الطب النفسي في سوريا قبل الثورة كان لمن كانت لديه مشاكل عقلية، وقلة قليلة بل نادرة تلك التي كانت لديها رفاهية الحديث عن "الطب النفسي"، خاصة أن الأهل والأصدقاء ومصاعب الحياة ولن "يفل الحديد إلا الحديد" كانت تملأ حياتنا، إضافة إلى عدم وجود مختصين، وكذلك عدم وجود تأمين صحي، وقلة الكفايات الأساسية للمعيشة في سوريا، ولو نظرت إلى الجانب الصحي وسوء الأوضاع لقلت إن ذلك يستحق ثورة وحده!
مؤخراً، بعد هجرتنا ولجوئنا اكتشفنا أن هناك فرقاً بين المرض النفسي والمرض العقلي في سجلات شركات التأمين ودولة الرعاية الاجتماعية الموجودة على الكوكب نفسه الذي تقع فيه سوريا، وأن الكثير من البشر في أفضل الدول لديهم أمراض نفسية، نتيجة العزلة أو الوحدة أو الطلاق، أو نتيجة ظرف ما مروا به.
بل بتنا نسمع من عدد من الأصدقاء أنه يتعالج نفسياً "بخفر شديد" وإنْ شكوت لصديق ما من ظرف تمر به، لم يعد يقول لك تحمل واصبر ولا تجزع. بل قد تسمع من صديق يقول لك: لن تتجاوز محنتك إلا إن تعالجت نفسياً!
وقد يكون انتشار السوشيال ميديا وكذلك مجالات التنمية البشرية وفقدان السلطة الاجتماعية وتجربة الحرب والفقد قد شجعت كلها على أن يغدو الحديث عن المرض النفسي بين السوريين أمراً ليس مستهجناً، خاصة لدى الشرائح المتعلمة منهم.
في مقابلات اللاجئين السوريين في البلديات الهولندية، بعد الحصول على منزل، تجري مقابلة موسعة مع كل منهم من قبل الفريق الاجتماعي في البلدية، ولعله من أحد أبرز الأسئلة هو السؤال عن الصحة الفيزيولوجية والعقلية والنفسية.
وفقاً للثقافة الهولندية فإن كل اللاجئين مرضى نفسيون!
والسبب بسيط، لا يمكن أن يبقى الشخص طبيعياً وقد فقد، في الحد الأدنى، وطنه وأهله وأرضه، إضافة إلى الحالات التي فقد فيها كثيرون جزءاً من عائلتهم أو جرحوا أو فقدوا بيوتهم أو تعرضوا إلى حوادث ما، أو على الأقل فقدوا سيرتهم الذاتية ومنجزهم القديم ولغتهم وشبكة معارفهم ونكهة طعامهم وما أنجزوه من قبل! تبقى الحوادث التي تعرض لها كل فرد أسباباً إضافية للمرض النفسي، لكن الحالة العامة نفسها التي أصابت السوريين تجعل كل شخص مريضاً نفسياً!
مما شجع اللاجئين على طلب العلاج أنهم وجدوا هولنديين كثيرين يتعالجون نتيجة حادث سير أو الحرب في أوكرانيا أو لأنه فقد وظيفته أو نتيجة خوفه من كورونا مثلاً أو لأنها سمينة أو كلبها قد مات!
السؤال الطبيعي في هولندا: كيف لشخص فقد كل هذا ويبقى طبيعياً؟ هكذا تنظر الثقافة إلى قدرات الفرد على التحمل والصبر، وأن الإنسان لديه قدرات على التحمل ولا يمكنه أن يأخذ مهام الدولة أو المجتمع!
بعد موجة اللجوء في السنوات الأخيرة، أحيت الحكومة الهولندية مشافي عام 1945 التي كانت قد أنشأتها لمواطنيها بعد الحرب العالمية الثانية، وبات الإقبال على دراسة التخصصات النفسية في الجامعات أكثر لأنه حقل فيه فرص عمل كثيرة.
الحديث عن المرض النفسي في بدايات اللجوء الأولى، أي قبل أكثر من عشرة أعوام وأكثر شيئاً معيباً، لكن أولاً بأول بدأ كثيرون يستسيغون الموضوع، وقد أدركوا أن رحلة طريق التهريب عند الهولنديين تعد وحدها حالة مرضية تحتاج إلى علاج، نتيجة ما يمر فيه اللاجئ من جوع وخوف وتعب وعنف، ومما شجع اللاجئين على طلب العلاج أنهم وجدوا هولنديين كثيرين يتعالجون نتيجة حادث سير أو الحرب في أوكرانيا أو لأنه فقد وظيفته أو نتيجة خوفه من كورونا مثلاً أو لأنها سمينة أو كلبها قد مات!
كل هذا مفهوم وفي سياقاته لكن كثيرين بدؤوا يكتشفون أن التعب النفسي ميزة يمكن أن يستفيدوا منها كي لا يعملوا أو لا يدرسوا أو يعملوا بالأسود أو لكي يحصلوا على بيت أوسع مثلاً، وإن كانت هناك حالات محقة يختلط فيها المرض بالتمارض، مثل سرعة لم الشمل أو كي ينقل إلى مدينة له أقارب فيها! والتوظيفات السلبية لحالات المرض النفسي لدى اللاجئين كبرت بعد أن عرف كثيرون أن الأعراف الهولندية تعدهم ضحايا حروب، لا ذنب لهم فيها.
أما أبرز أنواع الأمراض النفسية الشائعة لدى اللاجئين فهي:
اضطراب ما بعد الصدمة، والكآبة، والحزن، والعزلة، والحنين والقلق والتوتر وعدم القدرة على النوم والذهان والهلوسة وفقدان الأمان والشعور بالعنصرية والإرهاق وعدم القدرة على الاندماج مع المجتمع الجديد وفقدان الهوية...
وتختلف الأمراض الأكثر شيوعاً لدى النساء عنها عند الرجال، وكذلك تختلف أمراض الأطفال عن أمراض البالغين، هي لا تبتعد كثيراً عن الامراض السابقة لكن يلاحظ أن الحزن والكآبة عند النساء أكثر، ويلحظ أن المنامات المزعجة عند الأطفال، أما الرجال فالحنين لديهم أكثر بعد أن فقدوا الكثير من حضورهم في الحياة الجديدة.
ومن الملفت أن النساء أكثر سعياً للحصول على العلاج النفسي، في حين أن كثيرا من الرجال لا يريدون أن يقال عنهم أنهم يتعالجون نفسياً، وبالتالي بقي ينشر طاقته السلبية نتيجة ضغوطات اللجوء، في عائلته ومجتمعه القريب!
ليس من حق المعالج النفسي ها هنا أن يمنح المريض الدواء بل يمكنه أن يقترح لطبيب العائلة أن يفعل ذلك بحسب السرديات التي يقدمها له المريض، الذي قد يستمر علاجه بالسرد شهوراً طويلة.
يؤكد المعالجون النفسيون أن أمراض الجيل الأول من اللاجئين متعددة ومتنوعة، إذ إن لديهم أمراضاً ناجمة عن مرحلة ما قبل اللجوء، ومرحلة اللجوء ومرحلة بعد الوصول ومرحلة عدم الاندماج والرغبة بالعودة إلى الوطن الأم، إضافة إلى المشاكل داخل الأسرة الواحدة مع الشريك أو الأطفال أو قيم المجتمع الجديدة.
تحاول الدول الأوروبية وخاصة هولندا تأمين العلاج النفسي للاجئين وتأمين ترجمة فورية لهم وكذلك الاستماع إليهم وتفهم حاجاتهم والاقتراب منهم في مسألة الاندماج وتفهم الاختلافات الثقافية بين كل من المجتمع الضيف والمجتمع المضيف. ليس من حق المعالج النفسي ها هنا أن يمنح المريض الدواء بل يمكنه أن يقترح لطبيب العائلة أن يفعل ذلك بحسب السرديات التي يقدمها له المريض، الذي قد يستمر علاجه بالسرد شهوراً طويلة.
أتيح لي قبل أيام، من خلال قيامي بالترجمة الفورية، أن أستمع إلى حكاية شاب سوري لدى معالج نفسي حول غزة، وقد بدأت مشكلة هذا الشاب بعد حصوله على الجنسية الهولندية قبل نحو عام واعتقاده أنه يمكن أن يؤثر في السياسة الهولندية من خلال ما سمعه عن الديمقراطية، حيث كان يشتم في تلك الجلسة النفسية كل مسؤولي الدولة لأنهم يصدرون السلاح إلى العدو التاريخي للشعب العربي كما يقول، وكانت الفكرة الرئيسية التي يريد أن يوصلها للمعالج في تلك الجلسة هي: كيف لا تنصت هولندا لرأيه وقد غدا مواطناً؟ ولماذا تصدر هولندا قطع غيار لطائرات إف 16 إلى الولايات المتحدة التي تصدرها بدورها إلى إسرائيل، وما لا يصدقه ذلك الشاب هو كيف أن هولندا تقف مع أوكرانيا، وهو يتفق معها في ذلك لأنها تتعرض إلى غزو من روسيا، فيما تناصر هولندا القاتل والمجرم وفي فلسطين؟
ويتابع: أنا أتيت إلى هولندا لأنه لديها حقوق إنسان وصوت مسموع للمواطن، فكيف تكون هولندا إنسانية في التعامل مع اللاجئين في حين أنها تسمح لدولة أن تبيد شعباً آخر وتساعدها!
يمكننا القول: إن سوريا ليست وحدها عصفورية، بل العالم كله صار "عصفورية".
الطريف في الأمر أن المعالج كان يهودياً وقد أبدى مرونة استثنائية في الاستماع إلى المريض وتفهم آلية تفكيره، وقد حاول وضع خطة لذلك الشخص كي يدرك أنه كـ "فرد" لديه حدود معينة يمكن أن يتحرك فيها، وكان حريصاً على وضع تصورات لتحويل مرحلة الكآبة التي مر فيها ذلك المحتج السوري إلى فعل سلمي إيجابي يعبر به عن شخصيته وخصوصيته.
الطريف في الأمر أن ذلك الشخص استعمل أكثر من مرة الجملة التالية: هذي مو بلد هذي كأنها سوريا، عصفورية يا زلمة!
وحين شعرت أن ترجمة كلمة "عصفورية" بأنها مشفى للأمراض النفسية أو العقلية لا تكفي. شرحت للمعالج دلالات كلمة "عصفورية" في الثقافة السورية، بدلاً من أن يعتقد انها مرادفة لـ كلمة سوريا، أو أنها صفة أخرى من صفات سوريا بخاصة في الأوضاع الحالية، وبينت له أننا إذا أردنا أن نوسع الدائرة الدلالية قليلاً، وننظر إلى المرشحين الأمريكيين للرئاسة وحرب أوكرانيا وتكويعات الدول المحيطة بسوريا ودول الخليج نحو نظام مجرم ومجازر إسرائيل في غزة يمكننا القول: إن سوريا ليست وحدها عصفورية، بل العالم كله صار "عصفورية".
السوريون اليوم يرددون مع المطربة صباح، محتجين على العالم بالقول: عالعصفورية وصلني بإيدي يا بيي وما طل عليّ! فهل سيطل العالم علينا أم سيتركنا في عصفورية قوامها النظام وقادة الفصائل والقوات الدولية على الأرض السورية؟
أم أنهم سيستسلمون لنبوءات المبدع غازي القصيبي قبل سنوات حين تحدث عن حالة الأمة من خلال سردية برفسور لمعالج نفسي عن حالة الدول العربية في روايته الشهيرة "العصفورية، حيث عرفت دار الساقي عنها بالقول: العصفورية كلمة شامية تعني مستشفى المجانين، والبطل هو البرفيسور الذي يسرد تاريخ الأمة العربية في جلسة علاج سريرية إلى الدكتور النفسي، وهنا أراد القصيبي أن يقول إن مستشفى المجانين هو المكان الوحيد الذي يستطيع أن يتكلم فيه العقلاء في هذا العالم!
---------
تلفزيون سوريا