تنشأ الكيانات السياسية في بلادنا غاضبة ثائرة، تملك تصوراً إطلاقياً عن رؤيتها للماضي والحاضر والواقع، وترسم علاقاتها بالآخرين على قاعدة الحق والضلال، أو الإيمان والكفر، أو الوطنية والخيانة، وكانت الأحزاب تقدم مشاريعها للمجتمع علانية بأنها أحزاب انقلابية شاملة لا تستطيع التعايش مع الآخرين، فإن كانت تقدمية رفضت العيش مع الرجعية، وإن كانت إسلامية رفضت العيش مع العلمانية، ورسمت العلاقات بين الأحزاب السياسية بحدود الدم، وباتت مغاور الريب والشكوك والتخوين ضد الآخر على رأس ما يقوم به الناشط السياسي.
لن نتعلم أن العلمانية خيار والأصولية خيار، وأن الحكم المدني خيار وأن الحكم العسكري خيار، وأن الحكم الملكي خيار وأن الحكم الجمهوري خيار، لقد بات الحراك السياسي يعيش على نصال الأسنة، وينتظر لحظة مناسبة لينقض على الآخر الخائن والعميل والمتآمر والرجعي بدون أي رحمة.
لقد كان هذا أسلوب الاستبداد، ولكن المؤلم أنك بت تراه في كل كيانات المعارضة أيضاً، وبات التنافس بين فريقين لا ترسمه صورة التنافس السياسي المشروع بل ترسمه صورة التربص وتحين فرصة البطش، فالآخر دوماً عميل مرتهن مسلوب الإرادة لصالح الاستعمار والامبريالية، ولم يتوقف الأمر عند الحكام والظلام، والموالاة والمعارضة بل ينتقل تلقائياً إلى سوء الظن والريبة بين المواطن والمواطن، فالجميع إرادات مؤجرة تحممها إرادة الشيطان وعليك أن تبقي إصبعك على الزناد، وإذا كان في مسدسك عشر طلقات فاضرب عدوك بواحدة واضرب بالتسعة الأخرى زميلك الخائن! والخائن هنا هو المختلف عنك في الرأي والتوجه، وهذا على الأقل ما طبقه البعث العربي الاشتراكي خلال ستين عاماً من تجربته السوداء في سوريا والعراق.
لا يخرج السياق السوداني عن هذا الواقع، فالذين وثبوا ذات يوم لينقذوا السودان من حكم العسكر الأبدي لا يحملون مشاعر طبيعية تجاه الناس، وفي عقلهم الباطن التصنيف نفسه وطنيون وخونة، شرفاء وعملاء، وبعد أن جمعت قاعة مجلس قيادة الثورة أربع سنوات، فوجئ العالم بهم في لحظة واحدة يفقدون كل صواب ويقفزون إلى بنادقهم، ويضربون في المليان وهم يرددون نفس الشعارات الزائفة في حماية الأوطان والقضاء على المتآمرين والعملاء!
هل كانت هذه النتائج حتمية؟ للأسف لقد كانت نتيجة حتمية لتربية بلهاء نمارسها كل يوم باسم الوطنية وباسم الشرف وباسم مصلحة الشعب، حيث الآخر دوماً مريب وغامض ومتخف ومتآمر وعميل! ولا حل معه إلا بالبندقية!
هو خطاب سياسي متخلف يتحالف تقليدياً مع خطاب ديني متخلف، يقسم الناس ضرورة إلى مؤمنين وكافرين، ويقصر الوداد والتراحم والمحبة المأمور بها في الدين على إخوة الدين وحدهم فيما يصرح أننا مأمورون بالبغض في الله لكل كافر، وهو بغض يدفع تلقائياً إلى الحكم بالكفر والردة والاستعداد للبطش بالمختلف، وما زال الحكام الظلمة منذ عهد المسيح يتقربون إلى الجمهور بالبطش بمن يخرج عن سياق القطيع في التفكير ولو كان النبي عيسى وما يحيط به من طهارة ونبل، وهكذا نصب الحكام صليباً للمسيح بين لص وقاتل ولم تأخذهم في وحشيتهم لومة لائم وأعلنوا أنهم ينفذون إرادة الرب! .
قناعتي أن الحروب الأهلية المندلعة في البلدان الفاشلة لها سبب ثقافي جوهري، وهو رفض التنوع والنوم على الضغائن وتبرير الحقد والكراهية بعناوين مثل السيادة الوطنية ومقاومة الاستعمار والامبريالية وبعناوين دينية وهي محاربة الزنادقة والمرتدين والكفار.
من المؤلم الاعتراف بأن المصير السوداني كان حتماً مقضياً لثقافة بلهاء تمارس دون وعي تخوين الآخرين وتكفيرهم، وتعيش وهم العالم المتآمر علينا والذي يزرع بيننا أذنابه وذيوله وأن علينا قتالهم ومواجهتهم إلى آخر الدهر.
وحتى لا اتهم بالمبالغة فانا أشير هنا إلى ست دول فاشلة بالتحديد وهي الدول التي أوبقها حكامها بأوهام المؤامرة وزرعوا ثقافتها المسمومة جينياً إلى الأجيال العاثرة وباتت الموالاة والمعارضة والمدني والعسكر يرتكبون الحماقات نفسها ويقسمون العالم إلى الفسطاطين اللعينين حيث لا حسم إلا بالبندقية، وأنه لا مكان تجتمع فيه الوطنية والعمالة، والشرف والارتهان إلا المقابر!
---------
الناس نيوز