وأياً كان اتفاق المرء أو اختلافه مع نصّ البيان، خاصة إذا وُضعت لغته الإجمالية في سياق أعرض يخصّ خلفيات الانتماء السياسي والإيديولوجي لكلّ من هذه المنظمات، والأداء الفعلي لها على الأرض؛ فإنّ قسطاً من التعداد الموضوعي للانتهاكات والمخاطر التي تحيق باللاجئين السوريين في المناطق غير الخاضعة لسيطرة النظام السوري (من جانب السلطات التركية والفصائل الجهادية والتكوينات العسكرية المختلفة) يمكن أن يسوّغ الركون إلى تثمين إيجابي لروحية البيان، ومطالبه وخلاصاته. هامّ، كذلك، أنّ البيان يحيل إلى القواعد المنصوص عنها في القانون الدولي الراهن، ضمن إطار اتفاقية اللاجئين سنة 1951 وبروتوكولاتها اللاحقة سنة 1967؛ والمبدأ العرفي (الذي يُلزم الدول غير المصادقة على اتفاقية 1951 أيضاً) الذي يحظر طرد طالبي اللجوء واللاجئين أو إعادتهم أو تسليمهم إلى مناطق قـد تتعرض فيها حياتهم أو حريتهم أو سلامتهم للخطر.
فإذا وضع المرء جانباً مسؤولية النظام السوري، وحليفيه الروسي والإيراني والميليشيات المذهبية المختلفة، عن النسبة الأعظم من الانتهاكات وجرائم الحرب، فهذه جلية في التشريد القسري لنحو 14 مليون سورية وسوري، أطفالاً وشيوخاً ويافعين ونساء ورجالاً؛ فإنّ المسؤوليات الرديفة تقع على عاتق الفصائل والتنظيمات والمجموعات السياسية والعسكرية التي تبسط سيطرتها على مناطق الشمال الغربي من سوريا، خارج سيطرة النظام، أي «هيئة تحرير الشام» وقوات ما يُسمى بـ«الجيش الوطني» أساساً، إلى جانب ما تبقى من «جيوش» جوفاء ومسميات طنانة على غرار «جيش البادية والملاحم» و«غرفة عمليات فاثبتوا» و«جيش الأحرار» و«فيلق الشام» و«حراس الدين» و«جيش العزة»… وحين لا تتقاتل هذه التكوينات فيما بينها، استحواذاً على منطقة نفوذ جديدة أو للحفاظ على أخرى قديمة؛ فإنّ شاغلها الأبرز هو ممارسة التسلط على الناس، ضمن ما أصاب المواطنون هناك في تسميته بـ«السلبطة».
وهكذا فإنّ التشخيص الأوضح والأكثر صواباً للجوء السوري في تلك المناطق هو وقوع اللاجئين بين المطرقة التركية وسندان الفصائل الجهادية والتشكيلات المرتبطة أصلاً مع أجهزة أنقرة العسكرية والاستخباراتية؛ وهذه حال ابتدأت وتواصلت وتحوّلت مراراً، لكنّ جوهرها لم يشهد من التبدلات الملموسة سوى تلك التي تتطلبها مصالح المطرقة التركية، ومقتضيات ما يُبرم في خدمتها من صفقات ومساومات تارة، أو عمليات عسكرية واحتلال المزيد من مساحات النفوذ تارة أخرى. ويستوي هنا، لجهة المنعكسات السلبية على المواطن السوري، أن ينجح توافق روسي ـ تركي مرّة، أو يتعثر مرّة أخرى؛ وأن تتخذ المسارات ذاتها تفاهمات أنقرة مع واشنطن هنا، أو تباعدها في قليل أو كثير هناك؛ ولا تُستثنى من النهج تعاملات أنقرة مع النظام السوري أو الولايات المتحدة أو كردستان العراق، بصدد قضايا الكرد وانضواء تنظيماتهم الحزبية والعسكرية في هذا الصفّ أو ذاك، في الشمال أو في محيط مدينة الرقّة أو شرق الفرات…
وبعد أن هدأت الطواحين الدونكيشوتية التي أثارتها المعارضة التركية في وجه رجب طيب أردوغان خلال الحملات الانتخابية الرئاسية والتشريعية الأخيرة، آن الأوان كي تتفرغ أجهزة أردوغان نفسه لإتمام ما ألزمت ذاتها به حول ملفات اللجوء السوري. الانتهاكات، حسب بيان المنظمات السبع، تستهدف اللاجئين السوريين الذين لم يسعفهم الوقت أو الفرصة لاستخراج الأوراق الرسمية المطلوبة لحيازة الإقامة، أو الذين لم يتمكنوا من تجديد إقاماتهم. ويجري اصطياد اللاجئين عشوائياً من الشوارع والأماكن العامة، ويُحرم المقتنَص من توكيل محامٍ، ويتمّ اقتياده إلى مراكز الترحيل من دون توديع أسرته، أو إتمام معاملات خروجه واستحصال حقوقه وتعويضاته المادية…
أمّا بعد المطرقة التركية، أي على السندان الذي تتولاه المجموعات المشار إليها في سطور سابقة، من خلائط الفصائل الجهادية والتشكيلات العسكرية المرتبطة بأنقرة وترتيباتها في الشمال السوري؛ فإنّ «السلبطة» إياها لا تبدأ من الممارسات «الفقهية» و«الشرعية» الدينية والتعليمية والإدارية، الأشدّ جاهلية من أردأ تمثيلاتها في الماضي السحيق؛ ولا تنتهي عند الممنوعات والمحظورات والسلب والنهب، بذرائع واهية ومضحكة أو من دون الاكتراث بأيّ تذرّع؛ وليس لها إلا أن تمرّ بالمعارك الجانبية بين «تحرير الشام» وكلّ منازع لسلطاتها، أو بين أيّ تنظيم أو جماعة أو زمرة، تنتحل احتكار الدين أو العزّة أو سواء السبيل والرباط والثبات. هنا بعض الانتهاكات التي رصدها بيان المنظمات السبع، والأرجح أنها غيض من فيض وما خفي خلف الرصد قد يكون أدهى وأفظع:
مقتل 7 مدنيين، بينهم امرأتان، بسلاح «تحرير الشام»؛ و9 مدنيين، بينهم طفل وامرأة، بسلاح «الجيش الوطني»؛ وأمّا قاذفات النظام وروسيا فقد واصلت استكمال المحنة المأساوية المفتوحة، فأجهزت على 98 شخصاً. من جانب «تحرير الشام» نحو 128 حالة احتجاز/ اعتقال، بينهم طفلان و3 نساء، تحوّل 101 بينها إلى اختفاء قسري؛ وما لا يقلّ عن 161 حالة اعتقال، بينهم 5 أطفال و14 امرأة، في مراكز الاحتجاز التابعة لفصائل المعارضة المسلحة/ «الجيش الوطني» تحوّل 118 بينهـم إلـى حالـة اختفـاء قسـري. هذا إلى جانب التجنيد الإجباري، وفقدان الأمن، والتدهور الاقتصادي، وشيوع البنى التحتية الهشة؛ إذا وضع المرء جانباً عواقب الزلزال الأخير، حيث المواطن ضحية البيروقراطية الفصائلية المحلية والتركية والأممية، على حدّ سواء.
لا يصحّ، كذلك، إغفال طراز إضافي من العسف والتعسف، مارسته وتمارسه أنماط أخرى تزعم الانتساب إلى «المعارضة» فترفع راية «المحاكم الشرعية» وتزيّف الشريعة الإسلامية أو تكيّفها على أهواء قادتها؛ وهم فقهاء الظلام ليس أقلّ، وليس أكثر أيضاً. ولقد جُلد رجال من أبناء المنطقة بتُهم سخيفة، جاهلية وعمياء ومنحطة، في شروط مقاضاة تمثّل بدورها إهانة وطنية قصوى للسوريين (كما في التعامي عن ملابسات الاستشهاد، وجلد رجل زوّج ابنته وهي في «عدّة الطلاق»)؛ وفي شروط إنسانية فاضحة تماماً، حتى بأي معنى «شرعي» (كأن يقوم بالجلد رجل ملثّم، بعد تلاوة قصاصة كُتب عليها حكم «المحكمة الشرعية»).
وذات يوم غير بعيد، اختير تاريخه عن سابق عمد وتصميم، قامت مروحيات النظام بإلقاء 23 برميلاً متفجراً على مدينة سراقب، جنوب شرق إدلب؛ ونفّذت القاذفات 14 غارة جوية على الأقلّ، وقعت آخرها لحظة أذان المغرب بالضبط، أي عند موعد إفطار الصائمين (وهذا، بدوره، لم يكن توقيتاً عشوائياً). البرميل المتفجر احتوى خلائط من الموادّ الناسفة، وقضبان حديد البناء المقطّعة إلى أجزاء قصيرة أُريد منها أن تتحوّل إلى طلقات خارقة متقدة، أشدّ فتكاً من الذخائر النارية الكلاسيكية. وأمّا ما ألقته القاذفات، فإنه بدأ من القنابل العنقودية، ولم يقتصر على الانشطارية، فضلاً عن هذا أو ذاك من صنوف الأسلحة الكيمائية.
تلك كانت، وتظلّ، مساهمة النظام في إضافة البرميل إلى أدوار المطرقة والسنديان؛ ولائحة المساهمات من خمسة احتلالات في سوريا لا تكفّ عن التراكم، والمنافسة والمزايدة.
القدس العربي