وتعد الحالة الفلسطينية نموذجية في فهم أدائية البناء السياسي لمصطلح الإرهاب، حيث تصنف حركات المقاومة الفلسطينية للاستعمار الاستيطاني الصهيوني منظمات إرهابية، وتكشف حرب الإبادة الأمريكية في غزة آليات التلاعب الأمريكي وعملية اختراع الإرهاب، وكيف تعمل السياسات الإمبريالية الأمريكية على خلق الإرهاب من خلال سياسات الردكلة، إذ تصر الولايات المتحدة على ربط العنف والتطرف والإرهاب بالثقافة والدين، وتتجاهل الأسباب الجذرية للراديكالية والعنف التي لا تكف عن خلقها، تحت ذريعة تحقيق الاستقرار، فقد برزت ظاهرة صناعة "الإرهاب" في ظل ثلاثة ظروف رئيسية تسببت بها الولايات المتحدة الأمريكية؛ الظرف الأول: محلي وطني يتمثل بانغلاق الأنموذج السياسي وفشل وعود التحول الديمقراطي ورسوخ الاستبداد، والثاني: إقليمي يتمثل بعدم التوصل إلى سلام عادل وحقيقي في فلسطين، والثالث: عالمي تمثل بانهيار الاتحاد السوفياتي وسيادة القطب الأميركي الواحد وحلول العولمة، وقد حرصت واشنطن على دعم الاستبداد العربي المحلي وديمومة الاستعمار الاستيطاني الصهيوني، لضمان الهيمنة والسيطرة على المنطقة,
إن ردكلة المنطقة تزامنت مع اختراع الإرهاب بوصفه العدو الرئيس للغرب مع صعود المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية في منتصف سبعينيات القرن الماضي، حيث بدأت الإدارة الأمريكية بتحويل الإرهاب إلى أيديولوجية سياسية، وفصله عن دراسة العنف السياسي حيث تحول المنهج الأكاديمي في التعامل مع الإرهاب إلى دعاية في خدمة الحكومة، فـ"الإرهاب" ليس تسمية محايدة للعنف السياسي، بل هو مبني اجتماعيًا وتاريخيًا بطرق لها آثار مهمة، وأحد هذه الأسباب هو أن هناك ميلًا إلى فهم الأفعال التي توصف بأنها "الإرهاب" على أنها ناجمة عن شكل من أشكال الهوية الجوهرية، بدلاً من كونها ناشئة عن ظروف اجتماعية وتاريخية وسياسية معينة، إذ يتم تعريف الإسلام والمسلمين على أنهم "سبب" الإرهاب، ويرجع ذلك جزئيًا إلى الطريقة التي يتم بها تعريف "الإرهاب"، وأنواع الأحداث التي يتم تعريفها أو عدم تعريفها على أنها "إرهاب"، حيث من المرجح أن يتم تصنيف الهجمات التي يرتكبها مسلمون على أنها "إرهاب" مقارنة بالهجمات المرتكبة من قبل غير المسلمين، وإحدى نتائج هذا الخطاب، هي أن "المسلمين" أنفسهم تم تعريفهم على أنهم مشكلة، ونحن نشهد الآن رغبة أكبر في النظر إلى جميع المسلمين باعتبارهم مشكلة..
منذ اللحظة الأولى لعملية "طوفان الأقصى" سارعت إسرائيل إلى مقارنة حركة "حماس" بتنظيم "داعش"، وقد تماهت الخطابات الإمبريالية الأمريكية مع الخطابات الاستعمارية الصهيونية باعتبار "حماس" هي "داعش"، فالرئيس الأميركي جو بايدن، وصف عملية طوفان الأقصى بـ "الشر الخالص المحض"، وأن "حماس" "جماعة هدفها المعلن هو قتل اليهود"، معتبراً طوفان الأقصى شكلاً من أشكال الإرهاب، مصرّحاً بأن "وحشية حماس تعيد إلى الأذهان أسوأ هيجان لداعش"، فاستخدام تهمة "الإرهاب" لكل مقاومة تناهض مشاريع الهيمنة الإمبريالية والاحتلال الاستعماري هي السمة المميزة للإمبريالية والكولونيالية، الذي يرتكز إلى عقبدة التفوقية العرقية البيضاء وخطابه المؤسس على الحضارة في مواجهة البربرية، فالخطابات والممارسات الإمبريالية _ الصهيونية لا ترى في المسلمين والعرب والفلسطينيون سوى مشاريع إرهابيون، فحركات المقاومة الفلسطينية على اختلاف توجهاتها السياسية والإيديولوجية تصنف منظمات إرهابية، وليست مقارنة حماس بداعش سوى حلقة واحدة في سلسلة ممتدة من ترسانة عدوانية تقوم على استراتيجيات الهيمنة والإخضاع وتفكيك أي محاولة للتمرد والمقاومة، وقد استحضر الخطاب الإمبريالي _ الصهيوني ظاهرة "الإسلاموفوبيا" التي هي جزء من خطاب الترهيب بتشبيه عملية "طوفان الأقصى" بأحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001,
سوف تؤدي الحرب الأمريكية على غزة إلى تصاعد الردكلة في المنطقة، حيث بدأت تظهر مؤشرات عدة على تعافي الجهادية العالمية، وخصوصاً النهج الأكثر راديكالية الذي يقوده تنظيم "الدولة الإسلامية"، إذ يوفر الانخراط الأمريكي الكامل إلى جانب الاحتلال الصهيوني في حرب الإبادة على غزة ترسانة خطابية واسعة تعزز من جاذبية خطاب تنظيم "الدولة"، الذي يقوم على إيديولوجية خطابية شمولية تربط بين الإمبريالية الأمريكية والغربية والاستعمارية الصهيونية والاستبدادية العربية، فالتواطؤ والتعاون بين هذه القوى أصبح حقيقة لا تقبل الجدل بين معظم شعوب المنطقة، فالمشاركة الأمريكية في الحرب على غزة بلغت حد الوقاحة، فمنذ بداية الحرب في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، قدمت الولايات المتحدة الأمريكية دعماً كبيراً للاحتلال من خلال تبني السردية الصهيونية، ورفضت وقف الحرب على غزة، وبررت قتل الأطفال والنساء والشيوخ، وقدمت تمويلات ضخمة للاحتلال الصهيوني,
انخرطت أمريكا في حرب غزة بشكل مباشر منذ اللحظة الأولى، حيث قامت بإطلاق مسيّرات فوق غزة؛ بحجة معرفة أماكن الرهائن الإسرائيليين لدى المقاومة الفلسطينية، وهي المرة الأولى التي تعمل فيها طائرات أمريكية من دون طيار فوق غزة، ويبدو أن هناك ما لا يقل عن 6 طائرات من دون طيار من طراز MQ-9،وقام الكونغرس الأمريكي بالمصادقة في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، على ميزانية "عاجلة وغير مسبوقة" بقيمة 14.3 مليار دولار لدعم الاحتلال الإسرائيلي، وأرسلت وحدة استكشافية من مشاة البحرية و2000 جندي إلى إسرائيل، وقامت أمريكا أيضاً بتحويل مسار حاملة الطائرات "يو إس إس جيرالد آر. فورد" الأقوى في العالم، باتجاه فلسطين، في خطوة لإبداء الدعم للاحتلال، بطاقمها المكون من نحو 5000 فرد، وقامت بإرسال حاملة الطائرات الهجومية "يو إس إس أيزنهاور" إلى البحر الأبيض، وحركت واشنطن 75 طائرة مقاتلة باتجاه إسرائيل، وقامت وزارة الدفاع الأمريكية بإرسال اثنين من أنظمة الدفاع الصاروخية إلى إسرائيل، رغم أن الأخيرة لديها منظومة القبة الحديدية، وكشفت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية، أنه منذ بداية الحرب، وصلت 230 طائرة و20 سفينة شحن أميركية، تحمل مساعدات عسكرية، إلى إسرائيل، وكانت الولايات المتحدة قد فتحت جسرا جويا لنقل الأسلحة إلى إسرائيل، منذ بدء عملياتها العسكرية على قطاع غزة، وكشفت صحيفة واشنطن بوست عن أن الولايات المتحدة الأميركية وافقت على أكثر من 100 صفقة مبيعات سلاح لإسرائيل وسلمتها لها منذ بداية حربها المدمرة على قطاع غزة،
تلتزم واشنطن بأمن المستعمرة الإسرائيلية بصورة واضحة، حيث وقعت مذكرة التفاهم لمدة 10 سنوات بقيمة 38 مليار دولار (3.8 مليارات سنويا) والتي تم إبرامها عام 2016. وتماشيا مع مذكرة التفاهم تلك، تقدم واشنطن 3.3 مليارات دولار سنويا في شكل تمويل عسكري و500 مليون دولار إضافية لتمويل الدفاع الصاروخي، ويدعم تمويل الدفاع الصاروخي العديد من برامج الدفاع الصاروخي التعاونية، ومنذ عام 2022، تقدم واشنطن مليار دولار إضافي تمويلا تكميليا لتجديد مخزون إسرائيل من الصواريخ الاعتراضية للقبة الحديدية، وتعد إسرائيل أكبر متلق للمساعدات الخارجية الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية، ووفقا للمؤشرات الرسمية الأميركية، بلغت المساعدات الإجمالية المقدمة من الولايات المتحدة لإسرائيل فيما بين عامي 1946 و2023 نحو 158.6 مليار دولار، وحسب بيانات "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" فإن حجم المساعدات أكبر بكثير مما جاء في التقديرات الرسمية، إذ وصل إجمالي المساعدات الأميركية الملتزم بها لإسرائيل في الفترة ذاتها نحو 260 مليار دولار، وكشفت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية، نقلا عن مسؤولين في وزارتي الدفاع والخارجية الأمريكيتين، عن موافقة إدارة بايدن خلال الأيام الماضية على تقديم حزمة مساعدات تقدر بمليارات الدولارات لتل أبيب. ونقلت الصحيفة عن مصادر وصفتها بالمطلعة أن الحزمة تشمل أكثر من 1800 قنبلة من طراز إم كيه 84، وقنابل زنة 2000 رطل فضلا عن 25 طائرة حربية من طراز إف 35 إيه ومحركات.
لم تكن الإمبريالية الأمريكية بحاجة إلى خطابات الاستعمارية الصهيونية حول الإرهاب، لتبرير خطاب استعلائي عنصري تجاه الفلسطينيين ومن خلفهم العرب والمسلمين، فالكراهية الغربية العميقة المتأصلة للإسلام والمسلمين عموماً والعرب خصوصاً، تسند إلى سياسات الهوية الصلبة، إذ يعرّف الغرب العلماني نفسه بنسخته المسيحية ـ اليهودية المحدثة كنقيض للإسلام كدين وشكل حياة، فالإسلام إبان قوته ولا يزال راهن ضعفه يشكل للغرب هاجساً مقلقاً باعتبار الإسلام كينونة مناهضة للغرب كنقيض إبستمولوجي وتحدي جيوسياسي، إذ تهدف السردية الخطابية الإمبريالية الصهيونية بنزع صفة الإنسانية عن الفلسطينيين إلى تبرير عمليات القتل والإبادة، لكن الأمر المدهش أن الأنظمة الاستبدادية العربية تبنت السردية الإمبريالية الصهيونية حول الإرهاب، فبعد الانقلاب على انتفاضات الربيع العربي وإعادة بناء الدكتاتوريات العربية ظهرت تصورات جديدة حول مهددات الاستقرار السلطوي في المنطقة اختزلت بالإسلاميين على اختلاف توجهاتهم السياسية الديمقراطية السلمية والجهادية الثورية، وتبلورت عن رؤية تقوم على تصفية القضية الفلسطينية وإدماج المستوطنة الاستعمارية الإسرائيلية في نسيج المنطقة، من خلال تأسيس تحالف بين الإمبريالية الأمريكية والدكتاتوريات العربية والاستعمارية الإسرائيلية تحت ذريعة مواجهة الخطر المشترك المتمثل بالحركات الإسلامية؛ التي تقوم أيديولوجيتها على مناهضة الإمبريالية والاستبدادية والاستعمارية، وأصبحت الأنظمة الاستبدادية العربية شريكة للإمبريالية الأمريكية والمستعمرة الصهيونية في التصورات الأساسية للمنطقة، وهي تتبنى السردية الأمريكية الإسرائيلية حول ماهية الإرهاب وهوية الإرهابي، وعلى ضوئها تتشكل نظرتها للقضية الفلسطينية ومستقبل الشرق الأوسط.
في زمن الاستقرار في ظل الهيمنة الأحادية الأمريكية بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 أصبحت عولمة "الإسلاموفوبيا" صناعة إمبريالية غربية رائجة، وبعد الانقلاب على ثورات الربيع الغربي أعيد تشكيل النظام العربي باستبعاد أي شكل من عملية تسيس الإسلام، والانتقال إلى إدماج المستعمرة الصهيونية في المنطقة، ومنذ الانقلاب على انتفاضات "الربيع العربي"، وفي حقبة تاريخية تماهى فيها الخطاب السلطوي الرسمي العربي مع المقاربة الصهيونية الإسرائيلية والإمبريالية الغربية، وتناسى أسباب العنف الإسرائيلي في غزة الذي حوله الاحتلال إلى معتقل وسحن كبير، فقد تجاهل الجميع الخلفية التاريخية والسياقية للمشروع الاستعماري الإسرائيلي الذي يستند إلى الاحتلال والإخضاع والإبادة والمحو والتطهير، كما تناسى المجتمع الدولي حقيقة شرعية المقاومة الفلسطينية المناهضة للاستعمار وكحركة تحرر وطني، الأمر الذي جعل من تكرار إسرائيل لجرائمها في غزة شيئاً ممكناً، بل واجباً يقوم على حق الدفاع عن النفس، بينما حشرت حركات المقاومة في خانة "الإرهاب"، حيث أصبح الوهم القائل بأن القضية الفلسطينية يمكن محوها أو نسيانها حقيقة مقبولة لدى المستوطنين الإسرائيليين وحلفائهم الدوليين، وتنامى الاعتقاد أن المقاومة الفلسطينية باتت قضية منسية ومهجورة، وأن إسرائيل قادرة على الحفاظ على وجودها غير القانوني إلى أجل غير مسمى لأنها صاحبة اليد العسكرية العليا، وقد عززت مسارات التطبيع مع الدول العربية السلطوية في جعل الاحتلال حقيقة دائمة وحالة طبيعية، حيث تماهت الخطابات الإمبريالية الغربية والاستعمارية الصهيونية والاستبدادية العربية مع أسطورة "الإرهاب الإسلامي"، وخرافة الإسلام السياسي كمهدد للاستقرار.
إن عملية ردكلة المنطقة هي صناعة أمريكية، إذ لم تعد قضية الديمقراطية ومسألة حقوق الإنسان جوهرية في السياسات الدولية والإقليمية، وأصبحت شأناً ثانوياً داخلياً من متطلبات السيادة الوطنية، وتحولت مدارك النظر إلى القضية الفلسطينية من مسألة استعمار واحتلال وعدالة سياسية إلى مشكلة إنسانية، وتبدلت النظرة إلى إسرائيل من دولة استعمارية عنصرية توسعية مهددة للاستقرار إلى شريك في صناعة الاستقرار الإقليمي، وهكذا أسدل الستار على نظريات إدماج الإسلاميين في الحكم، وضرورة اشتمال الاعتدال في السلطة، وانتهت مقولات الاعتدال وجدار الوقاية، وغدت الحركات الإسلامية تتقلب بين تعريفها بين كونها حزام ناقل للتطرف والعنف، أو اعتبارها حركات عنيفة إرهابية، وتبلورت عقيدة دولية جديدة حول ماهية الاستقرار ومكوناته في نظام سلطوي في الشرق الأوسط، وأصبح وجود اسرائيل مشروط بوجود أنظمة استبدادية عربية تقمع الإرادة الحرة للشعوب، وغدت الوظيفة المقدسة للاستبدادية العربية العمل كحاجز حماية بين إسرائيل والشعوب العربية، فالعلاقة بين "عملية السلام" والديمقراطية في المنطقة العربية حسب الرؤية الأمريكية والإسرائيلية باتت توصف بالعلاقة المعقدة، وهو ما يفرض التضحية بالديمقراطية وحقوق الإنسان لجلب السلام والاستقرار الإقليمي في ظل الهيمنة العالمية الأمريكية. واختفت النظرة إلى الكيان الإسرائيلي كعدو مهدد للاستقرار، وباتت إسرائيل بمنزلة الصديق، بعد أن أصبحت المستعمرة الصهيونية الإسرائيلية صلة الوصل بين الأنظمة الاستبدادية والإمبريالية الأمريكية.
يجب الالتفات إلى أن إلحاق هزيمة نهائية بالحركة الجهادية غبر واقعي ولا ممكن في ظل السياسات الأمريكية، فلا زالت الجهادية العالمية تتمتع بجاذبية كافية، إذ لا يتعلق الأمر بمقاربة عسكرية لمجموعات تعمل خارج سياقات الدولة والمجتمع، إذ تستند الجهادية إلى أسباب جذرية عميقة سياسية واقتصادية واجتماعية، وهي تأخذ أبعاداً متغيرة ومرنة، وتتمتع بالقدرة على التكيّف مع التحولات، وبعد أن كانت القاعدة تنظيماً نخبوياً طليعياً مركزياً في أفغانستان، أصبحت الآن أكثر انتشاراً، وباتت تتنافس فيما بينها على النفوذ والسيطرة، وأصبحت أشد خطورة بعد انقسامها إلى ثلاث مدارس جهادية، حيث شهدت الجهادية العالمية انشطاراً وانقساماً، عقب ثورات الربيع العربي، إلى ثلاث مدارس رئيسة؛ الأول: يتمسك بأجندة القاعدة التقليدية، والتي تنص أولويّاته على أولوية قتال العدو البعيد ممثلاً بالغرب عمومًا والولايات المتحدة خصوصًا، باعتبارها حامية للأنظمة العربية الاستبدادية، وراعية لحليفتها الاستراتيجية "إسرائيل"، وتبنت نهجاً قتالياً واستراتيجياً بقوم على تنفيذ عمليات قتالية انتقامية تستند إلى مفهوم جهاد "النكاية"، من خلال طليعة مهمتها الوصول إلى خلق حالة إسلامية تصل إلى جهاد الأمة، والثاني يقوده الفرع العراقي المعروف بــ "الدولة الإسلامية" بزعامة وترتكز أجندته على أولوية مواجهة العدو القريب، في إطار عقيدة شمولية تقوم على دمج الأبعاد الجهادية المحلية والإقليمية والدولية، والجمع بين أنماط وأساليب الجهاد المختلفة، وفي مقدمتها، جهاد "التمكين" من خلال فرض السيطرة المكانية على الأرض، وفرض حكامتة وتطبيق الشريعة، وإعلان الخلافة، والثالث يتشكل من مجموعات جهادية تتبنى مواقف محلية أقرب إلى الفرع السوري المنشق عن القاعدة بقيادة هيئة تحرير الشام ــ جبهة النصرة سابقاً، وهي قريبة من نهج حركة طالبان في أفغانستان حيث سعت الهيئة للتخلص من إرث القاعدة والدولة باعتبارها تتوافر على أجندة متشددة على الصعيدين الإيديولوجي والاستراتيجي، وشرعت بتقديم نفسها كمجموعة جهادية محلية دون أي أجندة جهادية عالمية.
تتمتع القضية الفلسطينية بأهمية فائقة في عقيدة ومحركات الجهادية العالمية، لكن ثمة خلافات إيديولوجية عميقة بينها حول الأولويات والاستراتيجيات، وتعريفات الصديق والعدو وحدود الولاء والبراء، ففي سياق التحولات الجذرية في بنية القوى الدولية، أعادت الجهادية العالمية تأسيس أيديولوجيتها على مركزية المسألة الفلسطينية، حيث عملت على بناء سردية قتالية محورها فلسطين، التي غدت في صلب المشروع الجهادي العالمي منذ بداياته الأولى في أفغانستان نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، وفي حقبة العولمة احتلت فلسطين مكانة مركزية في إيديولوجيا القاعدة، وعقب عملية السابع من أكتوبر التي شنتها حركة "حماس" ، والرد الإسرائيلي الوحشي وحرب الإبادة على قطاع غزة، تباينت مواقف الجهادية العالمية وممثليها من تنظيم "القاعدة" إلى تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، حول حركة "حماس" نتيجة الخلافات الإيديولوجية التاريخية، لكن مواقفها حول القضية الفلسطينية بقيت ثابتة.
خلاصة القول أن حرب الإبادة الأمريكية الإسرائيلية المشتركة على الشعب الفلسطيني في غزة، سوف تعمل على دفع المنطقة إلى ردكلة غير مسبوقة، فعملية "طوفان الأقصى" عززت من مكانة حركة حماس ونهجها كحركة مقاومة وتحرر وطني إسلامي، وفي نفس الوقت عززت من مكانة وخطاب وممارسة الحركات الجهادية العالمية، وإن إصرار السردية الأمريكية والصهيونية على وضع حماس و"القاعدة" و"داعش" في السلة نفسها، سوف يدفع الأجيال الشابة في المنطقة إلى مزيد من الردكلة، وقد نشهد في المستقبل صور من التحالف بين مكونات الحركات الجهادية على اختلاف توجهاتها الإيديولوجية والاستراتيجية على برنامج موحد، ومع أن حركات المقاومة الفلسطينية تصر على أنها حركات تحرر وطني تناضل من أجل الحرية والاستقلال ضد نظام استعماري فاشي عنصري، فإن حرب الإبادة تساهم في تقريب المسافة بينها وبين الجهادية العالمية التي تنقسم بين نهجين، فالقاعدة تتمسك بأولوية قتال العدو البعيد ممثلاً بالغرب عمومًا والولايات المتحدة خصوصًا، باعتبارها حامية للأنظمة العربية الاستبدادية، وراعية لحليفتها الاستراتيجية "إسرائيل"، وتبنى نهجاً قتالياً واستراتيجيا بقوم على تنفيذ عمليات قتالية انتقامية تستند إلى مفهوم جهاد "النكاية"، أما تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" فترتكز أجندته على أولوية مواجهة العدو القريب، في إطار عقيدة شمولية تقوم على دمج الأبعاد الجهادية المحلية والإقليمية والدولية ويصر على قتال العدو القريب من الأنظمة ويعتبرها كافرة مرتدة، ويؤكد على قتال العدو البعيد الأمريكي والأوروبي باعتباره كافر صليبي، ويشدد على قتال العدو الوسيط الإقليمي الإيراني الشيعي ويصفه بالكفر والإقليمية من خلال تنفيذ "المشروع الصفوي"، ويدعو إلى قتال العدو الإسرائيلي اليهودي، ويصفه بالكفر والعنصرية من خلال تحقيق "المشروع الصهيوني"، فالأساس الهوياتي الديني هو المحرّك الإيديولوجي للتنظيم، وإذا كانت فلسطين محل إجماع لدى الجميع، فإن طريقة التحرير ومواجهة المشروع الصهيوني تشكل نقاط خلاف بين المشاريع الجهادية، ويبدو أن الحرب الأمريكية والصهيونية على غزة وتواطؤ النظام الاستبدادي العربي يقود نحو ركلة المنطقة وجسر الفجوة بين المدارس الجهادية المختلفة,
إن ردكلة المنطقة تزامنت مع اختراع الإرهاب بوصفه العدو الرئيس للغرب مع صعود المحافظين الجدد في الولايات المتحدة الأمريكية في منتصف سبعينيات القرن الماضي، حيث بدأت الإدارة الأمريكية بتحويل الإرهاب إلى أيديولوجية سياسية، وفصله عن دراسة العنف السياسي حيث تحول المنهج الأكاديمي في التعامل مع الإرهاب إلى دعاية في خدمة الحكومة، فـ"الإرهاب" ليس تسمية محايدة للعنف السياسي، بل هو مبني اجتماعيًا وتاريخيًا بطرق لها آثار مهمة، وأحد هذه الأسباب هو أن هناك ميلًا إلى فهم الأفعال التي توصف بأنها "الإرهاب" على أنها ناجمة عن شكل من أشكال الهوية الجوهرية، بدلاً من كونها ناشئة عن ظروف اجتماعية وتاريخية وسياسية معينة، إذ يتم تعريف الإسلام والمسلمين على أنهم "سبب" الإرهاب، ويرجع ذلك جزئيًا إلى الطريقة التي يتم بها تعريف "الإرهاب"، وأنواع الأحداث التي يتم تعريفها أو عدم تعريفها على أنها "إرهاب"، حيث من المرجح أن يتم تصنيف الهجمات التي يرتكبها مسلمون على أنها "إرهاب" مقارنة بالهجمات المرتكبة من قبل غير المسلمين، وإحدى نتائج هذا الخطاب، هي أن "المسلمين" أنفسهم تم تعريفهم على أنهم مشكلة، ونحن نشهد الآن رغبة أكبر في النظر إلى جميع المسلمين باعتبارهم مشكلة..
منذ اللحظة الأولى لعملية "طوفان الأقصى" سارعت إسرائيل إلى مقارنة حركة "حماس" بتنظيم "داعش"، وقد تماهت الخطابات الإمبريالية الأمريكية مع الخطابات الاستعمارية الصهيونية باعتبار "حماس" هي "داعش"، فالرئيس الأميركي جو بايدن، وصف عملية طوفان الأقصى بـ "الشر الخالص المحض"، وأن "حماس" "جماعة هدفها المعلن هو قتل اليهود"، معتبراً طوفان الأقصى شكلاً من أشكال الإرهاب، مصرّحاً بأن "وحشية حماس تعيد إلى الأذهان أسوأ هيجان لداعش"، فاستخدام تهمة "الإرهاب" لكل مقاومة تناهض مشاريع الهيمنة الإمبريالية والاحتلال الاستعماري هي السمة المميزة للإمبريالية والكولونيالية، الذي يرتكز إلى عقبدة التفوقية العرقية البيضاء وخطابه المؤسس على الحضارة في مواجهة البربرية، فالخطابات والممارسات الإمبريالية _ الصهيونية لا ترى في المسلمين والعرب والفلسطينيون سوى مشاريع إرهابيون، فحركات المقاومة الفلسطينية على اختلاف توجهاتها السياسية والإيديولوجية تصنف منظمات إرهابية، وليست مقارنة حماس بداعش سوى حلقة واحدة في سلسلة ممتدة من ترسانة عدوانية تقوم على استراتيجيات الهيمنة والإخضاع وتفكيك أي محاولة للتمرد والمقاومة، وقد استحضر الخطاب الإمبريالي _ الصهيوني ظاهرة "الإسلاموفوبيا" التي هي جزء من خطاب الترهيب بتشبيه عملية "طوفان الأقصى" بأحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001,
سوف تؤدي الحرب الأمريكية على غزة إلى تصاعد الردكلة في المنطقة، حيث بدأت تظهر مؤشرات عدة على تعافي الجهادية العالمية، وخصوصاً النهج الأكثر راديكالية الذي يقوده تنظيم "الدولة الإسلامية"، إذ يوفر الانخراط الأمريكي الكامل إلى جانب الاحتلال الصهيوني في حرب الإبادة على غزة ترسانة خطابية واسعة تعزز من جاذبية خطاب تنظيم "الدولة"، الذي يقوم على إيديولوجية خطابية شمولية تربط بين الإمبريالية الأمريكية والغربية والاستعمارية الصهيونية والاستبدادية العربية، فالتواطؤ والتعاون بين هذه القوى أصبح حقيقة لا تقبل الجدل بين معظم شعوب المنطقة، فالمشاركة الأمريكية في الحرب على غزة بلغت حد الوقاحة، فمنذ بداية الحرب في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، قدمت الولايات المتحدة الأمريكية دعماً كبيراً للاحتلال من خلال تبني السردية الصهيونية، ورفضت وقف الحرب على غزة، وبررت قتل الأطفال والنساء والشيوخ، وقدمت تمويلات ضخمة للاحتلال الصهيوني,
انخرطت أمريكا في حرب غزة بشكل مباشر منذ اللحظة الأولى، حيث قامت بإطلاق مسيّرات فوق غزة؛ بحجة معرفة أماكن الرهائن الإسرائيليين لدى المقاومة الفلسطينية، وهي المرة الأولى التي تعمل فيها طائرات أمريكية من دون طيار فوق غزة، ويبدو أن هناك ما لا يقل عن 6 طائرات من دون طيار من طراز MQ-9،وقام الكونغرس الأمريكي بالمصادقة في 2 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، على ميزانية "عاجلة وغير مسبوقة" بقيمة 14.3 مليار دولار لدعم الاحتلال الإسرائيلي، وأرسلت وحدة استكشافية من مشاة البحرية و2000 جندي إلى إسرائيل، وقامت أمريكا أيضاً بتحويل مسار حاملة الطائرات "يو إس إس جيرالد آر. فورد" الأقوى في العالم، باتجاه فلسطين، في خطوة لإبداء الدعم للاحتلال، بطاقمها المكون من نحو 5000 فرد، وقامت بإرسال حاملة الطائرات الهجومية "يو إس إس أيزنهاور" إلى البحر الأبيض، وحركت واشنطن 75 طائرة مقاتلة باتجاه إسرائيل، وقامت وزارة الدفاع الأمريكية بإرسال اثنين من أنظمة الدفاع الصاروخية إلى إسرائيل، رغم أن الأخيرة لديها منظومة القبة الحديدية، وكشفت صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية، أنه منذ بداية الحرب، وصلت 230 طائرة و20 سفينة شحن أميركية، تحمل مساعدات عسكرية، إلى إسرائيل، وكانت الولايات المتحدة قد فتحت جسرا جويا لنقل الأسلحة إلى إسرائيل، منذ بدء عملياتها العسكرية على قطاع غزة، وكشفت صحيفة واشنطن بوست عن أن الولايات المتحدة الأميركية وافقت على أكثر من 100 صفقة مبيعات سلاح لإسرائيل وسلمتها لها منذ بداية حربها المدمرة على قطاع غزة،
تلتزم واشنطن بأمن المستعمرة الإسرائيلية بصورة واضحة، حيث وقعت مذكرة التفاهم لمدة 10 سنوات بقيمة 38 مليار دولار (3.8 مليارات سنويا) والتي تم إبرامها عام 2016. وتماشيا مع مذكرة التفاهم تلك، تقدم واشنطن 3.3 مليارات دولار سنويا في شكل تمويل عسكري و500 مليون دولار إضافية لتمويل الدفاع الصاروخي، ويدعم تمويل الدفاع الصاروخي العديد من برامج الدفاع الصاروخي التعاونية، ومنذ عام 2022، تقدم واشنطن مليار دولار إضافي تمويلا تكميليا لتجديد مخزون إسرائيل من الصواريخ الاعتراضية للقبة الحديدية، وتعد إسرائيل أكبر متلق للمساعدات الخارجية الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية، ووفقا للمؤشرات الرسمية الأميركية، بلغت المساعدات الإجمالية المقدمة من الولايات المتحدة لإسرائيل فيما بين عامي 1946 و2023 نحو 158.6 مليار دولار، وحسب بيانات "الوكالة الأميركية للتنمية الدولية" فإن حجم المساعدات أكبر بكثير مما جاء في التقديرات الرسمية، إذ وصل إجمالي المساعدات الأميركية الملتزم بها لإسرائيل في الفترة ذاتها نحو 260 مليار دولار، وكشفت صحيفة واشنطن بوست الأمريكية، نقلا عن مسؤولين في وزارتي الدفاع والخارجية الأمريكيتين، عن موافقة إدارة بايدن خلال الأيام الماضية على تقديم حزمة مساعدات تقدر بمليارات الدولارات لتل أبيب. ونقلت الصحيفة عن مصادر وصفتها بالمطلعة أن الحزمة تشمل أكثر من 1800 قنبلة من طراز إم كيه 84، وقنابل زنة 2000 رطل فضلا عن 25 طائرة حربية من طراز إف 35 إيه ومحركات.
لم تكن الإمبريالية الأمريكية بحاجة إلى خطابات الاستعمارية الصهيونية حول الإرهاب، لتبرير خطاب استعلائي عنصري تجاه الفلسطينيين ومن خلفهم العرب والمسلمين، فالكراهية الغربية العميقة المتأصلة للإسلام والمسلمين عموماً والعرب خصوصاً، تسند إلى سياسات الهوية الصلبة، إذ يعرّف الغرب العلماني نفسه بنسخته المسيحية ـ اليهودية المحدثة كنقيض للإسلام كدين وشكل حياة، فالإسلام إبان قوته ولا يزال راهن ضعفه يشكل للغرب هاجساً مقلقاً باعتبار الإسلام كينونة مناهضة للغرب كنقيض إبستمولوجي وتحدي جيوسياسي، إذ تهدف السردية الخطابية الإمبريالية الصهيونية بنزع صفة الإنسانية عن الفلسطينيين إلى تبرير عمليات القتل والإبادة، لكن الأمر المدهش أن الأنظمة الاستبدادية العربية تبنت السردية الإمبريالية الصهيونية حول الإرهاب، فبعد الانقلاب على انتفاضات الربيع العربي وإعادة بناء الدكتاتوريات العربية ظهرت تصورات جديدة حول مهددات الاستقرار السلطوي في المنطقة اختزلت بالإسلاميين على اختلاف توجهاتهم السياسية الديمقراطية السلمية والجهادية الثورية، وتبلورت عن رؤية تقوم على تصفية القضية الفلسطينية وإدماج المستوطنة الاستعمارية الإسرائيلية في نسيج المنطقة، من خلال تأسيس تحالف بين الإمبريالية الأمريكية والدكتاتوريات العربية والاستعمارية الإسرائيلية تحت ذريعة مواجهة الخطر المشترك المتمثل بالحركات الإسلامية؛ التي تقوم أيديولوجيتها على مناهضة الإمبريالية والاستبدادية والاستعمارية، وأصبحت الأنظمة الاستبدادية العربية شريكة للإمبريالية الأمريكية والمستعمرة الصهيونية في التصورات الأساسية للمنطقة، وهي تتبنى السردية الأمريكية الإسرائيلية حول ماهية الإرهاب وهوية الإرهابي، وعلى ضوئها تتشكل نظرتها للقضية الفلسطينية ومستقبل الشرق الأوسط.
في زمن الاستقرار في ظل الهيمنة الأحادية الأمريكية بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 أصبحت عولمة "الإسلاموفوبيا" صناعة إمبريالية غربية رائجة، وبعد الانقلاب على ثورات الربيع الغربي أعيد تشكيل النظام العربي باستبعاد أي شكل من عملية تسيس الإسلام، والانتقال إلى إدماج المستعمرة الصهيونية في المنطقة، ومنذ الانقلاب على انتفاضات "الربيع العربي"، وفي حقبة تاريخية تماهى فيها الخطاب السلطوي الرسمي العربي مع المقاربة الصهيونية الإسرائيلية والإمبريالية الغربية، وتناسى أسباب العنف الإسرائيلي في غزة الذي حوله الاحتلال إلى معتقل وسحن كبير، فقد تجاهل الجميع الخلفية التاريخية والسياقية للمشروع الاستعماري الإسرائيلي الذي يستند إلى الاحتلال والإخضاع والإبادة والمحو والتطهير، كما تناسى المجتمع الدولي حقيقة شرعية المقاومة الفلسطينية المناهضة للاستعمار وكحركة تحرر وطني، الأمر الذي جعل من تكرار إسرائيل لجرائمها في غزة شيئاً ممكناً، بل واجباً يقوم على حق الدفاع عن النفس، بينما حشرت حركات المقاومة في خانة "الإرهاب"، حيث أصبح الوهم القائل بأن القضية الفلسطينية يمكن محوها أو نسيانها حقيقة مقبولة لدى المستوطنين الإسرائيليين وحلفائهم الدوليين، وتنامى الاعتقاد أن المقاومة الفلسطينية باتت قضية منسية ومهجورة، وأن إسرائيل قادرة على الحفاظ على وجودها غير القانوني إلى أجل غير مسمى لأنها صاحبة اليد العسكرية العليا، وقد عززت مسارات التطبيع مع الدول العربية السلطوية في جعل الاحتلال حقيقة دائمة وحالة طبيعية، حيث تماهت الخطابات الإمبريالية الغربية والاستعمارية الصهيونية والاستبدادية العربية مع أسطورة "الإرهاب الإسلامي"، وخرافة الإسلام السياسي كمهدد للاستقرار.
إن عملية ردكلة المنطقة هي صناعة أمريكية، إذ لم تعد قضية الديمقراطية ومسألة حقوق الإنسان جوهرية في السياسات الدولية والإقليمية، وأصبحت شأناً ثانوياً داخلياً من متطلبات السيادة الوطنية، وتحولت مدارك النظر إلى القضية الفلسطينية من مسألة استعمار واحتلال وعدالة سياسية إلى مشكلة إنسانية، وتبدلت النظرة إلى إسرائيل من دولة استعمارية عنصرية توسعية مهددة للاستقرار إلى شريك في صناعة الاستقرار الإقليمي، وهكذا أسدل الستار على نظريات إدماج الإسلاميين في الحكم، وضرورة اشتمال الاعتدال في السلطة، وانتهت مقولات الاعتدال وجدار الوقاية، وغدت الحركات الإسلامية تتقلب بين تعريفها بين كونها حزام ناقل للتطرف والعنف، أو اعتبارها حركات عنيفة إرهابية، وتبلورت عقيدة دولية جديدة حول ماهية الاستقرار ومكوناته في نظام سلطوي في الشرق الأوسط، وأصبح وجود اسرائيل مشروط بوجود أنظمة استبدادية عربية تقمع الإرادة الحرة للشعوب، وغدت الوظيفة المقدسة للاستبدادية العربية العمل كحاجز حماية بين إسرائيل والشعوب العربية، فالعلاقة بين "عملية السلام" والديمقراطية في المنطقة العربية حسب الرؤية الأمريكية والإسرائيلية باتت توصف بالعلاقة المعقدة، وهو ما يفرض التضحية بالديمقراطية وحقوق الإنسان لجلب السلام والاستقرار الإقليمي في ظل الهيمنة العالمية الأمريكية. واختفت النظرة إلى الكيان الإسرائيلي كعدو مهدد للاستقرار، وباتت إسرائيل بمنزلة الصديق، بعد أن أصبحت المستعمرة الصهيونية الإسرائيلية صلة الوصل بين الأنظمة الاستبدادية والإمبريالية الأمريكية.
يجب الالتفات إلى أن إلحاق هزيمة نهائية بالحركة الجهادية غبر واقعي ولا ممكن في ظل السياسات الأمريكية، فلا زالت الجهادية العالمية تتمتع بجاذبية كافية، إذ لا يتعلق الأمر بمقاربة عسكرية لمجموعات تعمل خارج سياقات الدولة والمجتمع، إذ تستند الجهادية إلى أسباب جذرية عميقة سياسية واقتصادية واجتماعية، وهي تأخذ أبعاداً متغيرة ومرنة، وتتمتع بالقدرة على التكيّف مع التحولات، وبعد أن كانت القاعدة تنظيماً نخبوياً طليعياً مركزياً في أفغانستان، أصبحت الآن أكثر انتشاراً، وباتت تتنافس فيما بينها على النفوذ والسيطرة، وأصبحت أشد خطورة بعد انقسامها إلى ثلاث مدارس جهادية، حيث شهدت الجهادية العالمية انشطاراً وانقساماً، عقب ثورات الربيع العربي، إلى ثلاث مدارس رئيسة؛ الأول: يتمسك بأجندة القاعدة التقليدية، والتي تنص أولويّاته على أولوية قتال العدو البعيد ممثلاً بالغرب عمومًا والولايات المتحدة خصوصًا، باعتبارها حامية للأنظمة العربية الاستبدادية، وراعية لحليفتها الاستراتيجية "إسرائيل"، وتبنت نهجاً قتالياً واستراتيجياً بقوم على تنفيذ عمليات قتالية انتقامية تستند إلى مفهوم جهاد "النكاية"، من خلال طليعة مهمتها الوصول إلى خلق حالة إسلامية تصل إلى جهاد الأمة، والثاني يقوده الفرع العراقي المعروف بــ "الدولة الإسلامية" بزعامة وترتكز أجندته على أولوية مواجهة العدو القريب، في إطار عقيدة شمولية تقوم على دمج الأبعاد الجهادية المحلية والإقليمية والدولية، والجمع بين أنماط وأساليب الجهاد المختلفة، وفي مقدمتها، جهاد "التمكين" من خلال فرض السيطرة المكانية على الأرض، وفرض حكامتة وتطبيق الشريعة، وإعلان الخلافة، والثالث يتشكل من مجموعات جهادية تتبنى مواقف محلية أقرب إلى الفرع السوري المنشق عن القاعدة بقيادة هيئة تحرير الشام ــ جبهة النصرة سابقاً، وهي قريبة من نهج حركة طالبان في أفغانستان حيث سعت الهيئة للتخلص من إرث القاعدة والدولة باعتبارها تتوافر على أجندة متشددة على الصعيدين الإيديولوجي والاستراتيجي، وشرعت بتقديم نفسها كمجموعة جهادية محلية دون أي أجندة جهادية عالمية.
تتمتع القضية الفلسطينية بأهمية فائقة في عقيدة ومحركات الجهادية العالمية، لكن ثمة خلافات إيديولوجية عميقة بينها حول الأولويات والاستراتيجيات، وتعريفات الصديق والعدو وحدود الولاء والبراء، ففي سياق التحولات الجذرية في بنية القوى الدولية، أعادت الجهادية العالمية تأسيس أيديولوجيتها على مركزية المسألة الفلسطينية، حيث عملت على بناء سردية قتالية محورها فلسطين، التي غدت في صلب المشروع الجهادي العالمي منذ بداياته الأولى في أفغانستان نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، وفي حقبة العولمة احتلت فلسطين مكانة مركزية في إيديولوجيا القاعدة، وعقب عملية السابع من أكتوبر التي شنتها حركة "حماس" ، والرد الإسرائيلي الوحشي وحرب الإبادة على قطاع غزة، تباينت مواقف الجهادية العالمية وممثليها من تنظيم "القاعدة" إلى تنظيم الدولة الإسلامية "داعش"، حول حركة "حماس" نتيجة الخلافات الإيديولوجية التاريخية، لكن مواقفها حول القضية الفلسطينية بقيت ثابتة.
خلاصة القول أن حرب الإبادة الأمريكية الإسرائيلية المشتركة على الشعب الفلسطيني في غزة، سوف تعمل على دفع المنطقة إلى ردكلة غير مسبوقة، فعملية "طوفان الأقصى" عززت من مكانة حركة حماس ونهجها كحركة مقاومة وتحرر وطني إسلامي، وفي نفس الوقت عززت من مكانة وخطاب وممارسة الحركات الجهادية العالمية، وإن إصرار السردية الأمريكية والصهيونية على وضع حماس و"القاعدة" و"داعش" في السلة نفسها، سوف يدفع الأجيال الشابة في المنطقة إلى مزيد من الردكلة، وقد نشهد في المستقبل صور من التحالف بين مكونات الحركات الجهادية على اختلاف توجهاتها الإيديولوجية والاستراتيجية على برنامج موحد، ومع أن حركات المقاومة الفلسطينية تصر على أنها حركات تحرر وطني تناضل من أجل الحرية والاستقلال ضد نظام استعماري فاشي عنصري، فإن حرب الإبادة تساهم في تقريب المسافة بينها وبين الجهادية العالمية التي تنقسم بين نهجين، فالقاعدة تتمسك بأولوية قتال العدو البعيد ممثلاً بالغرب عمومًا والولايات المتحدة خصوصًا، باعتبارها حامية للأنظمة العربية الاستبدادية، وراعية لحليفتها الاستراتيجية "إسرائيل"، وتبنى نهجاً قتالياً واستراتيجيا بقوم على تنفيذ عمليات قتالية انتقامية تستند إلى مفهوم جهاد "النكاية"، أما تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" فترتكز أجندته على أولوية مواجهة العدو القريب، في إطار عقيدة شمولية تقوم على دمج الأبعاد الجهادية المحلية والإقليمية والدولية ويصر على قتال العدو القريب من الأنظمة ويعتبرها كافرة مرتدة، ويؤكد على قتال العدو البعيد الأمريكي والأوروبي باعتباره كافر صليبي، ويشدد على قتال العدو الوسيط الإقليمي الإيراني الشيعي ويصفه بالكفر والإقليمية من خلال تنفيذ "المشروع الصفوي"، ويدعو إلى قتال العدو الإسرائيلي اليهودي، ويصفه بالكفر والعنصرية من خلال تحقيق "المشروع الصهيوني"، فالأساس الهوياتي الديني هو المحرّك الإيديولوجي للتنظيم، وإذا كانت فلسطين محل إجماع لدى الجميع، فإن طريقة التحرير ومواجهة المشروع الصهيوني تشكل نقاط خلاف بين المشاريع الجهادية، ويبدو أن الحرب الأمريكية والصهيونية على غزة وتواطؤ النظام الاستبدادي العربي يقود نحو ركلة المنطقة وجسر الفجوة بين المدارس الجهادية المختلفة,