أما حواره المستجد اليوم، بعضه يتعلق بـ"اللامركزية الموسعة" (العصية على التحديد) وبعضه الآخر ما يتعلق بـ"الصندوق السيادي" (إنقاذ المافيا السياسية المصرفية)، ومنهما وعليهما تتم صفقة الرئاسة.
بمعنى آخر، باسيل هو نفسه منذ 2006 في حواره مع حزب الله: الذمّية المتحذلقة.
في المقلب الآخر، هناك "الأب الروحي" لمصطلح الحوار بمعناه اللبناني السقيم، الرئيس نبيه برّي، صاحب طاولات الحوار الكثيرة التي كانت وظيفتها الأولى، نفي جدوى مجلس النواب ودوره، وتعليق "النظام". أما وظيفتها الثانية فهي الأهم: التطبيع المهين مع الأمر الواقع والتسلط بطريقة لبقة. فكلما دعا برّي للحوار، كان ذلك يعني: تجنبوا الحرب عليكم بالإذعان المنمق.
لا نعتقد أن أي تلميذ لغة قادر على تشويه معنى لفظتي "التوافق" و"الحوار" كما يفعل قادة حزب الله ونوابه ومفوهوه. فبالنسبة إليهم، المفردتان ترادفان قاموسياً معنى معاكساً تماماً: الرضوخ.
والمعضلة هنا مع الحزب تشبه ما أصاب بطل رواية جورج أورويل "1984"، وينستون سميث، الذي كان عليه أن يبرهن لجلاده أنه يحب فعلاً "الأخ الأكبر"، أن يقدم الدليل أن ولاءه نابع من ضميره، وليس فقط مجرد رضوخ وإذعان ليتخلص من التعذيب والسجن وتهمة الخيانة والتمرد. معضلة كان حلّها بيد الجلاد وحده.
هذا النوع من التوافق والحوار، ابتداء من العام 2005 وإلى اليوم، كانت أشبه بمعضلة الاستيلاء على الضمير: متى سيقتنع وجدانياً الشطر الأكبر من اللبنانيين بما يراه الحزب صواباً وحقاً. أو متى يقتلع الحزب "الخيانة" من نفوسهم.
هذا هو المأزق الوطني الكبير.
إذا أردنا اليوم استعادة المعنى الأصلي للحوار، فالشرط الأول هو التكافؤ والتساوي والاحتكام إلى مرجعية عادلة وثابتة (الدستور، نصاً وروحاً). والشرط الثاني هو التمثيل الفعلي لوجهتين أساسيتين تتصارعان اليوم على مصير البلد. ليس مبالغة حصر ذلك بشخصيتي حسن نصرالله وسمير جعجع. النقيضان حتى النخاع. "الشبيهان" أيضاً في مرآة التعاكس والتضاد.
لبنان نصرالله نقيض لبنان جعجع. والأرجح أن "التعايش" يشهد أوقاته الأخيرة. التذاكي والتحايل والتدليس و"التسويات" أيضاً استنفدت على نحو فاسد ومؤذ. معركة رئاسة الجمهورية أفضت إلى استحالة استمرار "الديموقراطية التوافقية" (وهي أصلاً هرطقة تامة). الكلام "العاطفي" عن الطلاق والانفصال ليس ثرثرة طالما أنه يمس وجدان أغلب المسيحيين، وشطر وازن من المسلمين والعلمانيين والمدنيين الذين يتأهبون نفسياً لطلب "اللجوء" إلى الفيدرالية المسيحية المتخيلة.
إزاء ذلك، من واجب حزب الله اليوم أن يطرح على نفسه السؤال: لماذا يخاصموننا؟ لماذا هذه الرغبة "المنحرفة" بالانفصال؟
بهذا المعنى يكون الحوار المجدي. وهو حتى الآن مستحيل. فهناك من لا يريد إزاحة مسدسه عن الطاولة.
ذات مرة، خطب نصرالله، بعد حادثة الطيونة الدموية، متحدثاً عن أعداد مقاتلي "القوات اللبنانية" و"حزب الله".
ذاك هو ما يتراءى في كوابيس اللبنانيين هذه الأيام.
-------
المدن