إنجاز حافظ الأكاديمي ليس الحالة الوحيدة في عائلته. فقد حصل عمه النقيب باسل الأسد على درجة الدكتوراه في العلوم العسكرية من موسكو بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف. كان ذلك عام 1991؛ قبل شهر من تفكك الاتحاد السوفيتي.
تفشّت هذه الظاهرة التي أطلق عليها اسم “الدكترة” الساخر في عهد نظام الأسد في سوريا منذ عام 1970، وأصبح الحصول على لقب “دكتور” هاجساً للكثيرين. وما يزال الحلم يراود والدي أي طفل سوري في أن يدرس أولادهم الطب ليكتبوا على باب منزلهم عبارة “منزل الدكتور”.
عندما تولى بشار الأسد السلطة، تحولت إدارة البلاد إلى شركة، مع وجود تكنوقراط يشرفون على مشاريعها. أدى هذا التحول إلى تكثيف الضغط على الأفراد لتقديم أنفسهم على أنهم نخب ذات تعليم عالٍ تليق بـ “الدكتور” ببشار. وخلق ذلك ثقافة أصبح فيها الحصول على درجة الدكتوراه وسيلة لتأمين مناصب مرموقة داخل الهيئات الحكومية والإدارية.
للأسف، لا تزال ثقافة الفساد والمحسوبية و”الدكتوراه” الزائفة سائدة في سوريا لأكثر من خمسة عقود، ما ساهم في تدهور البلاد ودمارها.
ولو تعمقنا في بعض الوقائع التاريخية التي تجسد ذلك الفساد لوجدنا أمثلة معروفة. في عام 1982، ادعى بهجت سليمان، الرائد في “سرايا الدفاع”، المعروفة بسمعتها السيئة، حصوله على درجة الدكتوراه في الاقتصاد السياسي من بودابست. جاء ذلك بالرغم من خلفيته العسكرية البحتة وانشغاله في ذلك العام “بمواجهة الاجتياح الإسرائيلي للبنان كقائد لواء دبابات”.
في تلك الآونة، أحسّ زعيم “سرايا الدفاع”، رفعت الأسد، شقيق الرئيس حافظ الأسد، بالإهانة من كون أحد مرؤوسيه حصل على شهادة عليا فيما هو يحمل درجة الإجازة الجامعية في التاريخ منذ عام 1974.
للأسف، لا تزال ثقافة الفساد والمحسوبية و”الدكتوراه” الزائفة سائدة في سوريا لأكثر من خمسة عقود، ما ساهم في تدهور البلاد ودمارها.
وإلى جانب قيادة “سرايا الدفاع” التي وصل عددها إلى أكثر من 40 ألف جندي، تولى العميد رفعت رئاسة مكتب التعليم العالي والبحث العلمي في القيادة القطرية لحزب البعث الحاكم، وهي فعلياً، أعلى سلطة علمية في سوريا. كذلك حصل بعدها صهره معين ناصيف؛ قائد اللواء 40 في “سرايا الدفاع”، على لقب “دكتور”.
وكان رفعت قد أسس “رابطة خريجي الدراسات العليا” عام 1974 ليضمن ولاءهم لنظام أخيه. وفاق عدد المنتسبين إليها خمسة آلاف أغدق عليهم رفعت الهدايا من سيارات وغيره.
هدفت الرابطة إلى تدجين قطاع التعليم العالي، أسوة ببقية القطاعات، ومهدت لتمرير عناصر غير مؤهلة تبوّأت لاحقاً مناصب متقدمة في الجامعات وفي جميع مفاصل الدولة.
وإلى جانب مهمتها في الدفاع عن نظام الأسد والعاصمة دمشق من أي هجوم خارجي أو داخلي، رعت “سرايا الدفاع” دورات القفز المظلي لمنتسبي اتحاد شبيبة الثورة التابع لحزب البعث الحاكم من الفتيان والفتيات. وكافأ رفعت أولئك الذين اجتازوا إحدى تلك الدورات بإضافة 45 درجة إلى المحصلة النهائية لكل منهم في الشهادة الثانوية من أصل مجموع 220 درجة. وذلك أهّل المظليين بسهولة لدراسة اختصاصات جامعية عليا، كالطب، بغض النظر عن تدني مستوياتهم الدراسية.
وبعد عشر سنوات من الفساد والمحسوبية، وإثر فضّ الخلاف بين الرئيس حافظ وأخيه رفعت، أمر حزب البعث في عام 1984 أعضاء الحزب المنتسبين إلى الرابطة أن يتخلوا عنها. وبذلك اختفت تلك الرابطة.
كما جرى حل “سرايا الدفاع” المسؤولة عن مجازر في مدن حلب وحماة وتدمر. وتبعها “تطهير” الجيش السوري والمؤسسات الأمنية من أتباع رفعت الذي غادر البلاد.
في تلك الأثناء، توجه العقيد سليم بركات، مسؤول جهاز الأمن في “السرايا” ثم قائد “الكتيبة 170″، المسؤولة عن حماية مقر القيادة العامة للجيش، إلى جامعة دمشق. كانت الجامعات السورية قد باتت ملجأ أمثاله من الضباط؛ وغيرهم من “الدكاترة” المزيفين أمثال فواز جميل الأسد ومحمد توفيق الأسد (المعروف بـ “شيخ الجبل”)؛ ابناء أشقاء رئيس الجمهورية. في جامعة دمشق، حصل بركات على دكتوراه في العلوم السياسية وما يزال أستاذاً فيها حتى اليوم.
روى أكثر تلك الحوادث وزير الدفاع السوري الأسبق، العماد أول مصطفى طلاس، الذي كان يحمل درجة بروفسور في العلوم العسكرية، وثلاث شهادات دكتوراه في العلوم العسكرية والتاريخية والإنسانية، وشهادة ماجستير في العلوم الهندسية.
واستمر السعي محموماً وراء الألقاب الأكاديمية بين مسؤولي النظام. فبعد أن أصبح رئيساً للفرع الداخلي (251) في إدارة المخابرات العامة، حصل اللواء بهجت سليمان على درجة دكتوراه في العلوم العسكرية من موسكو عام 1998.
وحال تعيينه وزيراً للأوقاف في سوريا عام 2007، حصل عبد الستار السيد على “شهادة الاستحقاق والتقدير العالي بمرتبة علامة مفكر والمساوية للدرجة العالمية ‘دكتوراه دولة'” من جامعة الحضارة الإسلامية المفتوحة في كندا المشكوك بوجودها. وما يزال السيد وزيراً للأوقاف حتى اليوم.
إقرأوا أيضاً:
في عام 2002، أصدر العماد طلاس كتاباً أبرز فيه ممارسات رفعت الأسد من غير أن يُشير إلى دور أخيه حافظ وكارثية نتائج ذلك مما يعيشه السوريون اليوم. وكتب طلاس أنه في عام 1975، تلقى شكوى من رئيس قسم التاريخ بجامعة دمشق، الدكتور محمد خير فارس، عن أن الطالب رفعت يأتي مع مفرزة من الحرس إلى الجامعة أيام الامتحان. فردّ طلاس: “لا تفعل شيئاً لأنه لن يعمل لديكم أستاذ تاريخ.”
صحيح أن رفعت لم يعمل أستاذاً للتاريخ، لكنه صنع تاريخاً من الشهادات المزورة والجو الجامعي الأكاديمي الموبوء. فجامعات سوريا خارج التصنيفات الأكاديمية الدولية. وخريجوها يعانون صعوبات كبيرة في سوق العمل بسبب نوعية التعليم المتدنية في غالبيتها.
كما أن سمعة خريجي الجامعات السورية اليوم الذين باتوا يعانون من شبكات التزوير تقلل من قيمة شهاداتهم الجامعية. إذ تقول أنباء أن السويد مثلاً غارقة بالشهادات السورية المزيفة، وأن لذلك عواقب وخيمة تؤدي إلى أن السوريين الذين أتمّوا تعليمهم بالفعل يجدون صعوبة أكبر في إثبات أنها شهاداتهم معتمدة.
ويبقى السؤال الكبير: لماذا يعمد مسؤولو النظام السوري للعلاج في مستشفيات الخارج، وإرسال أبنائهم للدراسة في الخارج طالما أن الوضع في المؤسسات الأكاديمية في بلادهم ممتاز. يبدو أن ما يبحثون عنه هو مرتبة الشرف.
------
درج