اعتبر جيجك أن إسرائيل «تتحول إلى دولة ثيوقراطية» وأن «من السخف لوم الفلسطينيين لرفضهم التفاوض «معها لأن برنامج حكومتها» يزيل المفاوضات من على الطاولة». الخلاصة، حسب جيجك، هي أن «حماس والحكومة القومية المتطرفة في إسرائيل، يعارضان أي خيار للسلام» وأن ما يحصل هو صراع بين «الأصوليين من كلا الجانبين».
كان طبيعيا أن يتعرض جيجك، الذي ألقى خطابه في افتتاح معرض فرانكفورت للكتاب، لصيحات استهجان، يمكن أن نفترض أن مبعثها رفض بعض الحاضرين مقارنة إسرائيل بحركة «حماس» وبالتالي، مقارنة الدولة التي يعتبرها «العالم الغربي» جزيرته الديمقراطية والحضارية في بحر ديكتاتوريات «الشرق الأوسط» مع الحركة المصنّفة تنظيما إرهابيا في جلّ ذلك العالم الغربي، أي مقارنة الإسرائيليين، الذين جاءت نسبتهم الغالبة من يهود أوروبا نفسها؛ مع الفلسطينيين، العرب والمسلمين، من «السكان الأصليين» كما هو حال الهنود الحمر بالنسبة لأوائل المستعمرين الأوروبيين في أمريكا، أو «الأبوريجينال» في أستراليا ونيوزيلندا، أو السود في جنوب افريقيا، أيام حكم العنصريين البيض.
من روما إلى العثمانيين
تحفل سردية إسرائيل بالعناصر التي تفصلها وتفاضلها عن محيطها العربي ـ الإسلامي. يتضافر في هذه السردية التاريخ الدنيوي للكولونياليات والاستيطانات الغربية، مع عناصر المقدس في المخيال اليهودي ـ المسيحي عن الأرض التي وعد الله بها «الشعب المختار» أو «الحروب الصليبية» التي اجتاحت المنطقة العربية، ويمكن أن تمتد إلى حفريات الصراع على البحر المتوسط بين روما وقرطاجة، والفتح العربي للأندلس والقسطنطينية، ووصول العثمانيين إلى وسط أوروبا. هناك، فوق كل ذلك، تفريعات إضافية خاصة بدول غربية بالذات، كما هو حال ألمانيا، التي أصبحت «المحرقة» النازية لليهود، جزءا من معمارها التأسيسي المضاد، الذي يجمع بين العقلاني واللاعقلاني الذي يفسر كيف أيقظ الهجوم الأخير على إسرائيل «طوفان» مشاعر الإثم التي تم توظيفها، في مفارقة سوداء، في تبرير، ما اعتبرته الفيلسوفة اليهودية الأمريكية جوديث بتلر «إبادة جماعية» لسكان غزة. خط التماهي الأمريكي – الإسرائيلي، لا يقتصر على مستعمرات المستوطنين الإنكليز في الأرض القاريّة المفتوحة، التي تحوّلت إلى «الولايات المتحدة الأمريكية» ولا على «العهد القديم» الذي أعادت طوائف البروتستانت الأمريكية تشغيل طاقاته في المجالات السياسية والأدبية وحتى العلوم الطبيعية والإنسانية.
في خضمّ الهياج الغرائزي واللاعقلاني الغربي (المعطوف على «عقلانية» العنصرية والسياسات المناهضة للمهاجرين) الذي تكشّف بعد هجوم «حماس» الأخير، هناك فائدة مرتجاة لمقاربات هؤلاء الفلاسفة، باستخدام مبدأ المقارنة التي تقيّمها بتلر بين «الهولوكوست» اليهودي، و»الإبادة الجماعية» للفلسطينيين، وحتى مساواة جيجك بين «أصوليي الطرفين».
كل شيء يتعلق بالعرق!
مثلها مثل التفوّق الكاسح للعالم الغربي عسكريا، لاحظنا «تفوقا ناريا» كبيرا للسردية الإسرائيلية، ضمن المجال الغربي، لكن هذا التفوّق، الذي كان تأسس على العقلانية والتحليل البارد والمقارنات الصلبة، وجد مجالا للحتّ والتفكيك بتوسيع المقارنات وجعلها أكثر برودة وصلابة.
في رواية «تاتكرد أو حملة صليبية جديدة» يقول بنجامين دزرائيلي «إن كل شيء يتعلق بالعرق». كان ذلك إعلانا أدبيا عن اكتساح نظرية الأعراق، لفترة تاريخية طويلة، للسياق المعرفي الغربي، حيث صارت، كما يقول كنان مالك في كتابه «إنسان، وحش وزومبي» تفسيرا لكل شيء، وحلا لكل المسائل: من أسباب حصول الجرائم، إلى تفسير أصول «المتوحشين» في افريقيا وآسيا، ومن العلاقات بين الطبقات، إلى تفسير ذهنيات البشر، ومن تحليل النظم السياسية إلى مصائر المجتمعات البشرية. تعرضت هذه «النظرية» إلى انحسار بعد التداعيات الكبرى لصعود وانهيار النظم الفاشية والنازية، التي شكلت فيها الحرب العالمية، وحدث الهولوكوست، موقعا تأسيسيا، وكان دخول مصطلح العنصرية في التداول اللغوي بعد الحرب انعكاسا لرفض استخدام الأعراق للتمييز بين البشر.
انبثق عام 1946، ما يسميه الكاتب البريطاني كنان مالك، «إنسان يونسكو» حين أسست منظمة الأمم المتحدة للثقافة والتعليم العلمي، تحت إشراف عالم الأحياء جوليان هكسلي. لقد كانت الحرب العالمية، كما قال مؤتمرها التأسيسي، «ممكنة بسبب إنكار المبادئ الديمقراطية للكرامة، والمساواة، والاحترام المشترك للبشر». في بيانها الأول حول الأعراق، في 18 تموز/ يوليو 1950، قالت المنظمة إن «العلماء توصلوا إلى اتفاق عام بالمصادقة على أن الجنس البشري واحد». يمكن الجزم، ودون مجازفة منطقية، أن ما يحصل في قطاع غزة حاليا، هو مصادقة غربية على أن الجنس البشري غير واحد، وأن عدم وجود معارضة حقيقية وكافية لهذا الانهيار للمنطق الإنساني، ضمن النخب الغربية، دليل على مأزق كبير لها، وللجنس البشري.
هل يموت السم بموت البهيمة؟
يقدّم ريجيس دوبريه، في «نقد العقل السياسي» هذه الصورة البلاغية التي أجدها شديدة التعبير عما يحصل حاليا: «عقارب المعرفة نفسها يجن جنونها ما أن تقع في حقل مغناطيسي. هو رعب «مرضي» يصيب «الأيديولوجيا». يصف المفكر الفرنسي أعراضا نجدها واضحة حاليا: «الإيحاء بالعار بدل الدعوة إلى التفكير، والإحباط بدل الإقناع، والتذكير عن طريق التصوير بدلا من الشرح بالحجج ـ تلك هي الأمارات الجلية للخطاب المقدس» وحتى الخطب المناهضة لعنف الخطاب «بالغة العنف» حيث لا أثر لتحليل النصوص، أو لإعادة بناء الوقائع، أو لتقويم البراهين. الخطاب التسلطي هو «فضيحة منطقية». يضع دوبريه إصبعه على الاستعمال المخاتل للأيديولوجيا (وهي في رأيي على ما يجري حاليا، نظرية الأعراق) بقوله إن من المنطقي في عصر الفاشية ومعسكر الاعتقال «حيث تنفذ الفظاعة بمصطلحات الأيديولوجيا أن تهاجم «البهيمة الجديدة» لكن ليس مؤكدا أن يموت السم بموت البهيمة، إلا إذا أحلت النتيجة محل السبب».
لا يمكن المماراة في دور النازية، التي استخدمت مقولة «تفوق الآريين» لإبادة اليهود، أو الستالينية في إبادة البورجوازيين والفلاحين «الرجعيين» في صلب أسباب اندفاع اليهود نحو فلسطين، لتتحد اشتراكية الكيبوتزات، مع التطهير العرقي للاستعمار الأوروبي. لكن المفارقة كانت في صيرورة «الدولة اليهودية» حارسة لغيتو ومعسكر اعتقال كبير يسمى «قطاع غزة» وأن تعيد إسرائيل، في حلف مع الديمقراطيات الغربية، استخدام سمّ العنصرية، لتنقلب «البهيمة» القديمة، إلى «بقرة الغرب المقدسة» التي في إمكانها الانتقام لألف وأربعمئة من قتلاها، بإرهاب دموي متواصل لا أحد يعرف حده الأقصى لآلاف الأطفال والنساء والرجال. السم العنصري، بهذا المعنى، لم يمت بموت «البهيمة» الهتلرية، وها نحن نراه، منفلتا في موجة الجنون الغربية ـ الإسرائيلية.
كاتب من أسرة «القدس العربي»