في الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين، عمل سياد بري مع البوليس الإيطالي (المستعمِر) ثمّ مع البوليس الاستعماري البريطاني، حتى استطاع النفاذ إلى كليّة البوليس العسكري الإيطالية وترقّى في منصبه، حتى أصبح نائب قائد الجيش. في تلك الفترة، اكتشف الفكر الاشتراكي، واستغرق في دراسته إلى جانب ميدانه العسكري، حتى شارك في الانقلاب على الحكومة القائمة في عام 1969، بالاشتراك مع قياديين آخرين هما صالاد، الذي كان القائد لفترة عابرة، وجامع الذي كان قائد البوليس. خلال فترة من الزمن انفرد سياد وحده بالقيادة (هناك ما يُذكّر بفترة حكم حزب البعث ولجنة العسكر، والتدافع بين أعضائها حتى انفراد حافظ الأسد بالسلطة!).
وصلت سوريا عبر الفشل إلى الانهيار، ولم تعد هنالك تلك الدولة القادرة على ضبط حدودها، ولا اقتصادها ولا اجتماعها، والغريب أن أكثر المعنيين ما زال مصراً على الإنكار
خاض سِياد حرباً شرسة ضد القبلية والعشائرية، ودعم المساواة بين الصوماليين. إلّا أن الحكم السائد في زمانه كان يُعرف باسم» حكم مود»، الذي يشير إلى أسماء ثلاث عشائر متحالفة في قبضتها على السلطة: أولاها طبعاً عشيرة سياد نفسه ماريحان، وعشيرة والدته أوغادين، وعشيرة صهره دولباهنته. وحين كان هنالك تركيز على عشائرية الحكم، يقوم سياد بري وأجهزته بإثارة الخلافات العشائرية بين العشائر العديدة والكبيرة في البلاد). في المقابل، كانت هنالك براغماتية متميّزة في اشتغال الأسد القديم على اكتساب الطوائف ومناداته بالمساواة والوطنية، إضافةً إلى القومية، كلّ منها في وقتها؛ مع اعتماده في الوقت ذاته على دائرة أصغر في قلب السلطة من عائلاتٍ وأفخاذٍ وعشائر، في مركزها الأقربون من أهله). اعتمد سياد بري أيديولوجيا هجينة تجمع بين الماركسية اللينينية والإسلام، واتّخذ هيئة تجمع جزئياً بينه وبين كلّ من موسوليني وهتلر، ملأت صوره الشوارع والقرى. لكنّه في الواقع لم ينفرد بنشر صوره وحده، بل جمعها مع صور ماركس ولينين، ولو بشكلٍ أخف. في سوريا، جمع الأسد بين الاشتراكية والرأسمالية والإسلام، لكنّه لم يترك مجالاً إلّا لصوره تغزو كلّ مكان، قبل أن تحلّ إلى جانبه صورة ابنه الأول المرشّح لخلافته، ثم تحلّ مكانها صور ابنه الآخر الذي ورث الديكتاتورية منه، مع فترة انتقالية أيضاً أيامَ ربيع دمشق، اقتضتها ضرورات التأسيس كما يبدو. شاعت يومها صورة تركيبية للثلاثة مع النظارات السوداء، وقد كتب تحتها» هكذا تنظر الأسود»! اعتمد سياد بري سياسة خارجية تركزت على الروابط الصومالية التقليدية والدينية مع العالم العربي، وخصوصاً منها من هو نافع بتقديم الموارد السياسية والاقتصادية، ونتج عن ذلك الانضمام لجامعة الدول العربية في عام 1974. وفي الوقت ذاته كان بري رئيسا لمنظمة الوحدة الافريقية (الاتحاد الافريقي حاليا)… في العام المذكور ذاته، كان ديكتاتور سوريا قد أنهى بالتحالف مع أنور السادات حرب تشرين «التحريرية»، وابتدأ باستقبال التمويل العربي والتسليح السوفييتي والرضا الغربي، كلها معاً… وافتتح عصراً من الغطرسة والفساد، فالقمع والإفساد. صدر دستور جديد في عام 1979، وأجريت انتخابات لمجلس الشعب، وواصل الحزب الاشتراكي الثوري الصومالي الحكم منفرداً. لكنه وفي أكتوبر 1980، تم حل ذلك الحزب الغضّ العود، وأعيد تشكيل المجلس الثوري الأعلى في مكانه. في سوريا الأسد، احتدم الصراع مع التطرّف الإسلامي المستند إلى سلوك النظام الفئوي في عام 1979، فقمعه النظام، لكنه استدار فوراً وحاول استرضاء بعض النخب المعارضة. في العام التالي 1980 اعتقل النقابات والقوى الديمقراطية وكثيراً من الإسلاميين أيضاً، وقتل منهم أيضاً.
نجح سياد بري في تدمير أي مظهر من مظاهر الشرعية. بدعم من الاتحاد السوفييتي أولاً، ومن ثم الولايات المتحدة، دمّر سياد بري مؤسسات الحكومة والديمقراطية، وانتهك حقوق الإنسان لمواطنيه، وحوّل أكبر عدد ممكن من موارد الدولة إلى يديه وأيدي أفراد عشيرته، وحرم الآخرين من حقوقهم الإنسانية. من ثمّ أصبحت جميع العشائر الرئيسية والثانوية، باستثناء عشيرة» القائد»، في حالة إقصاء وعزل وتهميش، ارتكبت قواته الخاصة حملة تلو الأخرى ضد الصوماليين، وبذلك، بحلول بداية الحرب الأهلية في عام 1991، كانت الدولة الصومالية قد شبعت فشلاً. لقد دمرت الحرب الأهلية ما تبقى من البلاد، وانهار الصومال: انتقل من دولة ضعيفة إلى دولة فاشلة، فدولة منهارة تماماً.
يطرح الباحثون تساؤلات حول كيف يمكن للصومال، الدولة القومية التي يبلغ عدد سكانها حوالي 9 ملايين نسمة وتتمتع بتقاليد ثقافية متماسكة، ولغة ودين مشترك، وتاريخ وطني مشترك، أن تفشل، ثم تنهار. ربما، كما يقولون، لم تشكل قط إقليما واحدا متماسكا لفترة كافية للتأسيس، حيث كانت جزءا من الإمبراطوريات الاستعمارية لسلطتين إيطالية وبريطانية، مع وجود صوماليين آخرين يعيشون خارج حدود المستعمرتين، ثم، كما كانت التجربة في أماكن أخرى في افريقيا وآسيا، أثبتت الحكومات المدنية المنتخبة الأولى للديمقراطية في مرحلة ما بعد الاستقلال أنها «تجريبية، وغير فعالة، وفاسدة، وغير قادرة على خلق أي نوع من الثقافة السياسية الوطنية». منذ سبتمبر 1970، صدر «قانون الأمن القومي» الذي منح الأجهزة الأمنية سلطة الاعتقال لأجل مفتوح من دون محاكمة، لكلّ مشتبه بارتكابه جريمة تمسّ الأمن، من خلال حظر المادة الأولى لكلّ «أفعال ضد الاستقلال والوحدة أو أمن الدولة»، ونُفّذت عقوبة الإعدام بالذين يُتهّمون بارتكاب تلك الأفعال.
صدر قانون أمن الدولة في سوريا في عام 1968، واحتوى فتحاً خاصاً يعطي لضباط الأمن البراءة المسبقة من أيّ اتّهام بالقتل. وابتدأت بعد ذلك محكمة أمن الدولة بالحكم انطلاقاً من تهمة «المساس بالأمن القومي» و»وهن نفسية الذمة» أو «إضعاف الشعور القومي». في أواخر السبعينيات، ازدادت جرأة الصوماليين- والسوريين ـ وأطلق سياد بري العنان لوحدة شبه عسكرية سماها «طلائع النصر» إضافة لأخرى سماها «ذوو القبعات الحمراء»، نفذّت هاتان الوحدتان مجازر بحق قبائل الماجرتين وإسحاق وقطعان ماشيتهم، وحطّمت خزانات المياه، وقتلت – عطشاً- 2000 من أولى القبيلتين، و5000 من قبيلة إسحاق.. وفرّ هارباً 300 ألفاً من القبيلة الثانية عبر الحدود. في الفترة ذاتها أطلق الأسد العنان لما حمل اسم «سرايا الدفاع» و»سرايا الصراع» التي أخذت تعيث في البلاد فساداً وإرهاباً، حتى تنفيذها لمجزرة تدمر التي ذهب بها ما يقارب الألف ضحية من بين السجناء السياسيين العزّل. وتصاعد القمع الدموي حتى نفّذت تلك القوات مجزرة وحشية بأهل مدينة حماة، المتهمة بإيواء بضع مئات من المقاتلين الإسلاميين، وخسرت حماة عمرانها تحت الدمار، مع 20- 40 ألفاً من سكانها. في منتصف الثمانينيات تدهور الوضع المعيشي والأمني كثيراً وأخذت حركات المقاومة بالظهور. آنذاك قام صهر سياد بري المذكور أعلاه بالهجوم على معقل الحركة الوطنية في الشمال عام 1988، ونفّذ مجزرة ذهب ضحيتها 50 ألفاً من الصوماليين، واستحق بعد ذلك لقب «جزار هرجيسا». لا يُقارن ما حدث بالصومال في تلك العقود الثلاثة، بما تبعها من حرب أهلية لا تبقي ولا تذر، وحالة انهيار الأمن والحدود واللحمة الاجتماعية. فرّ سياد برّي ناجياً بجلده في عام 1989، ومات بعد بضع سنوات.
ولا يقارن أيضاً ما حدث في عهد الأسد الأب في تلك الفترة، عمّا حدث بعد عقد من وراثة ابنه للحكم، والتكلفة الباهظة الثمن التي دفعها السوريون: من موت مليون، وجرح ضعف ذلك، وتشريد نصف الشعب باللجوء أو النزوح، ودمار البنية التحتية، والهندسة الديموغرافية بإنذاراتها الأشدّ وطأة.
وصلت سوريا عبر الفشل إلى الانهيار، ولم تعد هنالك تلك الدولة القادرة على ضبط حدودها، ولا اقتصادها ولا اجتماعها… لم تعد قادرة أو راغبة بتقديم «الخبرات السياسية» الأولية التي تتضمن حكم القانون وحقوق الملكية العقارية والتزام أطراف التعاقد… والغريب أن أكثر المعنيين ما زال مصراً على الإنكار والوهم، والجريمة. وكما يُقال، فإن الدولة المنهارة تُظهر فراغاً مصيرياً في السلطة، ذلك تعبير «زمكاني»، أو «هو ثقب أسود يسقط فيه نظام سياسي فاشل»!
----------
القدس العربي