة، فماذا أنت فاعل في مواجهتها، هذا هو المحك، وصدقني: لا ينجو إلا مخلص.
ولذلك ثمة أسئلة محرَّمة، حرَّمها كل حرٍّ على نفسه، فعند الواجب لا يسأل نفسه: هل أفعل أم لا أفعل؟ وإنما يبادر إلى الفعل، لا يحسِب للأمر كثيرًا، يؤمن بنفسه، وفي قاموسه الحياتي لا يعرف كلمة: “العجز”، يعتبرها عذرًا يعتذر به الناس لأنفسهم؛ ليبرروا تقاعسهم.
ذاك الحر المخلص -عندما يباغته العدو- لا يسأل نفسه: هل بوسعي المقاومة أم لا؟
هذا سؤال لا يُثار من أساسه، وإنما يبادر إلى المقاومة، مهما كانت قوة خصمه، ومهما كانت قوته ضعيفة في مواجهتها، إنه يقاوم ولو -تطلب الأمر- بأظافره.
وهذا ما فعله الأحرار في فلسطين، حكايتهم -أيضًا- طويلة من الحجارة إلى الصواريخ.
(4)
نعم لا يعترف المخلص بالعجز.
خذ مثلاً عدوان الكيان على غزة، انقسم الناس المتضامنون والذين يعيشون خارج غزة إلى فريقين:
فريق يلتزم السكون والصمت.
يقول: نحن عاجزون لا حيلة لنا، وماذا عسانا أن نفعل؟
وفريق يواجه التحديات.
المخلص مبدع، يتحايل على كل المعوقات، يفكر خارج الصندوق، يخترع وسائل، ويبتكر طرقًا، إنه -كما قلت لك- مخلص، والمخلص يُختبر في المحنة، والمخلص ينجو.
(5)
المخلص ينجو من الطابور الخامس!
هذا الطابور هو أشد فتكًا من العدو نفسه؛ لأنه بين صفوفنا.
هو نفسه الذي قال يومًا: وما جدوى الحجارة؟ ثم لما أصبحت الحجارة صواريخ قال: وما جدوى هذه الصواريخ إنها أشبه بلعب الأطفال؟ ثم كبرت الصواريخ فأصبحت تدك المدن.
المحبِّط -ابن الطابور الخامس- يقول لك ساخرًا: أنت مجاهد الكيبورد، تجلس في بيتك، في منطقة راحتك، تكتب وتحث الناس على المقاومة.
نعم، أنا في بيتي، ولكن قلبي هناك، وأفعل ما في وسعي، دلني أنت ماذا تفعل غير تثبيط همَّتي؟!
المخلص يؤمن بقيمة الفعل مهما صغر، يدرك أن الكلمة تلو الكلمة تصحِّح المفاهيم، وتعدِّل المسار، تنصح، وتوحِّد، وتسد الفُرَج.
لا تحقروا من الأعمال الصغيرة أو البسيطة شيئًا؛ فهي أفضل من الوقوع في خطيئة السكون.
(6)
لا أحد يطلب من حاملي بنادقهم -للدفاع عن عائلاتهم وبيوتهم- أن يتركوها ويتوجهوا للرأي العام، لكن أنت -أيها المخلص، الذي يعيش بعيدًا عن هذه المأساة الجارية، ولا يستطيع أن يشاركهم الدفاع عن بيوتهم، أو يضمد جريحًا، أو يدفن شهيدًا- ماذا تفعل بربك إذن؟
لا تستهن بنفسك أبدًا، ولا بقدراتك التي سوف يحاسبك الله -تعالى- أنه منحك إياها ولم تنصر بها مظلومًا.
ليس بالضرورة أن تكون كاتبًا أو صحفيًّا أو فنانًا.
لماذا نستطيع أن نعبِّر عن أنفسنا على منصات التواصل، وعند الجد ندَّعي أننا لسنا بكتَّاب أو مؤلفين؟
اكتب بالعربية، بالعامية، مهما كان أسلوبك، ومهما كانت طريقتك.
اكتب لهؤلاء الذين نسميهم: الرأي العام العالمي، يسمع لك أو لا يسمع لك، افعل أنت ما في وسعك، شارك بكلمتك، ولا تعبأ إن كانت تؤثِّر أم لا، افعل ما يمليه عليك ضميرك، ناشد العالم؛ فإن فيه عقلاء وأحرارًا وراشدين، ساسة وكتَّابًا وفنانين.
سوف تندم عندما تنقلب كل هذه الأمور لصالح الحق، وسوف تنقلب بإذن الله، وعندها تكتشف أنك كنت من القاعدين.
(7)
كل الذين انتصروا هم الذين لم يعترفوا بالعجز.
لم يعترفوا بعذر “المستحيل”.
بل استهزؤوا به.
أنت كثير ولو كنت وحدك.
فاحترس من الذين انتصروا؛ فقد أسقطوا عذرك.
ولذلك يحق لهم أن يحاسبوك يوم النصر أنك لم تفعل شيئًا.
أنت في ظهورهم، فلا تخنهم.