لكن، في زحمة التصريحات المكثّفة والرسائل الإيجابية التي أرسلها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى نظيره السوري بشار الأسد بشأن ضرورة اللقاء، وإمكانية إعادة العلاقات إلى ما كانت عليه قبل عام 2011، أثارت صورة زعيم حزب "الحركة القومية" مع قائدين من الميليشيات السورية المسلحة تساؤلات وشكوكاً حول توقيت هذا اللقاء والهدف من نشر الصورة.
"العمشات" و"الحمزات" والمافيا
نشرت الحسابات المقرّبة من حزب "الحركة القومية" اليميني المتطرف، وشريك حزب "العدالة والتنمية" في "تحالف الشعب" الحاكم، صوراً من زيارة اثنين من قادة الفصائل المسلحة السورية المنضوية تحت مظلة "الجيش الوطني" الذي أسسته أنقرة، إلى زعيم الحزب دولت باهتشيلي.
وقدّم الزائران سيف بولات أبو بكر، قائد فرقة "الحمزات"، ومحمد جاسم الملقّب بأبو عمشة، قائد فرقة "السلطان سليمان شاه"، هدية تذكارية للزعيم القومي التركي كتبت على علبتها جملة "القوّات المشتركة"، والتقطا معه صورة تظهر تشابك أيديهم.
أما الحدث الأكثر رمزية فكان لقاء أبو بكر وأبو عمشة مع علاء الدين تشاكيجي، رجل المافيا الأول في تركيا والمعروف بقربه من حزب "الحركة القومية" وصداقته مع باهتشيلي الذي توسط لدى الرئيس التركي لإخراجه من السجن قبل أعوام، ضمن إجراءات تبييض السجون خلال الجائحة.
ونشر زعيم المافيا، المدان بقتل سياسيين وصحافيين ورجال أعمال وزوجته السابقة، وبالهجوم المسلح على ناد رياضي، وإنشاء وإدارة منظمة إجرامية، صورته برفقة أبو بكر وأبو عمشة وهم على متن يخته تتوسّطهم طاولة وضع عليها سكين حربي يعرف باسم "كاما".
وأرفق تشاكيجي الصورة بمنشور قال فيه: "زارني قائد فرقة الحمزات في الجيش السوري الحر سيف بولات، والقائد العام لفرقة سليمان شاه محمد جاسم. الواجب الأساسي لأتراك تركيا والعالم هو الوقوف إلى جانب التركمان في جميع أنحاء العالم في قضاياهم العادلة. فليرحم الله جميع المؤمنين".
يعرف الفصيلان المسلحان المذكوران بخلفيّتهما العرقية، إذ يشكّل السوريون من الأصول التركمانية أغلبية أفرادها، وهو ما يفسّر قربهما من حزب "الحركة القومية". ويحاول زعيما الفصيلين التركيز على أصولهما التركمانية في تعاطيهما مع الرأي العام التركي.
لكنّ مصدراً قيادياً في فرقة الحمزات أكد لـ"النهار العربي"، شريطة عدم الكشف عن اسمه، تحدّر سيف بولات من أصول تركمانية، فهو ابن عائلة تركمانية معروفة في المنطقة، "إلا أن ادّعاءات محمد الجاسم بانتمائه التركماني زائفة، وهو من أبناء عشيرة عربية ويتحدر من بلدة معرّة النعمان التابعة لإدلب، ونشأ وترعرع في ريف حماه الشمالي".
دلالات توقيت الزيارة
أتت هذه الزيارة المثيرة للجدل في توقيت حسّاس، تتوالى فيه التصريحات التركية التي تدلي بها أحزاب السلطة والمعارضة لجهة ضرورة التواصل مع دمشق وإعادة العلاقات الدبلوماسية معها، بحيث بات أقرب إلى التنافس على سبق زيارة العاصمة السورية أو مصافحة الأسد.
وكان باهتشيلي من أوائل المنادين بضرورة إعادة العلاقات مع دمشق في جبهة السلطة، وذلك لمحاربة التنظيمات الإرهابية كما قال، في إشارة إلى "الإدارة الذاتية" لمناطق شمال سوريا وشرقها، لكنه يعلم بشرط دمشق الأساسي لإعادة العلاقات مع أنقرة، والمتمثّل في وقف دعم الفصائل المسلّحة في الشمال، والتي تصفها دمشق بـ"الإرهابية".
ليست دمشق فقط من تصنّف زائري باهتشيلي "إرهابيين". فقد فرض مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأميركية عقوبات على الفصيلين المسلحين وقادتهما، بسبب انتهاكات حقوق الإنسان والحصول على الأموال الطائلة بطرق غير شرعية، وممارسة الضغط على الأكراد في عفرين وإجبارهم على الفرار من المنطقة، وممارسة الخطف مقابل الفدية وجمع الأتاوات.
وبحسب الصحافة التركية، يملك الجاسم الذي يحمل الجنسية التركية عقارات في الريحانية بولاية هاتاي (لواء اسكندرون)، ومنزلين صيفيين في مرسين اشتراهما بنحو 61 مليون دولار.
يقول عمر أوديميش، الصحافي التركي المختص بشؤون الشرق الأوسط، لـ"النهار العربي"، إن قادة الجيش السوري الحر يعقدون لقاءات مع حزب "الحركة القومية" ومع مجرمين من أمثال تشاكيجي وغيره، "وهذا ليس بجديد، لكن المهم هنا هو توقيت اللقاء ونشر صورته علناً". ويشرح أوديميش المتابع لنشاط الميليشيات المسلّحة في سوريا أن زيارة أبو عمشة وأبو بكر حزب "الحركة القومية"، بالتزامن مع تزايد الحديث حول التطبيع، "يشير إلى وجود خلاف بين الشركاء في تحالف الشعب حول مسألة التطبيع مع الأسد".
باهتشيلي ورسائله
يعرف باهتشيلي بحبّه توجيه الرسائل غير المباشرة للخصوم والحلفاء عبر وسائل التواصل الاجتماعي. فمن استخدامه أغانيَ معبّرة، ونشره صور خاتم عليه عبارات دينية وسياسية، وملفات يحملها بيديه، فإن هذه الرسائل موجّهة للحكومة التركية وأردوغان. وفي آخر رسائله، نشرت حسابات مقرّبة من حزبه صورة لقائد القوات الخاصة لمكافحة الإرهاب في وزارة الداخلية مقبّلاً يد باهتشيلي، في إشارة إلى تعاظم نفوذ الحزب داخل سلكي القضاء والأمن.
تعتقد عائشة يلديريم، الصحافية التركية المختصة بالسياسات الخارجية، أن أبو بكر وأبو عمشة "قاما باستعراض للقوة برفقة باهتشيلي ورجله زعيم المافيا تشاكيجي، في رسالة واضحة لأردوغان الساعي إلى التطبيع مع سوريا"، فيما يرى أوديميش أن حزب "الحركة القومية" يؤيد الحفاظ على الوضع الميداني في شمال سوريا، والشبيه بضم المنطقة إلى تركيا، لجهة وجود الجنود الأتراك، ومكاتب بريد وخدمات حكومية وفروع للبنك المركزي وحدائق عامة وكليات تابعة لجامعات تركية. يضيف: "يريد حزب ’الحركة القومية‘ أن تحتفظ الكتائب التركمانية والقوة العسكرية التركمانية هناك بقوّتها، ويعتبرها ضمانة ضد حزب الاتحاد الديموقراطي والأكراد، لذلك يقوم بتوجيه هذه الرسائل المباشرة".
وكانت الخلافات بين جانبي التحالف الحاكم في تركيا قد طفت إلى السطح مؤخّراً نتيجة التعارض في الموقف في ملفّات عدة، قد لا يكون ملف التطبيع مع الأسد بينها. فحزب "الحركة القومية" لم يخف انزعاجه من تعاطي الحكومة التركية مع الدعوى المرفوعة على خلفية تصفية سنان أتيش، الزعيم السابق لـ"الذئاب الرمادية" (الجناح العسكري للحزب)، حيث تشير الأدلة والتعقّب وشهادات العيان والأقرباء إلى تورّط شخصيات قيادية في الحزب بعملية الاغتيال السياسي.
كما أعرب باهتشيلي شخصياً عن امتعاضه من الحملات الأمنية التي شنّها وزير الداخلية الجديد علي يرليكايا ضد رجالات عالم الجريمة، واتّهمه بمحاولة الانقلاب على "تحالف الشعب"، إضافة إلى مطالبته بحلّ المحكمة الدستورية التي أصدرت قرارات بضرورة الإفراج عن سجناء سياسيين ونشطاء مثل عثمان كافالا وصلاح الدين دميرتاش.
هذه المواقف، والتقارب الأخير مع حزب "الشعب الجمهوري" والحديث عن "الليونة السياسية"، دفعت بالرئيس التركي إلى استقبال شريكه في الأسبوع الماضي في لقاء جدد خلاله التزامه بالتحالف مع حزب "الحركة القومية"، ولتأكيد العلاقة القوية بينهما.
ضمانة اليمين القومي بوجه الأكراد
في وقت بات مستقبل الجيش السوري الحر على المحك، يبدو أن قادة الفصائل التابعة للاستخبارات التركية، والمدعومة من الحزب اليميني المتطرف، يحاولون انتزاع الاعتراف من الحكومة بعدم تخلّيها عن "جنودها الأوفياء"، الذين قاتلوا ولا يزالون يقاتلون في بقع جغرافية مختلفة من أذربيجان مروراً بليبيا ووصولاً إلى النيجر، خدمة لأجندات الحكومة التركية القوقازية والأفريقية.
وسبق اللقاء موضوع الصورة تصريح لوزير الخارجية التركي هاكان فيدان أكد فيه مواصلة بلاده دعمها "المعارضة السورية".
ويرى أوديميش أن الهياكل العسكرية التي أنشأتها تركيا ودرّبتها وموّلتها "لا يمكنها معارضة أنقرة في قراراتها، لذلك، تبقى العناصر ذات الرؤية الإسلامية والمتطرفة والمتركّزة في إدلب العقبة الرئيسية في وجه التطبيع بين تركيا وسوريا، فيما ضمانات السلامة ستكون كافية بالنسبة للفصائل التابعة لأنقرة".
ويضيف: "الأهم هنا هو وضع جبهة النصرة، وليس الجيش السوري الحر الذي يعتبر في نهاية المطاف هيكلاً تابعاً لتركيا التي تدفع لقادته وعناصره الرواتب"، فيما تلاحظ يلديريم أن زائري باهتشيلي "خارج تأثير الجنرالات الأتراك المعنيين بالملف السوري".
-----------
النهار العربي