الحدث الذي رسم الضحكة الكبرى على وجه الأخير كان الزلزال الذي ضرب البلاد والجوار التركي في شهر شباط الفائت، وهي ضحكة تخطّت المجاز، إذ ظهر حقاً وهو يضحك في مدينة حلب المنكوبة. وكان هناك اتفاق في ردود أفعال السوريين على ربط الفرحة الظاهرة بوعود المساعدات التي جاء بها الزلزال، وأتى تخفيف العقوبات الأمريكية لستة شهور ليظهر كأنه استغلال لفرصة إنسانية سانحة، بينما هو في الأصل توجّه أمريكي داعم للتطبيع العربي الذي بدأ بالمساعدات المتصلة بالزلزال، ثم تُوِّج بدعوة الأسد لحضور مؤتمر القمة في النصف الثاني من أيار.
كان سيصعب التصديق لو قيل في بداية عام 2023 أن حديثاً تلفزيونياً للأسد سيتسبب ربما بالتأثير الأكبر، لكن الأسد كرر ما فعله عندما ظهر ضاحكاً في أول خطاب تلا الثورة في عام 2011، وأطلّ ضاحكاً لامبالياً بمعاناة محكوميه في حديث تلفزيوني بثته سكاي نيوز العربية في التاسع من شهر آب الفائت. إثر خطابه الضاحك عام 2011 تفاقمت النقمة عليه، وبعد بثّ مقابلة سكاي نيوز 2023 بأسبوع اندلعت انتفاضة السويداء المستمرة حتى الآن، واكتفى الأسد بنجاحه في وأد الاحتجاجات التي بدأت تباشيرها بالظهور في أماكن سيطرته الأخرى؛ على نحو خاص في الساحل.
يمكن القول أن عودة الأسد إلى الجامعة العربية تمخضت عن فشل ذريع، فالجامعة لم تقدّم للأسد ما كان منتَظراً حتى على الصعيد المعنوي، إذ سرعان ما استقرّ في الأذهان أنه عاد إلى مكانه في محفل قيادات لا تعبّر عن إرادة حرة لشعوبها. الجديد، والعابر، هو تأكيد معظم القادة العرب على أن وجود سفّاح بينهم ليس مستهجناً بطبيعة الحال. كان الأسد قد سخر من قرار تجميد عضويته في الجامعة معتبراً أنه لم يخسر شيئاً بذلك، وكأنه بعودته استردّ ذلك الذي خسره لا أكثر.
الفشل الكبير هو إخفاق عرّابي التطبيع مع الأسد في انتزاع تنازلات منه في ثلاثة ملفات كان قد أُعلِن عنها، يُستثنى منها ملف الإرهاب الذي وضِع كعنوان بلا محتوى فعلي. أما على صعيد ملف اللاجئين فلم يُحرز أدنى تقدّم في اتجاه عودتهم إلى سوريا، وكان الأسد واضحاً في ربط عودتهم برفع العقوبات الغربية عنه، أي أنه راح يطالب العرب بما لا يملكون قراره. يُذكر أن التوقعات حول تمديد الإعفاءات الأمريكية بعد الزلزال قد خابت، وشهدت الشهور الأخيرة تعزيزاً للعقوبات.
الأهم هو ملف تصنيع المخدرات وإغراق البلدان المجاورة "وصولاً إلى أوروبا" بالكبتاغون، إذ صار واضحاً جداً أنه لم يقلّل حتى من مستوى تدفق المخدرات عبر الجوار الأردني تحديداً. والعمليات الأخيرة للجيش الأردني على الحدود كشفت عن أساليب وأدوات جديدة أشرس بكثير مما مضى، حيث راح "المهرّبون" يستخدمون أسلحة جديدة من ضمنها الطائرات المسيَّرة المزوَّدة بالذخائر. في الظاهر، سخر الأسد من الجامعة العربية، ومن عرّابي التطبيع معه، لكنه أبعدَ من ذلك فشل في الامتحان إذا كان التطبيع العربي بالون اختبار أمريكي.
في غضون ذلك كله، كانت الأوضاع المعيشية تتردّى، وصار واضحاً للمقيمين تحت سيطرة الأسد أن الكارثة ليست في القطيعة العربية ولا في العقوبات الأمريكية، بما أن المساعدات الضخمة التي تدفقت لشهور عقب الزلزال لم تُحدِث فرقاً، وبما أن عائدات الكبتاغون تذهب إلى الجيوب نفسها التي تلقفت المساعدات. هناك أوساط سورية شهدت للمرة الأولى إشارة لا لبس فيها إلى الطغمة الحاكمة كأساس للمشكلة، ومن دون استثناء رأسها "على الأقل" كما كان معتاداً من قبل.
كان الانطباع السائد عام 2012 أن سقوط الأسد وشيك، لو لم تأذن المشيئة الدولية بتدخل إيراني واسع النطاق لصالحه. تكرر الأمر في عام 2015، وأعلن الأسد عجزه عن استعادة السيطرة على أية أراض آنذاك رغم دعم عشرات الميليشيات الإيرانية، لتأتي النجدة الروسية وتنقذه. في المرتين السابقتين، كان الأسد يخوض حربه بمؤازرة من سوريين، ولطالما تباهى بمتانة حلف مؤيديه من وراءه، بل لطالما أُشير إلى تماسك جبهة داعمي الأسد بالمقارنة مع تشرذم خصومه.
ما حدث في عام 2023 تجاوز تلك الصورة المتداولة، ولأول مرة منذ تسلّم عائلته السلطة ظهر الأسد ضعيفاً، وبلا "حاضنة شعبية" إذا استخدمنا تعبيراً شاع في سنوات ما بعد الثورة. صحيح أن المخابرات تمكنت من استيعاب الاحتجاجات في الساحل، وأقلّ منها في حلب، إلا أن الانطباع الذي برز في الشهور الأخيرة من السنة مفاده وجود غليان تحت السطح لا يُعرف متى وكيف سينفجر، ومن المؤكد أن الخوف الذي يلجم الانفجار هو في المقام الأول خوف من داعمي الأسد، لا من مخابراته وقواته.
وإذا استمعنا إلى الأحاديث الواردة من الداخل، ثمة قناعة تنتشر مفادها أن منتسبي الجيش والمخابرات بغالبيتهم لن يدافعوا عن الأسد متى أيقنوا أن الخارج تخلّى عنه. ومن الإشارات التي تؤكد تلك القناعة كثرة التهرّب من الخدمة العسكرية في أوساط لم تألفه من قبل، وسعي الشبان إلى الهجرة "ولو كانت مكلفة وخطرة" من أوساط ليس فيها تقليدياً نسبة عالية من المغتربين. هذه المؤشرات تؤكد على ما هو مختلف هذه السنة، ففي عامَيْ 2012 و2015 كان الأسد ضعيفاً مقابل مقاتلين من الخصوم، أما راهناً فهو ضعيف بمَن كانوا مؤيدين له.
الخلاصة التي يقدّمها الأسد للعالم أنه أضعف من البقاء، إذا كان البقاء يقتضي حداً معقولاً من المؤيدين. العبرة هي في ما ينجم عن رفع الغطاء الخارجي، الغطاء الذي يقول حتى الآن للسوريين أن الأسد أقوى من السقوط رغم إبلائه بلاء حسناً في دحض كافة الذرائع التي استُخدمت للإبقاء عليه
----------
المدن.
*كاتب وروائي سوري.