لكن هناك لغة الجسد، وزلة لسان تستحق الوقوف عندها مطوّلاً، والأهم، تلك التوطئة المطوَّلة والتبريرية قبل الولوج إلى لُبِّ ما احتواه خطاب الأسد... هذا كله يدعم توصيف "المتوجس" الوارد في العنوان أعلاه. ولا نقصد بـ"لُبِّ" الخطاب، خريطة الطريق التي عرضها الأسد للتفاوض مع تركيا، والتي لقيت اهتمام معظم وسائل الإعلام العربية والإقليمية وحصدت غالبية المعالجات التي تناولت ما قاله الرجل. بل نقصد تحديداً، تأكيد الأسد المُكرّر، على نيته الذهاب باقتصاد البلاد إلى مستوى آخر من "النيوليبرالية" المشوّهة، بذريعة العجز عن السير في سياق السياسات الاقتصادية–الاجتماعية نفسها المُعتمدة منذ عقود، والتي تحظى بشعبية بين السوريين، حسب وصف الأسد الذي حمّلها مسؤولية تراكم السلبيات في الوضع السوري المستعصي، بصورة تفوق مسؤولية "الحرب" و"الإرهاب" و"الحصار".
وهذه ليست المرة الأولى التي يعمل فيها الأسد شخصياً، إلى جانب مسؤولِي حكومته، على التوطئة لهذه النقلة المعتزمة في سياسات الدعم الاجتماعي، نظراً لثِقَل وطأتها المُرتقب على الشارع. بل هو يقوم بذلك، منذ بداية العام الجاري. وكانت إحدى أبرز وقفات التوطئة تلك، الحوار المطوّل الذي أجراه وزير الاقتصاد والتجارة الخارجية في حكومة النظام، محمد سامر الخليل، مع صحيفة "الوطن" شبه الرسمية في آذار/مارس الفائت، حينما بشّر السوريين بمستوى جديد، أعلى، من "وصفة" السياسات الاقتصادية-الاجتماعية المُعتمدة منذ نهايات العام 2019، والتي أوصلتهم إلى أكبر تدهور معيشي في تاريخهم المعاصر. وذلك بذريعة الحاجة الملحّة للتوقف عن "سياسة التمويل بالعجز" التي تضطر إليها الحكومة في سبيل الاستمرار بالدعم الاجتماعي. وبعد أسبوع فقط من حديث وزير الاقتصاد، أطل رأس النظام شخصياً، مطلع نيسان/أبريل الفائت، في حوارٍ مع مجموعة أكاديميين اقتصاديين "بعثيين"، نظّر خلاله حول "جنس الاشتراكية" الذي يريده للحزب الحاكم، لكن الأهم، أنه مرّر خلال الحوار، صافرة البدء بموجة جديدة من الخصخصة للقطاع العام ورفع الدعم.
وبخلاف وقفات التوطئة السابقة تلك، كان حديث الأسد هذه المرة، من حيث المضمون، مرتبكاً، ومتعرجاً، ومطوّلاً للغاية، قبل المُباشرة في إيصال الرسالة المقصودة للسوريين. فهو لم يتحرّج من إدانة سياسات حكم "البعث"، وعهد حكم والده، وصولاً إلى عهد حكمه هو شخصياً، حينما اعتبر أن التوجهات الاقتصادية المُعتمدة منذ ستة عقود، تسببت في "نقص مناعة" وأزمات اقتصادية حادة، عرّتها "الحرب" وفاقمت حدّتها. ثم ظهر ارتباك مضمون خطابه، فأشار إلى أن بعض هذه التوجهات الاقتصادية يعود إلى الخمسينات من القرن الماضي، رغم أن الجميع يعرف أن سياسة الدعم الاجتماعي النابعة من "اشتراكية" الدولة السورية، تجذرت في سوريا مع حكم "البعث" وحافظ الأسد، بخلاف النموذج الليبرالي الذي ساد اقتصاد البلاد في الخمسينات.
وظهر الارتباك مجدداً في مضمون خطاب الأسد، حينما ارتد عن إدانة سياسات العقود الستة من حكم "البعث" وحكم عائلته، لينزع عنها "السلبية" المطلقة، ويقول إنها كانت "صائبة"، لكن أي شيء إيجابي فيه سلبيات تتراكم مع الزمن، فتتحول "السياسة الصائبة" إلى سلبية، رغم أنها سياسة "صحيحة".
وكشفت زلة لسان وقع فيها الأسد، أنه يدرك تماماً مدى التدهور المعيشي الذي وصل إليه الخاضعون لحكمه، وأنه ليس منفصلاً عن الواقع –الاقتصادي على الأقل- في مناطق سيطرته، كما يُوصف عادةً. إذ وصف السوريين المستفيدين من الدعم الاجتماعي بأصحاب الدخل "المعدوم"، قبل أن يصحح زلته بصورة مباشرة، ويستخدم وصف "أصحاب الدخل المحدود". ومن ثم عقّب بأن هذه السياسات أدت إلى انحدار وضع هذه "الشريحة"، التي من المفترض أن هذه السياسات وُضعت من أجل خدمتها. ولا نعرف مقدار ما يعرفه الأسد عن حجم هذه "الشريحة"، التي تصنفها منظمات دولية بأنها باتت تشكّل غالبية مطلقة من شعبه.
لكن إشارة الأسد إلى أن أي مسؤول لا يجرؤ على الاقتراب من سياسات الدعم الاجتماعي، تجعلنا نعرف أنه يدرك ثقل وطأة المستوى الجديد الآتي من رفع الدعم. إذ حدّد الأسد بوضوح القطاعات المقصودة، وهي تضم، إلى جانب دعم السلع الأساسية والمحروقات، سياسات التوظيف ودعم قطاعَي الصحة والتعليم والقطاع العام. ولأن دعم السلع الأساسية والمحروقات تقلَّص بصورة نوعية خلال السنوات الخمس الأخيرة حتى كاد ينتهي، ولأن سياسات التوظيف الحكومي باتت محدودة وغير مجدية اقتصادياً حتى للشرائح التي كانت تسعى لها سابقاً، فإن المقصود بالمستوى الجديد من تقليص الدعم الاجتماعي هو الصحة والتعليم ومؤسسات القطاع العام.
فلماذا كل هذا التوجّس من جانب الأسد حيال تنفيذ سياسته الاقتصادية–الاجتماعية هذه؟
جانب من الجواب يكمن في الذكرى السنوية الأولى لحراك السويداء المناوئ للنظام، والتي مرت قبل أسبوعين. إذ نذكر أن السبب الأول الذي تسبب في انفجار ذاك الحراك الاحتجاجي، كان قرارات رفع أسعار المشتقات النفطية في 15 آب/أغسطس 2023. في تلك البرهة من الزمن، تصاعدت الرهانات على تمدد احتجاجات السويداء إلى الساحل السوري. وقد تبدت إرهاصات جليّة لذلك، كان أبرزها حملة انتقادات من جانب نشطاء موالين من الطائفة العلوية، بنبرة غير مسبوقة، طاولت الأسد شخصياً، قبل أن يقوم النظام باحتواء هذا الاحتمال، بأدوات أمنية ترهيبية وأخرى زبائنية مع مؤثّرين محليين في البيئة الاجتماعية هناك.
لكن المسببات ذاتها، التي فجّرت غضب دروز سوريا إلى غير رجعة، في طريقها إلى نقلة نوعية أخرى، يبدو جلياً أن النظام يدرك أن احتمالية تفجيرها لغضْبَةٍ في البيئة العلوية الموالية، أمر وارد. وقد كان اقتصاديون موالون للنظام، صريحين في أكثر من مناسبة منذ بداية العام الجاري، حينما حذّروا علناً من المساس بدعم الصحة والتعليم في البلاد، بوصفه سيكون خطراً يهدد الأمن الاجتماعي والاقتصادي، وسط تلميحات شبه مباشرة إلى زبائنية صفقات "التشاركية" التي يتم بموجبها رهن مؤسسات في القطاع العام لصالح شركات واجهة محسوبة على رأس النظام شخصياً، أو على مرتبطين به.
لا يعني ما سبق أن الأسد غير جاد في الانتقال إلى المستوى الجديد والأخطر، من نزع البُعد الاجتماعي عن سياسات الدولة الاقتصادية. فهو باشر في ذلك. لكنه يعني أن الأسد، وبصورة غير معتادة، يُبدي تهيّباً تجاه الداخل، أكثر بكثير من الخارج. فتلميحات أكاديميين اقتصاديين من خطر هذه النقلة على استقرار حكمه، لا بد أنها تشغل عقله... من دون أن تردعه، حتى الآن
----------
المدن.
*كاتب سوري.