وكان من الذكاء بحيث اختصر ولم يتكلم عن المثالب المعروفة واكتفى بالقول أن الزعيم كان وطنيا مخلصا لبلده لكن غيره،المنصب وأفسدته السلطة "..ولكن المنصب الجديد ما لبث ان بدل اخلاقه وافسد برنامجه،فطمع ان يسخر قوى الدولة لطماح نفسه ونفاذ حكمه.." . وقبل هذه المقدمة القصيرة لم نكن نعرف عن بلاغته غير خطاب استقالته من رئاسة الجمهورية الذي يجب ان يحفظه كل سوري عن ظهر قلب لأن موقفه في وجه الأزمات الداخلية كان على النقيض من موقف السفاح ونغله : "ﺭﻏﺒﺔ ﻣﻨﻲ ﻓﻲ ﺗﺠﻨﺐ ﺳﻔﻚ ﺩﻣﺎﺀ ﺍﻟﺸﻌﺐ ﺍﻟﺬﻱ ﺃﺣﺐ،ﻭﺍﻟﺠﻴﺶ ﺍﻟﺬﻱ ﺿﺤﻴﺖ ﺑﻜﻞ ﻏﺎﻝ ﻣﻦ ﺃﺟﻠﻪ،ﻭﺍﻷﻣﺔ ﺍﻟﻌﺮﺑﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺣﺎﻭﻟﺖ ﺧﺪﻣﺘﻬﺎ ﺑﺈﺧﻼﺹ،ﻭ ﺻﺪﻕ ﺃﺗﻘﺪﻡ ﺑﺈﺳﺘﻘﺎﻟﺘﻲ ﻣﻦ ﺭﺋﺎﺳﺔ ﺍﻟﺠﻤﻬﻮﺭﻳﺔ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺸﻌﺐ ﺍﻟﺴﻮﺭﻱ ﺍﻟﻤﺤﺒﻮﺏ..." ولم يكن كاتب ذكريات حكومة حسني الزعيم أقل وطنية من الرئيس الذي رفض سفك دماء شعبه وجنبه حربا أهلية،فالكاتب فتح الله الصقال هو ذاته المحامي الذي أنقذ إبراهيم هنانو من حبل المشنقة حين حاكمه الفرنسيون بسبع تهم بينها القتل العمد لمختار بلدة " إسقاط " الإدلبية التي سمت نفسها مشكورة بعد الثورة "إسقاط النظام ". ولمن لم يسمع بتلك القصة من الجيل الجديد، فمختار تلك القرية الصغيرة هو الذي وشى بإبراهيم هنانو ورفاقه الثوار للحامية الفرنسية في حارم، فلما داهمتهم وقاوموها،وقتلوا رئيس الحامية،وبعض جنوده وجدوا رسالة المختار الواشي في جيب رئيس الحامية الفرنسية فاقتصوا منه فورا بمحكمة ميدانية واعدموه،وهذا ما قصر به أحفادهم ثوار الثورة السورية الذين تكاثر الوشاة والضفادع بينهم، وكان يجب حسم أمرهم مع المتسلقين والانتهازيين من البدايات قبل أن تستفحل الظاهرة. وقد قال يومها الصقال الحلبي الذي ما يزال بيته قائما في حلب عند مدخل حي السبيل بجانب الفرنسيسكان لقضاة هنانو الفرنسيين وكلهم من العسكريين ان الوطنية لا تقتصرعليكم،فما قام به هنانو ورفاقه هو الدفاع عن بلدهم في وجه المحتلين الأجانب وهو عين ما قام به قومكم من الفلاحين الفرنسيين حين أحتل الألمان جزءا من فرنسا اثناء الحرب العالمية الأولى. وعودة الى المذكرات التي قدم لها الشيشكلي وهي بيت القصيد يمكن القول ان حسني الزعيم حرامي غسيل عبر بالسلطة لشهور قليلة ،فمواقفه السياسية لم تكن فوق الشبهات، وعمالته توضحت من اول اتفاقيتين وقعهما بعد انقلابه وهي اتفاقية الهدنة مع إسرائيل التي رفضت توقيعها الحكومات السابقة ، واتفاقية خطوط التابلاين مع شركة أرامكو النفطية وكان معروفا أن السعودية هي التي تدعمه،وأما خلفه سامي الحناوي فقد كان "مستجد سياسة" تلاعبت به زوجته،وشقيقتها زوجة عديله وساعده الأيمن أسعد طلس . أما الشيشكلي، فكان كفتح الله الصقال من طينة أكثر وطنية لكنها تحمل داخلها قناعة بأن ما تفعله هو لخدمة الوطن، فالشيشكلي لم يقم في الواقع بانقلاب واحد بل بثلاثة انقلابات متتالية لأنه كان شريكا لحسني الزعيم بانقلابه وكان مساعدا للحناوي في انقلابه على الزعيم قبل أن يقوم بالانقلاب الثالث لحسابه الخاص بمساعدة أكرم الحوراني المهندس السياسي للانقلابات العسكرية،وفي كل هذه الانقلابات كان هو ومن حوله يحرصون على القول بأن ما يقومون به هو خدمة للوطن لكن معظمهم كان يُصاب بمرض حسني الزعيم الذي شرحه وبين أسبابه الشيشكلي في مقدمته لكتاب الصقال . لقد كان للشيشكلي شقيقا في الحزب القومي السوري الاجتماعي لذا ينسبون له بعض أخطاء ذلك الحزب لكنه كان أقرب للعروبيين ،ومحسوبا على التيار القومي الذي كان يقاوم بشراسة مؤامرات حلف بغداد، وما أزمة السويداء التي أفسدت فترة حكمه وقادت للانقلاب عليه إلا من صنع ذلك الحلف فقد أدخل الهاشميون من الأردن بمساعدة نوري السعيد في العراق أسلحة الى محافظة السويداء للانقلاب عليه وتوقيع معاهدة اتفاق اتحاد فيدرالي بين العراق وسوريا ، فلما انكشفت الخطة وصودرت بعض مخازن الأسلحة بالمحافظة القريبة من دمشق قام الشيشكلي بقصف السويداء بالطيران،فانقلب عليه الجميع ، واضطر للاستقالة وخرج من البلد تحت جنح الليل مع ان القوة العسكرية كانت بيده وكان قادرا على افشال انقلاب مصطفى حمدون كما يقول الضباط من أنصاره . ومع ان انقلاب حمدون حدث في حلب فإن أزمة السويداء هي التي أخرجت اديب الشيشكلي من الحكم مستقيلا تحت ضغط الشارع السياسي ليموت بعد عشر سنوات في البرازيل برصاصة من نايف غزالة أحد أبنائها ، ولعل التاريخ يعيد نفسه ، ويكون حراك السويداء الحالي هو الذي سيخرج بشار الكيماوي من المعادلة السياسية السورية بعد أن أدى واجبه كاملا ليرضي مشغليه ، ويدمر على طريقة إجرام أبيه مستقبل ثلاثة أجيال من السوريين الذين لن تقوم لهم قائمة ما لم يتخلصوا من وريث آخر الانقلابيين في التاريخ السوري الحديث
--------------
مجلة العربي القديم
--------------
مجلة العربي القديم