إن كنتَ تُنكر صور قيصر فأنت منفصل عن الواقع، وبعبارة أخرى؛ مختل عقلياً. وإن كنت تعرف وتجترح التبريرات لكل هذا الإجرام، فأنت مجرم بالقدر نفسه.
عشر سنوات من الجريمة المدوية لم تقنع موالي النظام بقول كلمة. انقطاع الكهرباء، وارتفاع سعر الحواجز، وتهاوي الليرة السورية، هذه مجرد تفاصيل. العشرية الدموية تقول إن لا أمل من الحاضنة الأكثر التصاقاً بالنظام، لا الفقر، ولا الذل، ولا الأبناء العائدون بتوابيت، ولا حتى المزيد من الفقر، والذل، والمزيد من الأبناء العائدين بتوابيت، يمكن أن تزحزحها عن تأييدها للقاتل. انتفاضة لمى وبشار برهوم هي غضب عظام الرقبة، لا أكثر. لكن مِن أين تأتي سيدة تعيش على تخوم الفرقة الرابعة (يقودها ماهر الأسد)، بكل هذه القوة لتستخدم على الملأ مجموعة من أفعال الأمر الثورية: «اتركوا الناس تعيش.
أوقفوا الأتاوات. حلّوا عن الناس. ارحموا مَن في الأرض، فَقَدْنا أدنى مقومات الكرامة… بدنا نقول لأ»؟! بل إنها تتجرأ على أكثر من ذلك، كما يظهر فيديو وضعته على صفحتها في فيسبوك، يصور (خلسة!) لحظة محاولة اعتقالها من بيتها من قبل أمن النظام. ولا مناص هنا من استعادة الحوار، الذي نحسب أنه تاريخي ولا يتكرر في سوريا الأسد:
«صوت لمى: خبروه للعقيد لؤي؛ اللي بدو شي من عنا هو بيشرف يطلع.
ابنتها: أخذتوا لمى عباس، هي ليست شخصاً واحداً، هناك ألف لمى غيرها (توقعتُ أن تأتي هنا عبارة: لمى فكرة، والفكرة لا يمكن اعتقالها). إنت بتفوت على بيت الساعة تنتين بالليل، نحنا ببلد قانون، حقي شوف مذكرة إحضار.
صوت رجل: لحد الآن أنا متمالك أعصابي. ما بتوجّه لي تعليمات بنص بيتي، إياك!
رجل الأمن: بعتذر».
بعد ذلك ستكتب لمى عباس عبارتها الذهبية: «في شي جواتي كان حلو كتير. ما بعد محاولة اعتقالي ليس كما قبلها». ولا ندري إن ظهرت هاشتاغات تقول «كلنا لمى»، أو«الحرية بتلبقلك»، أو عبارات من هذا القبيل. لا خلاف بالطبع عن مرحلة ما قبل الاعتقال، أما بخصوص الـ «ما بعد» فلا ندري إن كانت لمى تعرف حقاً شيئاً عن هذا المرحلة، إن كانت قرأت شيئاً عنها، أو التقت بأشخاص من كوكب الـ «ما بعد» . إذا كان الجواب لا، فهاكِ باقة صغيرة مِن هذا العالم:
رواية «القوقعة» لمصطفى خليفة. وإن كان لديك طاقة على الاحتمال جرِّبي مثلاً «لهذا أخفينا الموتى» لوائل الزهراوي. بإمكانك أيضاً مشاهدة برنامج «يا حرية» على تلفزيون «سوريا»، وهناك العديد من الباقات الأخرى.
ما هو إلا مسلسل درامي آخر، ليس أوله الفنان السوري الذي لعب دور الغاضب المتململ من تأخر وصول النصر، ولا آخره ثورة فراس إبراهيم، وبشار برهوم، ولمى عباس.
عجيب فعلاً أنك، سيدة لمى، تعرفين تفاصيل ما يجري على الحواجز، ومطلّة على أحوال الناس بهذا القدر، ولا تعرفين أن لا أحد في بلدك الجميل يحتاج إلى الوريقة المسماة مذكرة، لا زوار الفجر، ولا الزوار الخجولون المعتذرون في الثانية ليلاً. كأنك آتية من مسلسل بوليسي كتبه الراحل رياض عصمت وقُدّم على شاشة التلفزيون السوري. في تلك الدراما الفريدة من نوعها كان المحقق يطلب من مرؤوسيه (وعلى ما أذكر أن المحقق كان سيدة، أدّتها الممثلة نورمان أسعد) أن يُملوا على المتهم حقوقه، وإبلاغه أن من حقه الصمت حتى يأتي محاميه.
دراما فريدة لأنها بالضبط على عكس مألوف الواقع السوري المديد المروّع، كما على عكس دراما إذاعية ذائعة الصيت حملت اسم «حكم العدالة»، كانت تأتي كل يوم ثلاثاء، واشتهر فيها المساعد جميل، الذي ما إن ينادي عليه المحقق حتى ترتعد فرائص المستمعين السوريين في أرجاء المعمورة، كانوا يعرفون أن الموقوف لن يطول به الأمر حتى يعترف تحت التعذيب، وتنحو الحلقة، بالتالي، إلى انكشاف الأسرار، والنهاية، وصدور حكم «العدالة».
لقد انتابني الشك بالفعل؛ إن كانت لمى عباس لا تعرف كيف يُعتَقل الناس، وفي أي ظروف، ولأية أسباب، فإن لدى “سيدة الياسمين” أسماء الأسد الأسباب الكافية لتظن أن بلدها سويسرا، وأن لا سجون ولا تعذيب، وأن صور قيصر مجرد اختراع فوتوشوب، بحسب زوجها في مقابلة شهيرة! وفي الواقع، لا أحد في العالم بإمكانه الإنكار، إن كنتَ تنكر فأنت منفصل عن الواقع، وبعبارة أخرى؛ مختل عقلياً. وإن كنت تعرف وتجترح التبريرات لكل هذا الإجرام، فأنت مجرم بالقدر نفسه.
على أي حال، ما هو إلا مسلسل درامي آخر، ليس أوله الفنان السوري الذي لعب دور الغاضب المتململ من تأخر وصول النصر، ولا آخره ثورة فراس إبراهيم، وبشار برهوم، ولمى عباس.
هو مسلسل بائس، يحكيه معتوه، يهذيه مختل عقلياً، لا يؤشر، ولا يسلّي، ولا يُنْتظر منه أي خير.
--------------------
* كاتب من أسرة تحرير «القدس العربي»