نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

الفرصة التي صنعناها في بروكسل

26/11/2024 - موفق نيربية

المهمة الفاشلة لهوكستين

23/11/2024 - حازم الأمين

العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب

17/11/2024 - العميد الركن مصطفى الشيخ

إنّه سلام ما بعده سلام!

17/11/2024 - سمير التقي

( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )

13/11/2024 - عبد الباسط سيدا*

طرابلس "المضطهدة" بين زمنين

13/11/2024 - د.محيي الدين اللاذقاني


التأويلات الكارثية للثورة السورية




 
 

يُحكى أن خالدًا بن الوليد شكَّ في ردّة جماعةٍ عن الإسلام؛ فأسرهم لينظر في أمرهم، وكانت ليلةً باردةً؛ فأمر خالد مناديًا فنادى: "أدفئوا أسراكم"، وهي في لغة الكنانة القتل؛ فظن القوم أنه أراد القتل؛ فقتلوهم، ولم يُرد خالدٌ إلا الدفء. هذا هو التأويل الكارثي: هو تأويلٌ يركن إلى مخزونات الفاهم في لحظة الفهم فحسب، من دون التفكير في الفاعل ومخزوناته ودوافعه وحوافزه ولغته؛ فيفهم المُؤولُ الأمورَ كلَّها بصورةٍ تلقائيةٍ متكرّرة واعتيادية (بالنسبة إليه) تحيل على ذاته وحمولاتها فحسب، من دون أن يُحمِّل نفسه عبء التفكير في حوامل الآخر الفاعل ودوافعه والحوار معه للتحقّق منها. أن نؤول فعلًا ما يعني أن تتدخل منظومتنا الذهنية في فهم هذا الفعل، وهي حتمًا منظومةٌ غير متطابقةٍ مع منظومة الفاعل الذهنية؛ فهذه المطابقة غير ممكنةِ الوجود إلا في صورة وهم. وأن نؤول بصورة كارثية يعني أن نفترض أن هذه المطابقة دائمة الوجود في الواقع: أي أن نستند إلى حمولاتنا الذاتية في الفهم فحسب، وأن نعفي أنفسنا من فعل التفكير الذي يُقلِّب المسائل على أكثر من مستوى معرفي وقيمي، وينظر إلى نسبية المعرفة والحقائق بوصفها ركيزةً مهمةً من ركائز الفهم والتفسير.



يمكن الآن، بعد أن ضبطت السطور السابقة بإيجازٍ ما نعني بـ "التأويل الكارثي"، أن نميِّز بين الثورة السورية بوصفها فعلًا اجتماعيًا والثورة بوصفها تأويلًا لهذا الفعل الاجتماعي من غير الفاعلين به. ونناقش الطرح الآتي: الثورة فعلٌ اجتماعي قام به فاعلٌ يمكن أن نسميه "السوري الجديد" الذي تطوَّر مع الزمان وانفتح على الآخر، وامتلك ذهنيةً جديدةً في التفكير تُحفِّزُه على الحرية، (سمّاها الكاتب في مقاله السابق في "العربي الجديد" ذهنية ما بعد 2011). وتكوّن هذا الفاعل من أفرادٍ سوريين، غالبيتهم من الشباب الذي يمتلك أدوات تواصلٍ معاصرة، وطريقة تفكير وتحليل أكثرَ انفتاحًا على الحياة. هو الشباب الذي نجا من "سرير الأسد" الذي نصبه مثل "سرير بروكروستوس"، وأجبر معظم السوريين على النوم عليه، فـ "مَطَّ القصير وقصَّر الطويل"، حتى صار كل الذين ناموا على السرير على شاكلة صاحبه، ومنهم من معارضيه بطبيعة الحال. وما إن بدأت الثورة بوصفها فعلًا اجتماعيًا، حتى اندفعت إلى فهمها بصورةٍ كارثيةٍ خمسُ مجموعاتٍ من المؤولين، كان لكلٍ منها تأويلها الخاصُ بها؛ فأنتجت خمسة تأويلاتٍ كارثيةٍ:
صحيحٌ أن الثورة السورية تأثرت بالثورات في تونس ومصر وامتداداتها في باقي المنطقة، ولكنها بالمعنى المفهومي شأنٌ سوري داخلي محض
أولًا، التأويل الأسطوري أو تأويل المعارضة الكلاسيكية: صحيحٌ أن الثورة السورية تأثرت بالثورات في تونس ومصر وامتداداتها في باقي المنطقة، ولكنها بالمعنى المفهومي شأنٌ سوري داخلي محض، يستمد مقومات فهمه العقلانية جميعها من فهم بنية المجتمع والسياسية السوريين، وبنية الحراك الجديد، ومتغيرات العمل السياسي السوري، وبنية الطغمة الحاكمة وآليات قراراتها الداخلية. يعني ذلك أن الاستناد الكامل إلى التصورات الخارجية، مثل تجربة ليبيا للتمهيد لتدخل خارجي، أو تجربة العراق لوضع "لا" للتدخل الخارجي، وإلى ما هنالك من تأويلات تستند إلى الخارج الدولي والإقليمي، ليس إلا واحدًا من انعكاسات فهمِ المعارضة غير العقلاني الذي يستند إلى أساطير وأوهام في رؤوس أصحابها فحسب، تؤدّي إلى تأويل أسطوري للثورة. لم تكن الأحزاب والتجمعات والمنتديات التي تشكل بمجملها المعارضة الكلاسيكية فاعلًا في هذه الثورة، ولم ترتقِ يومًا إلى مستوى الفعل، لأنها لم تبذل الجهد اللازم لفهم الآليات والديناميات الجديدة التي اشتغلت فيها الثورة، ولم تقترب وتتعلم من الشباب الذي يمتلك الثورة، ويمتلك نمط تفكيرها الذي ينتمي إلى المستقبل ويعمل بدلالته، والذي لا يعيش هوويًا في الماضي. مع ذلك، لا يبدو انتشار هذا التأويل الأسطوري خطأ المعارضة فحسب، بل خطأ الثورة الكارثي أيضًا، لأنها أوكلت المهمّة السياسية في الثورة إلى المعارضة الكلاسيكية؛ فنحن ندرك الآن أن هذا التفكير، وإن كان منطقيًا، لكنه لم يكن علميًا، ولذلك لم يكن صحيحًا. إذا آمنت أن السحرَ هو سبب الأمراض كلها ومرضت؛ فمن المنطقي أن تلجأ إلى العرّافة، ولكن هذا منطق أسطوري، يعني غير علمي، وإذا آمنت أن الأمراض هي اضطرابات فيزيولوجية وباثولوجية ومرضت؛ فمن المنطقي أن تذهب إلى الطبيب، وهذا منطقي وعلمي. وخطأ الثورة أنها آمنت بالمعارضة؛ فكانت تفكّر بصورة منطقية ولكن غير علمية؛ وكان هذا خطًأ كارثيًا.
غياب تأويل عقلاني للثورة يُفكر بعد 2011، ويقارب المسائل بدلالة المستقبل، يفسح المجال أكثر للتأويلات الكارثية
ثانيًا، التأويل الغائي أو التأويل الإسلامي للثورة: يوجد عقلٌ لا يرى الدنيا إلا مع الإسلام أو ضد الإسلام، ولا يتّسع فهمه لمكانٍ ليس له صله بالإسلام، أو لشأنٍ من شؤون الدنيا التي "نحن أدرى بها" بتعبيرات الحديث الشريف، ولا يتسع فهمه أيضًا لكثير الحركات والمواقف والبشر التي ليست مع الإسلام وليست ضده: هي غير معنية بذلك، وتعالج موضوعات منفصلة وحيادية إزاء موضوع الإسلام والأديان، ومنها الثورة السورية؛ فهي في أصلها فعلٌ غير متصلٍ وغير معني بالإسلام لا سلبًا ولا إيجابًا. ويوجد نمطُ التفكير هذا عند جماعتين: الأولى دينية أهمها الإخوان المسلمون والسلفيون وتصنّف نفسها "إسلامية"، والثانية للمفارقة جماعةٌ تعرف نفسها بعدائها للإسلام وتصنف نفسها "علمانية"، ومنها بعضُ الذين يرونَ هويتهم في مصطلح الأقليات الدينية، أو في مصطلح العلمانية فحسب. ليست الجماعة الأولى إسلامية والثانية ليست علمانية، على الرغم من إصرار كليهما على التسميات.
أوّلت الجماعة الأولى الثورةَ بوصفها فعلًا غاياته إسلامية، فلم تخرج هذه القوى في ذلك عن عاداتها في الفهم الرغبوي الذي لا يقيم وزنًا للواقع. وأوَّلت الجماعة الثانية الثورة التأويل نفسه، ولكن تأويلها لم يكن رغبويًا يستخدم للاقتراب من الثورة مثل الإسلاميين، لكن كان هوويًا خائفًا يُستخدم للابتعاد من الثورة ثم الاقتراب من النظام. وفي النهاية، خسر الاثنان أخلاقيًا ووطنيًا، وخسرت الثورة وسورية كارثيًا.
ثالثًا، تأويل معياري إيماني أو التأويل النخبوي للثورة: ليس شرطًا أن تنتمي إلى الدين وتؤمن بالله، لكي تفكر بطريقةٍ إيمانية، وليس شرطًا أن تنتمي إلى قبيلةٍ لتفكّر بصورةٍ عصبية. بل كشفت الثورة أن النخب السورية التي تنتمي إلى ما قبل 2011 هي بصورة أو بأخرى مجموعةٌ مثل الطائفة أو القبيلة، ولكن روابطها أقلّ تماسكًا، وهي عصبيةٌ ركيكةٌ مقارنةٌ بالطائفة والقبيلة. ولكن لها بنية التفكير ذاتها: تفكّر بصورة عصبية وإيمانية مطلقة ويقينية، ولها مقدّسات مثل المقدّسات الدينية، اكتملت في مرحلة ما من تاريخها؛ فلا تتعرّض للنقد أو المراجعة. وفي الوقت الذي كان الإسلاميون فيه يؤولون الثورة بوصفها فعلًا غائيًا غاياته إسلامية؛ كانت النخبة المثقفة أوَلته بوصفه فعلًا معياريًا، يتّخذ من معايريها المسبقة الصنع أنموذجًا للصح والخطأ. مشكلة هذا النوع من التأويلات أنه لا يرى الثورة صالحة، إلا إذا اتّبعت معيارًا واحدًا سائغًا في تقويماتها، في حين أن الثورة فعل عابرٌ للقيم المقولبة، وهي محاولة تاريخية لإبداع قيمٍ أكثر عصرية وأكثر حرية، إضافةً إلى معرفتنا اليوم بأن معايير النخب المقولبة جميعها قد سقطت في امتحان الأحقية منذ 2011. هذا النوع من التأويل كارثي لأنه يعرقل التطور القِيمي الذي تحاول الثورة ابتكاره، ولأنه يقف ضده بصورة إيمانية. نحن لم نستكمل بناء أي نخبة بعد 2011. وحتى حينه، يظل مفهوم النخبة مفهومًا ينتمي إلى ما قبل 2011 وينتج تأويلات غير ملائمة للثورة في أكثر التقديرات تفاؤلًا.
لم تكن الأحزاب والتجمعات والمنتديات التي تشكل المعارضة الكلاسيكية فاعلًا في الثورة، ولم ترتقِ يومًا إلى مستوى الفعل
رابعًا، تأويل درامي نفساني: وجد أصحاب هذا التأويل الثورة مسرحية درامية، ينبغي أن يؤدوا فيها دور البطل على الخشبة. وفي الحقيقة، يبدو لأسباب نفسانية تحيل على عقدٍ وأمراض أن هؤلاء لم يميزوا بين الحقيقة والتمثيل. واعتقدوا بصورةٍ راسخة أن مشاهدهم التمثيلية في الثورة فيها متعةٌ للآخرين، وتعود عليهم بالشهرة والنجومية. ومن هؤلاء من صدَّق تمثيله، ولا يزال مقتنعًا بأنه بطلٌ حقيقي، ومنهم من لا يزال يؤدّي أدوارًا مختلفة ومتغيرة ومتناقضة، من دون الشعور بأي مشكلة؛ فهو لا يتصوّر المسائل حقيقية، ويبدو أنه مريض إلى درجة لا يفهم أن هذا الموت الذي نراه حقيقي، وأن بكاء الأمهات لا ينتهي بانتهاء مقابلة تلفزيونية أو مشهد تصويري. لا يزال بعض هؤلاء يقدّم نفسه حكيمًا وسياسيًا بارعًا وبطلًا وحيدًا، والكارثة الكبرى أن بعضًا منهم له أتباع.
خامسًا، تأويل ممنهج أو تأويل الطغمة الحاكمة: هذا هو التأويل الكارثي الوحيد الذي يدرك أصحابه من المجرمين أنه كارثي، والذي يسعى إلى الكارثة بصورة ممنهجة، وتخدمه التأويلات الكارثية الأربعة السابقة من حيث لا تدري، وتشترك معه في الانتماء إلى ذهنية ما قبل 2011.
وختامًا، نقول إن غياب تأويل عقلاني للثورة يُفكر بعد 2011، ويقارب المسائل بدلالة المستقبل، يفسح المجال أكثر للتأويلات الكارثية؛ فيطيل الكارثة كل يومٍ أكثر. وهذا الغياب بحد ذاته كارثي، ينبغي التعامل معه والوقوف في وجه التأويلات الكارثية كلها. والأكيد أن التأويلات الأربعة الأولى جميعها لا تنتمي إلى الثورة، لأن نمط تفكيرها ينتمي إلى ما قبل 2011؛ وأن الطغمة الحاكمة ليست عدوًا سياسيًا للثورة، لكنها عدو تأويلي له ذهنية قاطع طريق إجرامية لا تمتّ للسياسة بصلة.
مادة الحل النهائي أو السوري العادي ومقدماتٍ عملية
العربي الجديد 10 أيلول 2021
طرحَ الكاتب فكرة "الحلّ النهائي" في مقالة سابقة "المسألة السورية وتأسيس الحلّ النهائي" (العربي الجديد، 31 يوليو/ تموز 2021)، ثم استكمل فكرة تأسيس الحل النهائي في مقالتين متممتين "سبعة معانٍ للتفكير بعد 2011" (العربي الجديد، 6 أغسطس/ آب 2021)، و"التأويلات الكارثية للثورة السورية" (العربي الجديد، 21 أغسطس 2021)، واستكمالًا لهذا المسار في التفكير نحو تحديد خطوات عملية للحل النهائي، تطرح هذه المقالة إلى النقاش العمومي السوري فكرةً ثانية، نسميها "مادة الحل النهائي" وتحاول بسط هذه الفكرة، لكن بعد استذكارٍ سريعٍ وضروري لأهم الأفكار التي رأى الكاتب أنها تؤسس للحل النهائي، ويمكن تكثيفها في النقاط الآتية:
أولًا، فهمٌ جديدٌ لطبيعة الصراع في سورية: ليس الصراع بين معارضة ونظام، أو بين نظام وشعب، لكنَّه صراعٌ بين منظومتين ذهنيتين، عصرية تنتمي إلى ما بعد 2011 تمتلكها كائنات زمانية، ومنظومة ذهنية تنتمي إلى ما قبل 2011 وتمتلكها كائناتٌ لم تنجز العبور إلى ما بعد 2011.
ثانيا، اختار السوريون الدخول من باب "العمومي"، وأدخلت الثورة مفهوم العمومية إلى السياسة السورية التي كانت قبلها باطنية؛ فتغير الخطاب الذي يقاوم النظام من عقلية المعارضة النخبوية الضيقة الضعيفة إلى الذهنية العمومية المفتوحة القوية التي يشارك فيها الكل. وكانت الثورة فعلا عقلانيا في جوهره، تم تأويله تأويلاتٍ كارثية (ناقشها مقال سابق).
خطاب الحياة نقيضُ خطاب الحرب والكراهية وخطابات القتل، سواء قتل الآخر أو قتل الذات بخطابات التضحية والاستشهاد والجهاد وغيرها
ثالثا، مضمون خطاب الثورة كان نقيضًا للنظام والمعارضة معًا، لأنه صار مفيدًا يستند إلى فكرةٍ جوهرها أن السوري أصبح ذاتًا مُفكِّرة، بعد أن كان موضوع تفكيرٍ مُفكَّرًا فيه من نظامٍ سلطاني مجرم أو من "معارضةٍ نخبوية"
رابعاً، ينطلق الخطاب الوطني من التوق إلى الحياة الذي يتشاركه السوريون كلهم، وهذا التوق إلى الحياة هو المشترك الأكثر وضوحًا في الخطابات العفوية المختلفة، مثل خطاب الموالاة (كنا عايشين)، وخطاب الثوار المنهكين (بدنا نِخلَص)، وخطاب الـ"ما بين" (بدنا نعيش). وخطاب الحياة نقيضُ خطاب الحرب والكراهية وخطابات القتل، سواء قتل الآخر أو قتل الذات بخطابات التضحية والاستشهاد والجهاد وغيرها. وهو خطابٌ متحرّرٌ من خطاب النظام بطبيعة الحال، ومن خطاب المعارضة بالضرورة، يحرّر فكرة الحرية من احتكار المعارضة ويصنع سلطة تحريرٍ وطنيةٍ شاملة، لا تقيم وزنًا لطقوس المعارضة السياسية.
ونفهم الثورة بموجب هذا التأسيس بوصفها فعلًا تواصليًا، ومشروعًا تنسيقيًا ممتدًا، وهذه الخاصية التواصلية هي التي ميَّزت السوري الجديد بعد 2011. ولم يمتد هذا التواصل إلى من يشبه المبادرين إليه، ومن يشاركهم الرأي والمعتقد فحسب، بل كان عابرًا للحدود كلها، بما فيها حدود "العدو" القاتل؛ فتمَّ التواصل مع الجنود بالورود، وبكثير من الخطابات التي بنيت على الحب، وتحفيز الإنسان فيهم. ولأن المنهج التواصلي كان جديدًا، غير نخبوي، صار نتاجه (أي الثورة) موضع تأويلٍ وسوء فهمٍ دائمين.
الثورة هي تنسيقيةُ السوريين العاديين الكُبرى، التي أدّت إلى خروجهم بوصفهم أفرادًا يتوقون إلى ذواتهم، في تظاهرة واحدة
واستنادًا إلى هذا التأسيس، صار بإمكاننا الانتقال إلى سؤالٍ آخر لا يقل أهميةً عن تأسيس الحل، وهو عن مادة هذا الحل، أو عن الأداة الأكثر ملاءمةً لإنجاز هذا الحل. ويبدو، بعد التفكير على أكثر من مستوى، أن المشهد ذاته الذي نتجت منه المسألة السورية لا يزال أيضًا مفتاح حلها، ويعني ذلك شيئًا مهمًا: إن السوري العادي الذي كان مادة الثورة السورية قبل عشر سنوات لا يزال مادة حل المسألة السورية النهائي اليوم. و"السوري العادي" (Layman) توصيفٌ يتطابق مع توصيف "ثائر ينتمي إلى ما بعد 2011"، لأن الثورة هي مشروع السوريين العاديين التواصلي الكبير الذي انطلق من دون النخب، بأنواعها الثقافية والدينية والاجتماعية، وإلى ما هنالك. ومن سمات السوري العادي أنه إسلامي، لأنه جزء من الثقافة السورية الإسلامية مع إمكانية أن يكون غير مسلم أو غير مؤمن، وأنه علماني لأنه مفصولٌ عن المؤسسة الدينية مع إمكانية أن يكون مؤمنًا... والسوري العادي متديّن، وملحد، وديني، ولا ديني، وينتمي إلى ثقافة قبلية عشائرية، أو مديني لا عشيرة له، غني أو فقير، عربي وكردي وأرمني وآشوري وشركسي، إلى ما هنالك... السوري العادي هو جمعٌ سلس لهذا كله من دون تناقض؛ لأنه فردٌ متحرّر من سطوة الجماعة أيًا كانت. هكذا نستطيع أن ننحت تعريفًا أدقّ للثورة السورية؛ فنقول: الثورة هي تنسيقيةُ السوريين العاديين الكُبرى، التي أدّت إلى خروجهم بوصفهم أفرادًا يتوقون إلى ذواتهم، في تظاهرة واحدة، راكموا فيها رأس مال اجتماعياً سورياً؛ فعادوا منها جماعةً وطنية مدينية، وصاروا بموجبها يقتربون من فردانيتهم أكثر، ومن ثم يقتربون من ذواتهم أكثر. وبموجب رأس المال الاجتماعي الوطني هذا، صار السوري العادي، لأول مرةٍ في حياته، مؤهلًا للعمومي، وصارت سورية لأول مرة فكرةً ممكنةً بالمعنى السياسي والاجتماعي، وصارَ هذا الإمكان ذا قيمةٍ تحيل على الكرامة.
الثورة بوصفها فعلًا تواصليًا تُنتج أيضًا مراقبةً ذاتيةً لمسار التفاهم الذي يتطوّر باستمرارٍ في جوهرها
وإذا استندنا إلى تعريف الثورة هذا، وقبلنا بعلاقتها العضوية مع السوري العادي، يصير بإمكاننا أن نضع مقدّماتٍ للخطوات العملية نحو الحل، أو مداخل عريضة للإجابة عن سؤال ما العمل. ويمكن أن نبنيها كالآتي:
أولًا: أن نضع الحياة الكريمة وصونها بوصفها هدفًا غائيًا وخلفيةً ذهنيةً ومنهجيةً لكل هدفٍ استراتيجي، من ثم مناهضة كل خطابٍ يدعو إلى القتل، أو إلى التضحية بالنفس، أو إلى أي فعلٍ يحتفي بالموت. وتصنيف أعداء الحياة كلهم بوصفهم أعداءَ السوريين.
ثانيًا: العودة إلى الطريق الأول، الذي يعني طلاقًا كاملًا بين السوري العادي والنخبة التي تنتمي إلى ما قبل 2011. يعني هذا الطلاق، بطبيعة الحال، توقفًا كاملًا عن استهلاك منتجات هذه النخبة وصناعاتها، مثل الطائفية، والمناطقية، ومفهومي الأقليات والأكثرية، والتعصّب الإثني، والأيديولوجيات؛ فهذه جميعها من صناعة النخب، وليست من صناعة السوري العادي.
ثالثًا: تحفيز التفكير الذي ينتمي إلى ما بعد 2011، وبسط أفكاره وفوائده، وبناء خطاب عصري يستند إليه للوصول السلس إلى ما يسميه هابرماس "مخزون النقد الذي تتم مراكمته في صلب الفعل التواصلي"؛ فالثورة بوصفها فعلًا تواصليًا تُنتج أيضًا مراقبةً ذاتيةً لمسار التفاهم الذي يتطوّر باستمرارٍ في جوهرها.
رابعًا: العودة إلى الثقة السورية الكلاسيكية المتجذّرة في المجتمعات المحلية السورية، والارتقاء بها خطابيًا إلى المستوى السياسي، لاستثمارها في زيادة مراكمة رأس مال اجتماعي وطني. واستثمارها في أنظمةٍ أكثر ملاءمة للزمان وللمشروع الوطني، مثل اللامركزية الواسعة، والغيرية أو "المواطنوية" (civility).
الأصالة والصدقية متداخلان يستحيل فصلهما، إذا كان الكلام عن السياسي المؤهل للعمل في الحلّ التنفيذي للمسألة السورية
خامسًا: تمثيل السوريين في عالم السياسة، وتمثيل السياسة في عالم البسطاء، وهذا يتطلب بناء سياسياً سورياً يُترجِم من العمومية وإليها: يبني خطابًا من كلام السوري العادي، ويفكّك الخطابات للسوري العادي، وهذه هي نواة النخبة التي تنتمي إلى ما بعد 2011، هي نواة من "المترجمين من العمومية وإليها". وبناء هذه النواة، في واحدٍ من أهم معانيه، هو انقلابٌ أبيض على السياسيين السوريين الكاذبين، وعلى السياسيين الصادقين ولكن غير الأصيلين: الذين يفتقرون إلى الأصالة اللازمة لنقل المشهد (ترجمته) بدقة؛ فتصيرُ صدقيتهم شيئًا نظريًا لا يعمل. الأصالة والصدقية متداخلان يستحيل فصلهما، إذا كان الكلام عن السياسي المؤهل للعمل في الحلّ التنفيذي للمسألة السورية؛ فادّعاء الأصالة من دون إنجاز صدقية ملائمة كاذب، وادعاء الصدقية من دون الاستناد إلى أصالةٍ تبنيها واهم. لذلك لا يكفي أن يكون المرء صادقًا ليكون مترجمًا من العمومية وإليها (أي ليصير مؤهلًا للعمل السياسي السوري)؛ لكن يجب أن يكون أصيلًا أيضًا: الصدق والأصالة معًا هما شرطا السياسي السوري، ليكون مؤهلًا ومقبولًا للعمل، والانقلاب الثوري على كل من لا يتمتع بهما بالدلائل التجريبية منذ 2011 فعلٌ مشروعٌ، يصب في حق السوري في حماية نفسه من النظام والمعارضة معًا.
سادسًا: استخلاص مفهومات الاجتماع السياسي من صلب عالم الحياة الخاص بالسوري العادي الذي ينتمي إلى ما بعد 2011. هذا يعني تأويلًا عقلانيًا للثورة من الذين لم يشاركوا في خلقها، وهذا بطبيعة الحال تفكير نيته الفهم والتعليل، ولأن التعليل والتعلُّم مفهومان مترابطان على أكثر من مستوى، يصير هذا التأويل العقلاني مهمًا جدًا.
---------
العربي الجديد
 

مضر الدبس
السبت 7 يناير 2023