وحين اتضحت فداحة هذا التصريح، من زاوية كونه دعوة صريحة إلى ارتكاب الإبادة الجماعية، سارعت سولزمان إلى التغريد بأنها (من موقعها كـ”زوجة ليهودي وأمّ ليهودي”، كما كتبت) إنما كانت تقصد “حماس” ولا يمكن أن تدعو إلى “محو جماعة بشرية بأكملها”. وهو التفسير الذي سارعت إلى تلقفه الجهات السياسية والإعلامية ذاتها التي سبق أن حرّضت على النائبة رشيدة طليب وطالبت بمعاقبتها على تصريحات لا تُحيل البتة إلى أيّ تأثيم جماعي لليهود أو حتى للإسرائيليين، فطُوي بالتالي أيّ احتمال لمساءلة سولزمان.
وبصدد الإشارة اليهودية التي ساقتها النائبة الجمهورية، وأنها تمنعها من الدعوة إلى الإبادة الجماعية، قد تصحّ استعادة مقولة شهيرة طرحها الناقد والفيلسوف الفرنسي الأمريكي جورج شتاينر (1929 – 2020): أنّ اليهودي، في تعريفه، هو ذاك الذي سيعجز أبداً (لاحظوا نبرة الإطلاق: أبداً!) عن ممارسة التعذيب، وعن دفن الأحياء، وعن منع الكتب… أياً كانت الأسباب والموجبات. ثمة، في نظر شتاينر، إرث أخلاقي عريق يحول دون قيام اليهودي بأيّ من هذه الممارسات الثلاث؛ فاليهود قبيلة الأنبياء، ورثة الكوارث، وأهل المآسي؛ وهم دُفنوا أحياء على امتداد التاريخ، ولا يعقل أن يدفنوا سواهم؛ واليهودي يقيم في بيت النصّ، أصلاً، وليس له أن يمنع الكتاب.
فيما بعد، ومع ولادة الانتفاضة الفلسطينية الأولى وافتضاح حقائق الممارسات الإسرائيلية في قمعها على نحو يفقأ حتى الأعين حسيرة البصر، اعترف شتاينر بأنّ إسرائيل مارست التعذيب، ودفنت الفلسطينيين أحياء، ومنعت الكتب. وقبل أن ينخرط الرجل في حزن عميق معلَن، كتب يرثي الثمن الباهظ الذي تدفعه اليهودية في انتقالها من طور المعجزة السوداء لحفظ النوع والبقاء، إلى المعجزة الدموية لدولة تعيش بحدّ السيف وحده. هذا عن “الدولة”، وأمّا أنصارها هنا وهناك في أرجاء “العالم الحر”، أمثال النائبة الجمهورية سولزمان، فهم أشدّ تسابقاً على مجاراة نموذج وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش الذي ألقى خطاباً من قلب عاصمة الأنوار الفرنسية، ذكر فيه أنه “لا يوجد شيء اسمه شعب فلسطيني، وينبغي أن يسمعوا ذلك في قصر الإليزيه وكذلك في البيت الأبيض”؛ أو رئيس حكومته نتنياهو الذي رفع من سدّة الأمم المتحدة خارطة للشرق الأوسط خالية تماماً من أية جغرافيا فلسطينية.
وعند عدد من مجموعات الضغط الصهيونية/ الإسرائيلية، في الولايات المتحدة خصوصاً، لا يستقيم أن تكون يهودي الديانة، وأن تمتنع في الآن ذاته عن نصرة دولة الاحتلال، أو حتى أن تلتزم الصمت فلا تساند ولا تدين؛ كما هي حال المخرج السينمائي البارز ستيفن سبيلبرغ، الذي حلّ عليه سخط “مؤسسة الناجين من الهولوكوست ـ فرع الولايات المتحدة”. ولم يشفع للرجل أنه مخرج الفيلم الشهير “لائحة شندلر”، 1994، ألمع نتاجات هوليود في إضاءة سلسلة من الجوانب الخافية حول إنقاذ اليهود من السوق إلى معسكرات الهولوكوست؛ كما لم يخفف من تجريمه أنه وقّع فيلماً ثانياً بديعاً بعنوان “آل فيبلمان”، 2022، توغل فيه إلى بواطن إنسانية معمّقة لآلام سيرة صبا يهودية، ولآمالها.
لا نريد منك فيلماً خاصاً عن 7 تشرين الأول (أكتوبر)، هكذا ببساطة كتب رئيس المؤسسة دافيد شيكتر في رسالته المفتوحة إلى سبيلبرغ؛ ولكن نطالبك “بالإعلان عن موقف ضدّ الإرهاب، وضدّ حماس والملايين التي تحتفي بإراقة الدم اليهودي، وتطلب المزيد”. هنا أيضاً، لا يمكن لمفردة “الملايين” أن تعني “حماس” وحدها؛ بقدر ما تطبّع، ضمناً أو صراحة، مع مفهوم الإبادة الجماعية. وعلى أكثر من نحو، وبطرائق قديمة لا تتجدد إلا من حيث الشكل؛ تستأنف المؤسسة نهج ابتزاز كبار الكتّاب والصحافيين والفنّانين الأمريكيين اليهود، واتهامهم ليس بالتخاذل والخور في الدفاع عن دولة الاحتلال فحسب، بل كذلك بالتهمة العظمى: العداء للسامية! بين هؤلاء وودي آلن، الممثل والسينمائي المعروف، لأنه أعلن العجز عن هضم مشهد جندي إسرائيلي يدقّ بالحجارة عظم فتى فلسطيني أعزل؛ وسيمور هيرش، الكاتب والمحقق الصحافي المعروف، لأنه نبش خفايا الموساد وأسرار التسلح النووي الإسرائيلي في سلسلة مقالاته وتحقيقاته، ثم في كتابه “خيار شمشوم”….
هذا في ماضي الأزمنة، أما اليوم فلم يعد ثمة حرج في اعتناق الإبادة الجماعية جهاراً، وفي تجميل قتل الفلسطينيين؛ جميعهم، وبالملايين!
-----------
القدس العربي