الدعم اللفظي لا يكون بالضرورة كلاماً شعاراتياً خالياً من أي مضمون جاد، الأمر الذي اعتاد عليه السوريون في ظل الحكم البعثي والأسدي، وبقي عالقاً في أذهانهم ليجعلهم غالباً يستخفّون بأي كلام. ومن المنطلق ذاته، يكون الكلام الصادر عن الضعيف أدعى للاستخفاف، ولنتخيَّل في حالتنا صدور بيان أو بيانات عن معارضين أو هياكل معارضة سورية يُعلَن فيها وقوف هؤلاء إلى جانب واشنطن ضد الاستفزازات الروسية. نتوقع سلفاً أن هكذا بيان سيُقابَل بالسخرية، بل إن فائضاً من السخرية ينتظر مَن تسوّل له نفسه ذلك.
في المقابل، يظهر من طبائع الأمور أن يصمت المعارضون عمّا يحدث في سماء سوريا بين واشنطن وموسكو! وتتكاثر المبررات لهذا الصمت، أولها خروج الشأن السوري من أيدي السوريين جميعاً، وذلك يتضخم عندما يكون الاشتباك بين قوتين نوويتين. المبرر الثاني، ولعله الأقوى الذي لا يحتاج إعلاناً، هو في تبعية قسم من المعارضة لأنقرة، والأخيرة توّاقة إلى خروج القوات الأمريكية من سوريا وإعادة قسد إلى بيت الطاعة الأسدي. يدعم المبررَ الأول وجودُ استنكاف متزايد لدى معظم السوريين عن الاهتمام بالسياسة، ما لم تمسّ حيواتهم مباشرة. ويدعم الشقاقُ بين العرب والأكراد المبررَ الثاني، الشقاق الذي استقرّ كأنه قدر لا يمكن التفاعل معه أيضاً بالسياسة.
بخلاف نظرة الاستخفاف السائدة، نذهب إلى القول أن إعلان موقف حقيقي مما يحدث في سماء سوريا شأنٌ مفهومي، لا لفظي فقط بالمعنى المذموم، بصرف النظر عن أن الإعلان لا يغيّر في ميزان القوى بين المتصارعين، ولن يكون له تأثير يُذكر على مجريات الصراع. إعلان الموقف يتعلق أولاً برؤية السوريين للصراع في سوريا وعليها، ورؤيتهم لمستقبل بلادهم ضمن الخريطة السياسية الحالية، لا وفق التمنيات أو النوايا الطيبة في أحسن الأحوال. السؤال المعلّق، الذي لا يُطرح بجدية تناسب أهميته: هل تريد المعارضة بقاء القوات الأمريكية في سوريا أم رحيلها؟ وهل ترى في بقائها منفعة لحلّ أو تسوية مستقبليين؟ أم ترى في بقائها طويل الأمد، إذا تعذّر الحل، عاملاً مساعداً على تقسيم سوريا؟ وفي حال كان الأمر على هذا النحو، هل تفضّل المعارضة تقسيم سوريا أم تسليمها لحكم الأسد مرة أخرى؟
هناك العديد من الأسئلة المتصلة بالأسئلة السابقة، والإجابة عنها هي ما يجعل موقف المعارضة النهائي من واشنطن أبعد من أن يكون لفظياً فحسب. وفي ذلك مغادرة لحالة التشكّي "اللفظي حقاً" من سياسة واشنطن، الحالة التي نراها في عموم الوسط السوري المعارض، ونستطيع تلخيص مقولاتها بأن قرار الإبقاء على بشار أمريكيٌّ في المقام الأول، وبأن واشنطن غير مكترثة بحل مقبول في سوريا، وإلا كانت ضغطت من أجل مفاوضات حقيقية تحت إشراف الأمم المتحدة،... وتطول قائمة المآخذ على السياسة الأمريكية، من دون أن تمنع سعي المعارضة للحصول على دعمها، ومن دون توقّف المعارضين عن لوم واشنطن لأنها لا تضع شيئاً من ثقلها لدعم السوريين، لا الأكراد منهم فقط كما تفعل.
قد تتسع قائمة المآخذ على سياسة واشنطن في سوريا، لكنها تبقى الجهة الدولية الوحيدة المؤثّرة التي تعيق التطبيع مع الأسد، والتي تفرض عليه عقوبات ذات فعالية حقيقية، فضلاً عن أن وجود قواتها يمنع تسويةً تعيد سيطرته على كافة الأراضي السورية. وقد شهدنا في الشهور الأخيرة تحولاً في سياسة أنقرة، يتجاهل التغيير الذي يريده السوريون ويربط التطبيع بينها وبين الأسد بملفي اللاجئين والأكراد لا غير. مع ذلك لم تكن هناك مطالبات باتخاذ موقف معارض معادٍ لأنقرة، لأن الواقعية والضرورة الملحّة تقتضيان التنسيق معها والحصول على موافقتها في العديد من القضايا التي تخص ملايين السوريين في مناطق نفوذها.
الموقف الذي يمكن اتخاذه من الوجود الأمريكي وآفاقه في سوريا مختلف عن الذي يستحيل أن تتخذه المعارضة من تبدلات موقف أنقرة، إذ يمكن في الحالة الأمريكية اتخاذ موقف يؤيد بقاء القوات الأمريكية، لا حباً بها بالتأكيد، مع إبداء تحفّظات على سياسة واشنطن، خاصة إذا كانت التحفظات سورية حقاً وغير مدفوعة فقط بحسابات الراعي التركي. أيضاً يمكن للذين يخشون الوجود الأمريكي المديد، وتأثيره على مستقبل سوريا، أن يرفضوه. لكن نقاشاً من هذا النوع سيضع المؤيدين والرافضين أمام استحقاق مناقشة الخريطة الجيوسياسية السورية كما هي عليه فعلاً، لا كما كانت قبل اندلاع الثورة، ولا كما يتوخّاها الذين يحلمون بحلّ يستأصل الأسد من دون تبعات وأثمان فوق التي دُفعت حتى الآن.
والموقف المطلوب يتجاوز ما صار مكروراً ومملاً عن عجز السوريين، إذ ينبغي التمييز بين العجز عن الفعل وبين الاستنكاف عن الفهم وعن تكوين رأي ما تجاه قضية أساسية. نضيف أن الاستنكاف عن خوض نقاشات على الصعيد العام شجّع ويشجّع تنظيمات المعارضة على تجاهل مسؤولياتها تجاه القضايا الكبرى الأساسية، وتجاه متطلبات أدنى لا يندر أن تكون متصلة بما هو أساسي. على سبيل المثال لا الحصر، بالتزامن مع التصعيد الروسي في السماء السورية، استخدمت موسكو حق النقض لمنع تمديد آلية إدخال المساعدات الدولية إلى الشمال السوري، والوضع يُنذر بمجاعة كبرى لأربعة ملايين لاجئ إذا استمر بوتين على موقفه في لقائه المنتظر بعد أيام مع أردوغان. أي أن التصعيد العسكري والتجويع متلازمان، حيث يُستخدم ملايين اللاجئين للضغط على واشنطن التي ستتجه إليها الأنظار لإيجاد حلّ ما لهم، ولو خارج الآلية الأممية.
من موقع المتضرر يسبق الأسد المعارضين في إدراك أهمية الوجود الأمريكي، وفي فهم التصعيد الحالي، يصرّح وزير خارجيته من طهران يوم الاثنين أن من الأفضل للجيش الأمريكي أن ينسحب من سوريا، قبل أن يُجبر على ذلك. ولا يغيب تقاسم الأدوار، حيث صرّح بوتين من قبل أنه لن يبادر إلى مزيد من التصعيد ما لم تعمد واشنطن إليه. من السهل طبعاً السخرية من تهديد وزير خارجية الأسد، لكن ما سيكون مدعاة لسخرية أشدّ أن تتباكى المعارضة يوماً إذا رحلت القوات الأمريكية، وأن تعتبر رحيلها مؤامرة أمريكية أخيرة.
-------
المدن