نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

المهمة الفاشلة لهوكستين

23/11/2024 - حازم الأمين

العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب

17/11/2024 - العميد الركن مصطفى الشيخ

إنّه سلام ما بعده سلام!

17/11/2024 - سمير التقي

( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )

13/11/2024 - عبد الباسط سيدا*

طرابلس "المضطهدة" بين زمنين

13/11/2024 - د.محيي الدين اللاذقاني

اليونيسيف ومافيا آل كابوني دمشق

12/11/2024 - عبد الناصر حوشان


المتصوف اللغز ....الحلاج بين القرامطة والمتصوفين




محاضرة غريبة القيت بالبحرين ودراسة اكاديمية أكثر غرابة تحاولان حل لغز الحلاج والاجابة عن سؤال شغل المؤرخين والمتصوفين معا فهل كان الحسين بن منصور الحلاج صوفيا زاهدا متعبدا ؟ أم كان قرمطيا صاحب مشروع سياسي أشرك فيه الحسين بن حمدان أقوى قادة الدولة العباسية قبل تشرذمها في عهد المعتصم وفقدان هيبتها في عهد من أتى بعده


في مرحلة الاعداد لهذه المحاضرة والاستعداد للقدوم الى بلاد كانت ذات يوم قلعة من قلاع القرامطة سألت نفسي :
لماذا الحلاج وفي هذا التوقيت بالذات ....؟
ولماذا القرامطة والمتصوفة في عصرحديث لا يشكومن قلة في حركات الاسلام السياسي ولا من نقص في التطرف المعاصر ....؟
وقبل أن اوغل في أسئلة أكثر تعقيدا عن هذه الظواهر الفكرية والسياسية التي حيرت وأرعبت العالم القديم بمقدار ما ترهب عصرنا وتفزعه لاحظت ان أزمة الاسلام السياسي وحركاته العرفانية والتنويرية والمسلحة تجدد نفسها في كل عصر دون أن تغيرجوهرها وأن عدة أشخاص فقط بين مئات وألوف من المقاتلين والشعراء والمفكرين يخترقون حجب الزمن و يحتفظون بقدرتهم على التأثير المستمر والحلاج قطعا بين هذه النخبة المختارةالتي تصنع بعذاباتها وتمردها وكتاباتها خطا فكريا يساعد البشرية باستمرار على تغيير عالمها الملئ بالظلم والفساد والكراهية الى آخرأكثر عدلا وحرية وأمانا وتسامحا ومحبة .
حين نتحدث عن الاسلام السياسي يفترض ان نكون مستعدين لازاحة قناع القداسة الذي نلحقه بالعقيدة لأننا لانتحدث في هذا المجال عن العقائد بكل زخمها النوراني وروحانيتها بقدر ما نحكي عنها بعد أن خسرت أجمل ما فيها وتحولت الى أداة سياسية يتم تسخيرها في خدمة بعض أصحاب الطموحات السلطوية والمادية الذين ينظرون الى الدين من زاوية مصالحهم وطموحاتهم التي ينقصها في الاغلب الأعم الاخلاص للعقيدة وتفتقر في معظم الاحيان الى نبل المقصد وشمولية الرؤية .
مع ظاهرة الاسلام السياسي بحركاته المتطرفة والهروبية والعرفانية نحن أمام مسألة أرضية بحتة وفي مواجهة – ان جاز التعبير – مسرحية شديدة الواقعية تتكرر في كل زمان ومكان بوجوه معروفة ومألوفة وبـأدوار يمكن معرفة ما سيقوله أبطالها سلفا لكثرة تكرار ظهورهم على مسرح التاريخ بأسماء مختلفة ومتعددة وحقيقية وأحيانا حركية حين يتعلق الأمر بشخصيات تغييرية وتنويرية تسبق زمنها .
الحلاج نفسه كما ورد في رسالة ابن زنجي التي حققها ماسينيون مع ثلاث رسائل أخرى كان يعرف مع اسمه الحسين بالمغيث والمقيت وابي عمارة وحلاج الاسراروأبي عبدالله الزاهد -1- بالاضافة الى ألقابه الصوفية الكثيرة وأشهرها سلطان الملامتين والسيد الغريب فنحن هنامع الحلاج وغيره من الشخصيات الملتبسة المؤثرة التي تقفز من عالم التاريخ الضيق الى فضاء الاسطورة الرحب أمام ظاهرة تتداخل فيها الرواية التاريخية بالحس الشعبي والتراكمات الزمنية الى درجة يكاد فيها الاصل يختفي جزئيا وأحيانا كليا تحت ركام التفسيرات والاحالات والرموز.
في ذلك العرض المستمرلحيوات يقاربها الفن ويلونها التاريخ وتجملها الاسطورة تزداد عوامل الأثارة في السرد وتبلغ ذروتها في العصور القلقة و خلال سنوات الأزمات الأقتصادية والسياسية والاجتماعية الطاحنةالتي يقال فيها كلام خطير ويتم ترديد شعارات كثيرة وتتسارع الأحداث كما يحدث في المسرحيات ذات الحبكة المتقنة ثم يتوقف الضجيج وينجلي الغبار كما علمنا التاريخ - ذلك المعلم المراوغ -عن الثالوث الدائم الذي يخرج منتصرا في أعقاب تلك الأزمات والمكون عادة من سياسي طموح يتربع على عرش الحكم وتاجر ثري يمارس نفوذه من خلف الستار وفقيه ضخم العمامة أو متوسطها يبيع جهده للاثنين ويكمل معهما الزاوية الثالثة من تلك التركيبة السرية - العلنية للسلطة في العالم الاسلامي .
تلك التركيبة غيرالعادلة ولا المقبولة في زمانناوالأزمنة كلها حاول الحلاج تغييرها بقوة السلاح والانقلابات فلما فشل أتجه للعمل التنويري الذي سيتسلم رايته بعده أخوان الصفا الذين انحدروا من الارومة العقائدية ذاتها وفشلوا كالقرامطة أيضا في تغيير مجتمعاتهم تحت ظلال السيوف التي يذكرنا الشهرستاني بها على الدوام فهوالذي قال قبل بضعة قرون في (الملل والنحل)أنه( ما سل في الاسلام سيف قط كما سل في مسألة الامامة) وهذا قول تسهل ترجمته عصريا الى أنه ما أريق في العالمين العربي والاسلامي دم ولا هدرت أحلام في سبيل التغيير كما هدرت في الصراع على السلطة والمشكلة في تلك السيوف التي ما تزال تسل الى يومنا هذا أنها غالبا ما تخطئ هدفها وتجلب الخراب للذين تسل من أجلهم .
ان خطورة هذه الظاهرة التي شهدنا تكرارها على مر العصورتزداد بشكل مطرد في الحقب التي تشهد تمايزا طبقيا واجتماعيا ملحوظا فالأسباب التي قاتل من أجلها فقراء بني عقيل في القرن الثاني والثالث حين كانوا يحاربون وهم يهزجون بقول شاعرهم :

عليك ثوبان وأمي عارية فالق لي ثوبك يابن الزانية
هي تقريبا ذات الأسباب التي تحرك الصراعات المعاصرة فحملة رايات التغيير في العالم الاسلامي وغيره يلاحظون ازدياد الفجوة يوميا بين شمال غني مسيطر يكاد يتحكم بكل شئ وجنوب فقير متعثر لم يبق له غير الخروج في طلب المساواة الجزئية بأي ثمن لتحقيق بعض التوازن .
لقد انطلقت الحركتان القرمطية والصوفية من ظروف متشابهة وحاولتا تطوير بعض أشكال العدالة الاجتماعية وطرحتا مسألة تحرير الانسان من الحاجة والاستعباد وفي ما ركز القرامطة بعد أن صارت لهم دولة في البحرين وأخرى في اليمن على المساواة الاقتصادية وتوزيع الثروات بدأ المتصوفة يطورون بشكل منفصل مقولات الحرية والتفهم والنهوض بالكائن ووعيه الكوني وكان لهذا المنحى أثره لاحقا في تطوير أفكار التسامح الديني التي بلغت ذروتها في عصر محيي الدين بن عربي أما في عصر الحلاج فقد كان التصوف مخلصا لجذوره الأولى كحركة اجتماعية ذات أهداف سياسية .
وهنا لابد من الاشارة الى ان كثيرين يرفضون تسييس التصوف بحجة الحفاظ على نقاوة التجربة الروحية وسموها لكن هذه المواقف حسب ما سنطلع عليه من تجربة الحلاج تحتاج الى اعادة نظر.
وقد اخترت أن أدخل الى أزمة الاسلام السياسي المتجددة من خلال حركتي القرامطة والمتصوفة لأن الحركتين تمثلان حسب اعتقتدي أسطع مثالين لنجاح السياسي في شق صفوف الأمة وتقسيمها باسم العقيدة الى جناحين رئيسيين أولهما يلجأ الى التطرف والعنف والثاني يستكين ويوجه طاقاته الى مسارب غيبية باحثا عن حلول المشاكل الأرضية فوق السديم .
ان الحلاج هو صلة الوصل المفقودة بين القرامطة والمتصوفين فالأدلة التاريخية التي تشير الى قرمطيته أكثر من تلك التي تؤكد تصوفه دون أن يمنع ذلك ضلوعه في الحركتين ولعلنا نستطيع اعتبار الحلاج دون مبالغة
من أذكى ظواهر الاسلام السياسي فقد كان قرمطيا وصاحب تأثير على جماعات كثيرة من المتصوفة ووصل بنفوذه الى العباسيين واستطاع وهو سجينهم لسنوات تسع أن يتلاعب بهم ويتآمر عليهم من خلال نفوذه الطاغي على الأرملة القوية أم الخليفة المقتدر على النحو الذي يذكرنا بالدور الذي لعبه راسبوتين في بلاط القياصرة .
وقبل هذه التفاصيل التي قادت الى النهاية الدموية الحلاجية المعروفة من جلد وتقطيع وصلب- تماما كما كان يحصل مع اسرى القرامطة - لابد أن نلاحظ أن المتصوفة بسلبيتهم وموالدهم وعدميتهم كما نعرفها اليوم ظاهرة استغرقت قرونا من التحولات قبل ان تستوي على شكلها الحالي فهم لم يكونوا كذلك في بداية نشأتهم ولا في أيام الحلاج فحركة التصوف الاسلامي تعرضت الى اضطهاد فظيع قبل أن تتحول الى فئة شبه مقبولة من المؤسستين العسكرية والسياسية أما المؤسسة الدينية بمذاهبها الرئيسية فقد ظلت تنظر الى المتصوفة باستخفاف بعد التحولات السلبية التي حصلت بين صفوفهم فالامام الشافعي قال عن الصوفيين نيابة عن أهل السنة ( لو أن رجلا تصوف أول النهار لا يأتي الظهر حتى يصير أحمق وما لزم أحد الصوفية فعاد اليه عقله أبدا ) والامام الرضا وهو من معتدلة الشيعة يؤثر عنه قوله ( لا يقول بالتصوف أحد الا لخدعة أو ضلالة أو حماقة واما من سمي صوفيا للتقية فلا اثم عليه ) -2- .
والسؤال هنا لو كان المتصوفة بهذا الهوان وقلة الشأن فلماذا تجند الخلافة العباسية كل طاقاتها لمحاربتهم والفتك برموزهم في عصر كان يغلي بالقلق والفتن وملئ بالاضطرابات المسلحة التي كان يفترض أن يكون لها أولوية على اعلان الحرب ضد المتصوفة الحمقى ...؟ .
ان مهادنة المتصوفة لم تبدأ بالتحول الى سياسة رسمية الا بعد أن نجحت الدولة العباسية في القضاء على كافة أشكال الحركات الصوفية المتمردة
فقد بدأ التصوف الاسلامي رافضا متمردا مشغولا بالهم الأرضي ومشاركا في الحركات السياسية الداعية للتغيير لكن هذه الصورة عن التصوف السياسي لانكاد نراها الا بصعوبة قديما وحديثا فأغلب كتب الصوفية والدراسات والابحاث الخاصة بهم تركز على عرفانيتهم وسلبيتهم وانسحابيتهم وهروبهم من الحياة العامة التي كانوا في يوم من الأيام في قلبها ومركزها .
انه ليس من قبيل الصدفة أبدا أن تكون أول فرقة تحمل اسم المتصوفة من الذين يعارضون السلطان في أمره وهم جماعة عبدك الصوفي الذين ثاروا بالاسكندرية سنة 199للهجرة -3- ولم يكن جزافا أن يتهم أبو هاشم الكوفي أول صوفي في التاريخ الاسلامي بفساد العقيدة وسوء المذهب والابتداع فهذه الحركات كانت محسوبة منذ بداياتها على تيارات التمرد والرفض والشغب تماما كما كان الحال مع القرامطة .
في زمن الحلاج لم يكن التصوف قد تحول الى رقص وصحبة غلمان ولا الى تمجيد للفقر والحزن ولم يكن المتصوفة في ذلك الوقت قد بدأوا بتصديق الأحاديث الموضوعة التي تعدهم بنعيم الآخرة قبل الأغنياء كذلك الحديث العجيب الذي يرد في الرسالة القشيرية ( يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام ونصف يوم ) - 4- لماذا هذا النصف يوم ....؟ لا أحد يدري غير الذين أخفوا الجذور التمردية الأولى للتصوف الاسلامي وساعدوا على عزله عن التيار العام للحركات المسيسة التي عملت من أجل احداث تغييرات جذرية في بنية مجتمعاتها .
لقد ارتبط التصوف دوما بالجياع والفئات المحرومة التي ترتبط مصالحها في العصور كلها بالتمرد على الأوضاع القائمة وكان منتشرا في بداياته بين الفئات الشعبية من عمال الريف وحرفيي المدن واذا أدركنا أن هذه الفئات هي التي أمدت الحركة القرمطية بكوادرها الأساسية سهل علينا أن نتبين الصلة بين الحركتين وخصوصا في الكوفة والبصرة مهد التشيع ومهد التصوف حيث اقترنت الظاهرتان وتطورتا معا منذ منتصف القرن الثاني الهجري .
وكان المتصوفة قبل أن يتحولوا الى مجموعات من الزهاد والتائهين والممسوسين قد نجحوا في خلق حالة رعب حقيقية للدولة على الصعيد الفكري ولو وقفنا عند فكر المتصوفة الأوائل لهالنا أن نرى أنهم كانوا أكثر خطرا عليها من قوة القرامطة المسلحة لأن استبدل العقائد الملزمة للجميع بعلاقة ذاتية قائمة على التأويل الفردي للايمان يسقط الاعتراف بسلطة الخليفة وامامته وبما أن عقيدة الحلول ترفع الصوفي المجتهد مرتبة فوق البشر فانه يصبح أعلى مرتبة من ظل الله على الأرض الذي هو الخليفة ومع الايغال بالتأويل الصوفي يلغى حكما دور الوسيط ويصبح الخليفة كالامام شيئا زائدا عن الحاجة داخل المنظومة الفكرية والعقائدية .
وقد أدرك الخلفاء العباسيون خطورة هذا الطرح النظري سياسيا وخافوا أن يتحول أصحابه الى فرقة ذات تأثير فقمعوا المتصوفة المتمردين كالحلاج والشبلي وشجعوا تصوف الجنيد الذي كان كما يقال أبدن من وقعت عليه عين ومع ذلك فقد كان يدعي الجوع والاعراض عن الدنيا والجنيد صاحب هذا الشحم التاريخي هو رائد المتصوفة الذين انسحبوا من المواجهة بحثا عن الخلاص الفردي وقد وجدت الدولة فيه وفي جماعته ضالتها المنشودة لنسف توجهات التصوف المتمرد فأنفقت على تلك الجماعات بسخاء ليزداد شحمها وانقطاعها عن الحياة العامة وهذا ما رفضه المتصوفون المتمردون الذين فهموا التصوف فتوة وشهامة ومروءة وتقوى ودفاع عن البسطاء والمحرومبين وصفات نبيلة أخرى عددها طاووس الفقراء في قصيدة ذائعة بين متصوفة ذاك الزمان تنسب خطأ للحلاج :
ليس التصوف حيلة وتكلفا
وتقشفا وتواجدا بصياح

بل عفة ومروءة وفتوة
وقناعة وطهارة بصلاح
تاء التقى صاد الصفاواوالوفا
فاء الفتوة فاغتنم يا صاح
وقد كتب الحسين بن منصور طاسين (الأزل والالتباس ) للافتخار بمقام الفتوة الرفيع الذي يحمل معاني الرفض والتمرد والدفاع عن المظلومين و كي نعرف اختلاف الحلاج عن متصوفة الجنيد الذين كانت تعلفهم الدولة جيدا لابد أن نتذكر أن الحسين بن منصور رفض اسلوب الاستكانة ورمى الخرقة التي كان يمنحها الشيوخ للمريدين وأحرج الجنيد زعيم تيار المستكينين في مسائل كثيرة ورفض أن يتبع أسلوبهم وقال عن تلك القطيعة كلمته الفاصلة : (منزلة الرجال تعطى ولا تتعاطى) -5- .
ان اثبات قرمطية الحلاج ليس بتلك الصعوبة التي أوحى بها ماسينيون في حديثه عن عذابات الحلاج ولو بحث جيدا لوجد نص قرمطية الحلاج في خمسة كتب تراثية أساسية جميعها لمؤرخين ومفسرين معروفين فهويرد عند العيني في ( عقد الجمان )وعند ابن الجوزي في ( المنتظم .... ) وعندابن كثير في ( البداية والنهاية ) وعند ابن تغري بردي في ( النجوم الزاهرة .....) وعند عريب بن سعد القرطبي في ( الصلة...) وهؤلاء من مختلف المشارب والميول وهم موزعون تاريخيا بين من عاصر الحدث كابن سعد القرطبي مؤلف (صلة تاريخ الطبري ) وبين من كان بينه وبين صلب الحلاج ثلاثة قرون كمؤلف النجوم الزاهرة .
في كتاب المؤرخ المعاصر للحدث يرد نص قرمطية الحلاج عل الشكل التالي :( وقبض بالسوس على الحسين بن منصور الحلاج ...وأخذت له كتب ورقاع فيها أشياء مرموزة ثم حمل الى مدينة السلام على جمل ومعه غلام على جمل آخر مشتهرين ونودي عليه هذا أحد دعاة القرامطة فاعرفوه ) - 6- .
ولا يختلف نص ابن تغري بردي المتأخر عن نص القرطبي المتقدم فتحت أحداث عام 301 للهجرة يقول مؤلف النجوم الزاهرة :( وفي يوم الأثنين سادس شهر ربيع الأول أدخل الحسين بن منصور المعروف بالحلاج مشهرا على جمل الى بغداد وصلب وهو حي بالجانب الغربي وعليه جبة عودية ونودي عليه هذا احد دعاة القرامطة ثم أنزلوه وحبس وحده في دار ورمي بعظائم ) - 7-.
ولم يتعرض ماسينيون لبعض هذه النصوص وربما لم يطلع عليها لكن لو فعل فلن تتغير الأمور كثيرا لأنه منذ البداية رفض أن يصدق أن شاعره المفضل يمكن أن ينتسب الى حركة ( غوغاء ) كالقرامطة وهنا يلعب الفهم النخبوي دوره في توجيه مسار البحث فاذا أضيف الى ذلك اصرار ماسينيون وجملة من المستشرقين على دراسة التصوف الاسلامي كامتداد للتصوف المسيحي ندرك لماذا لم يأخذ التصوف السياسي المتمرد حقه من البحث عند الغربيين ولماذا تم اهمال هذا المنحى عند الشرقيين الذين صاروا عالة على المستشرقين في الكثير من مسائل البحث العلمي .
لأمر يصعب اثباته أعتقد لوي ماسينيون ابرز رائد في مجال الدراسات الحلاجية ان اتهام الحلاج بالانتساب للقرامطة كان مؤامرة من مؤنس الخادم قائد المقتدر مع ان اسم ذلك القائد لم يرد في محاكمة الحلاج التي استغرقت سبعة أشهر ولا في أخبار سجنه الذي استغرق تسع سنين .
لقد ألقي القبض على الحلاج عام 301 وحوكم مرة أخرى عام 309 للهجرة وخلال تلك السنوات الطوال كان تحت حماية أم الخليفة السيدة شغب و حاجبه نصر القشوري الذي عزله تكريما له عن بقية السجناء وأقام له منزلا خاصا جانب السجن كان يزوره فيه أصحابه وأعوانه وخلال فترة سجن الحلاج أقتحم العامة السجن وحرروا جميع السجناء لكن الحلاج وعلى نحو يذكرنا بالفيلسوف الأغريقي سقراط مع تلاميذه رفض أن يهرب تحت الحاح مريديه ولماذا يهرب أصلا وكبار رجال الدولة يخدمونه ويتقربون اليه في سجنه وأبرزهم أم الخليفة و الرجل الذي لا يدخل أحد على الخليفة الا باذنه .
الحلاج لم يتهم بالقرمطة في محاكمته الثانية بعد سجنه الطويل أنما أدين بتهم الزندقة وسوء المعتقد وكان أول من أشاع عنه تلك الأراجيف الفقيه الظاهري محمد بن داوودالذي كان يكتب عن المحبة بيد ويزرع بالاخرى بذور الكراهية وتلاه في حملة التشنيع أبو علي الاوراجي الرجل الذي سيقدم لاحقا المتنبي الى بدر بن عمار في طبرية وكانت تهمة القرمطة كما هو معروف قد ألصقت بالمتنبي أيضا .
ولعل محاكمة الحلاج التي شهدت الكثير من التزوير والترهيب والترغيب وشهود الزور من الوثائق النادرة التي توضح طريقة استغلال الدين لتحقيق الأهداف السياسية في الدول التي يتبادل فيها لحاكم المنافع مع رجال الدين فيشارك الطرفان في الزج بالعقيدة أثناء أي خلاف سياسي لا علاقة له بالعقائد ويتم التباري في تقديم شهود الزور الذين كان منهم في محاكمة سلطان الملامتين84 شاهدا جمعهم عبدالله بن مكرم الذي كان متعهدا لشهود الزور كما يبدو وقد حصل على مكافأته بعد اعدام الضحية فتم تعيينه في منصب فخري بقضاء الفسطاط ليواصل تقديم خدماته للعدالة .
لقد عقدت تلك المحكمة بناء على طلب الوزير حامد بن العباس برئاسة قاضي قضاة المذهب المالكي أبي عمر الحمادي وهذا أختيار له أسبابه الواضحة فالمالكية لا تجيز توبة من يتهم بالزندقة وسوء المعتقد وهذا ما يفسر استمرارالجلسات لعدة اشهر بالرغم من ان الحلاج كا يؤتى به يوميا من سجنه فيقول على الملأ انه مسلم موحد وينطق بالشهادتين دون جدوى . وقدانضم الى هيئة المحكمة القاضيان الحنفيان أبو جعفر البهلول وأبو الحسين الاشنائي وهما يمثلان رصافة بغداد وكرخهاولم يحضر المحاكمة قضاة الشافعية والحنابلة لأن الوزير الذي جهز الحكم في رأسه سلفا كان يعرف أنهم من أنصار الحلاج وأن حضورهم سيمنع الصول الى النتيجة المتفق عليها بين الوزير وقضاته المطواعين قبل أن تبدأ الجلسة الأولى في تلك المحاكمةالغريبة التي شهدت كما اسلفنا أكبر عدد من شهود الزور أبرزهم بنت السمري التي زعمت في شهادتها المحفوظة في تاريخ بغداد-8- ان الحلاج غشيها دون ان يكون بينهما عقد زواج ثم زوجها من ابنه وان ابنته كانت تطلب منها ان تسجد لأبيها وما الى ذلك من اتهامات مربكة صدرت عن الشاهدة التي كانت تقيم أثناء المحاكمة في دار الوزير الذي يتعجل ادانة المتهم بالسبل كلهامدفوعا بتأثير مستشاره ابن أبي العزاقر الشلمغاني الذي سيعدم بعد 13سنة من صلب الحلاج بالتهمة ذاتها والأرجح ان يكون الشلمغاني هذا قرمطي آخر على خصومة مع القيادة التاريخية التي مثلها الحلاج وجيله فمن المعروف تاريخيا ان الحزب القرمطي كان قد تشظى وتحول الى عدة فرق سرية بعد الهزائم التي انزلت به في سورية وسواد الكوفة في الربع الأخير من القرن الثالث الهجري .
ان أدلة الاتهام التي حفظها ابن زنجي في رسالته عن الحلاج وكلها من الكتب التي ضبطت مع الحلاج أثناء القبض عليه بالسوس تكشف عن محاكمة سياسية الطابع وعن حزب و فرقة تحترف العمل السري أكثر مما تشيرالى زندقة وسوء معتقد :( وكانت في الكتب الموجودة عجائب من مكاتباته أصحابه النافذين في النواحي وتوصيتهم بما يدعو الناس اليه وما يامرهم به من نقلهم من حال الى آخر ومرتبة الى مرتبة حتى يبلغوا الغاية القصوى وان يخاطبوا كل قوم على حسب عقولهم وأفهامهم وعلى قدر استجابتهم وانقيادهم وجوابات لقوم كاتبوه بالفاظ مرموزة لا يعرفها الا من كتبها فيها ما يجري هذا المجرى ....) - 9- .
ان رسائل اصحاب الحلاج التي استخدمت في تجريمه أثناء محاكمته تعود حسب الوصف الى المرحلة السلمية من عمل القرامطة حين هادنوا الخلافة العباسية واتجهوا الى العمل الفكري والتنظيري لكسب الأعوان من خلال التوعية والتنوير ففي السنوات الفاصلة بين محاكمة الحلاج الاولى والثانية كان التمهيد يتم وبمعرفة الحلاج ربما لسفارة مصالحة بين القرامطة والعباسيين قام بها حسب ما يخبرنا مسكويه في ( تجارب الأمم ) ابو الهيجاء الحمداني والد سيف الدولة الذي حارب قرامطة البحرين ثم صار رسول المقتدر الى أبي طاهر القرمطي وسوف تسفر هذه المصالحة عن اعتراف الخلافة بسلطة قرامطة البحرين على جزء من البصرة وعن صداقة دائمة بينهم وبين الدولة الحمدانية تطورت في عهد سيف الدولة الى حلف عسكري لدرجة ان الاخير حين طلب قرامطة البحرين نصرته ومدهم بالسلاح خلع أبواب الحديد في حلب والرقة وصادر الموازين ليرسل لهم كفايتهم من الحديد المطلوب لصناعة الأسلحة - 10- وقبل أن يتطور ذلك الحلف وحين كان الحلاج ما يزال في سجنه أستعد أبو طاهر القرمطي لغزو بغداد وأعلن قبل وصوله أنه سيستوزر على بن عيسى ويولي على الشرطة أبو الهيجاء الحمداني .
والآن ما علاقة الحلاج بهذا الحلف الحمداني – القرمطي الذي بدا في زمنه وتطور بقوة بعد أن نجح خصومه في اعدامه .....؟
التاريخ يخبرنا – وهذه من المسائل التي يعترف بها الذين لا يقولون بقرمطية الحلاج – ان الحسين بن منصور كان العقل المدبر لانقلاب ابن المعتز الذي لم ينجح وانه كان في تلك الفترة المستشار السياسي للحسين بن حمدان عم سيف الدولة وان الوزير علي بن عيسى الذي استعفى من محاكمة الحلاج قبل أن يتسلمه حامد بن العباس كان من المشاركين في انقلاب ابن المعتز الحلاجي وقد نفي بعده الى واسط بعد محاكمة طويلة حفظها ياقوت في معجم الادباء وكان من حيثياتها اتهام الوزير علي بن عيسى - شريك الحلاج في انقلاب القصر - بمكاتبة قرامطة البحرين وتزويدهم بأسلحة سرية منها الطلق وهو دواء اذا دهن به جسم الانسان لم تؤثر فيه النيران - 11- .
ان الرجل الذي رتب انقلابا في دار الخلافة ووصل في دعوته الى الهندوأفغانستان والصين وتحالف مع اقوى قادة العصرلا يمكن أن يكون متدروشا منقطعاعن الدنيا للتسبيح والاذكارولعل خير وصف لحنكته السياسية ودهائه في العمل السري يأتي على لسان ابن النديم الذي لم يكن يحبه لكنه لم يستطع ان يخفي صفاته التي تجدها بالكاد قريبة من الصورة التي نعرفها عن المتصوفة .
يقول ابن النديم في الفهرست واصفا الحسين بن منصور :( كان جاهلا ،مقداما ،مدهورا ،جسورا على السلاطين ،مرتكبا لعظائم الأمور يروم انقلاب الدول ،يظهر مذاهب الشيعة للملوك والصوفية للعامة ) - 12-.
لقد تمت ادانة الحلاج بنص يتعلق بالحج العقلي ففي جلسة الادانة للمحاكمة التي استغرقت سبعة أشهر استخرج القضاة من أحد كتبه المصادرة النص التالي : (ان الانسان اذا اراد الحج ولم يمكنه أفرد في داره بيتا لا يلحقه شئ من النجاسة ولا يدخله أحد ومنع تطرقه فاذا حضرت أيام الحج طاف حوله طوافه حول البيت الحرام فاذا انقضى ذلك وقضى من المناسك ما يقضى بمكة مثله جمع ثلاثين يتيماوعمل لهم اسرى ما يمكنه من الطعام وتولى خدمتهم بنفسه فاذا فرغوا من أكلهم وغسل أيديهم كسا كل منهم قميصا ودفع اليه سبعة دراهم فاذا فعل ذلك قام له مقام الحج ) ولما سئل من قبل رئيس المحكمة من أين لك هذا الحكم ؟ قال : من كتاب الاخلاص للحسن البصري فقال القاضي :كذبت يا حلال الدم قد سمعنا كتاب الاخلاص بمكة وليس فيه شئ مما ذكرته .
وكانت عبارة (يا حلال الدم )هي كل ما ينتظره الوزير الذي سارع الى اقتناص الفرصة وطلب من القاضي أن يكتب ذلك ويوقع عليه مع شركائه ففعلوا وبذا صار الطريق مفتوحا لتنفيذ حكم الاعدام كي ينتهي الشخص وتبدأ الأسطورة .
تجربة الحلاج الذي تشير مجموعة قرائن الى انه قد يكون الحسين الاهوازي كبير دعاة القرامطة الهارب من سواد الكوفة مرت حسب الواضح من سياقاتها التاريخية والفكرية في ثلاث مراحل أساسية أولها مرحلة السياسي المتمرد صاحب الفكر الانقلابي الذي يحترف العمل السري ويتنقل من أجله في البلدان فلا يقر له قرار ولا يعرف جنبه الاستقرار وهي مرحلة تمتد من فارس وخوزستان الى الأهواز والبصرة حيث شارك في ثورتي الزنج والقرامطة وشهد الانكسارات الأولى لانهيار أحلام العدالة الاجتماعية التي قادتها تلك التيارات.
اما المرحلة الثانية فهي التي كان فيها بحدود عام 292للهجرة في قلب بغداد مستشارا سياسيا للحسين بن حمدان وقريبا من النخبة الفكرية البغدادية وهي مرحلة المفكر المصلح صاحب التجربة السياسية الناصجة التي حاول تطبيقها باقل ما يمكن من العنف في انقلاب ابن المعتز السلمي الذي فشل فاضطر الحلاج للهرب سنوات ثم عاد الى بغداد متنكرا متدروشاومؤسسا لأسطورته الصوفية فقد كان كما زعموا يسير في شوارع عاصمة الخلافة وهو ينشد :
الحب ما دام مكتوما على خطر
وغاية الأمن أن تدنو من الحذر
وأطيب الحب مانم الحديث به
كالنار لا تأت نفعا وهي في الحجر
وكان يطلب من الناس أن يقتلوه ليستريح من الوجد الفائض فلما استوزر ابن الفرات طلبه لينظر في أمره لكنه اختفى عن الانظاروظل سادرا في هروبه الى أن ألقي عليه القبض وأعيد مقيدا الى دار الخلافة مطلع القرن الرابع الهجري .
وتشمل المرحلة الثالثة سنوات السجن والحقبة الأولى كلها تقريبا من القرن الرابع الهجري وهي المرحلة التي مارس فيها نفوذه الطاغي على أم الخليفة التي اعتقدت مع حاجب الخلافة انه رجل مبارك صالح وعملا على حمايته الأمر الذي جعل منه سجينا فوق العادة لكن هذه المرحلة هي أيضا مرحلة التأمل والانكسار التي أعادت الثائر المتمرد قدريا مستسلما بعد عمرطويل من التمرد ولاشك أن حالة من الاستسلام الروحي العميق كانت تقف خلف الشاعر الذي قال في سجنه قبل اقترابه من الصلب هذين البيتين :
ما حيلة العبد والأقدار جارية
عليه في كل حال ايها الرائي
ألقاه في اليم مكتوفا وقال له
اياك اياك أن تبتل بالماء
هذه المرحلة هي الأخصب فكريا في حياة الحلاج ففيها تم انجاز الطواسين وولدت عشرات القصائد وصنف المفكرفي استراحته 47 كتابا ضاعت معظمها نظرا لاخفائها او حرقها بعد صدور الأمر للوراقين في بغداد بتحريم نسخ كتب الحلاج .
لقد ولد الحلاج بين القرامطة وتشرب أفكارهم وعمل معهم ولم يكن تشربه للفكر الصوفي غريبا ففي عصره كان التصوف الاسلامي يحتفظ بجذوره التمردية التي تقربه من القرامطة وغيرهم من دعاة التغيير السياسي والاجتماعي وبما أن الحلاج المتصوف قد نال كفايته من التركيز فربما يكون الأوان قد حان لاعادة الاعتبار الى الحلاج السياسي صاحب النظريات الجريئة التي أوشكت ان تغير عصرها وكانت سابقة لأوانهاشأن كل فكرحر جرئ يثق بالانسان والمعرفة ويراهن رغم كثافة الاستبداد والظلام على مستقبل بهي للانسانية .



هوامش واشارات
-----------------
1- لوي ماسينيون – أربع رسائل عن الحلاج – رسالة بن زنجي ص32
2- عبد الرحمن بدوي – تاريخ التصوف الاسلامي – ص65
3- النوبختي – فرق الشيعة ص73
4- عبد الكريم بن هوازن القشيري – الرسالة القشيرية ص209
5- أخبار الحلاج تحقيق لوي ماسينيون ص28
6- عريب بن سعد القرطبي – صلة تاريخ الطبري ص35
7- ابن تغري بردي النجوم الزاهرة في اخبار مصر القاهرة ج3ص182
8- الخطيب البغدادي – تاريخ بغداد ج8 ص134
9- لوي ماسينيون – أربع رسائل عن الحلاج – رسالة بن زنجي – ص7
10- مسكويه – تجارب الأمم – ج3 ص 139
11- ياقوت الحموي – معجم الأدباء ج2 ص 144
12- ابن النديم – الفهرست ص 269

د . محيي الدين اللاذقاني
الجمعة 2 يوليوز 2021