بنت المسالمة ملاحظاتها على فرضية رئيسة، عدم وجود أحزاب حقيقية في سورية. لذا فإن ما قيل عمّا أحدثته الثورة في الواقع، وما قدّمته من فرصة للأحزاب، مبالغة. كان الأنسب أن تقول إنه نافلة لأنه ليس ثمّة متلقّ. وعادت واعتبرت ملاحظتي على أداء الأحزاب مُحبطة، وهذا لا يتسق مع قولها بعدم وجود أحزاب حقيقية، وحمّلت أصدقاء الشعب السوري مسؤولية فشل الثورة. وواقع الحال أن نفي وجود أحزاب سياسية معارضة مبالغة صارخة، حتى لا أقول نظرة عدمية، فلأحزاب المعارضة، على ما فيها من ضعف وقلة خبرة، منطلقات فكرية وسياسية، ولديها هياكل تنظيمية ومؤسّسات وقيادات، وتعقد مؤتمرات وتُصدر نشرات وبيانات وعمرها في النضال طويل؛ بين 75 و100 سنة. وعدم فعاليتها يلزمنا بالبحث عن السبب وراء ترهّلها وإنهاكها، لا نفي وجودها.
يمكن التدقيق في حقيقة الموقف والعمل على استجلاء الصورة واستنتاج حكم واقعي من خلال استقراء المواقف والوقائع، فعمل النظام على إغلاق المجال العام ومنع قيام حياة سياسية حقيقية هو المبرّر المنطقي والدافع الرئيس لعمل الأحزاب السياسية المعارضة لتغيير هذا الواقع. هذا من حيث المبدأ، وهو يستدعي التفكير في سبل مواجهة هذا الواقع والتغلب على ما فيه من قيود وعقبات. إذ لا يكفي أن نتذمّر من الوضع، بل لا بد من مواجهته بدفع من غريزة الحرية والكرامة التي غرسها الخالق، عزّ وجلّ، في فطرة الإنسان. وهذا يعيدنا إلى سيرة أحزاب المعارضة وتوجّهاتها في العقدين الأخيرين وعملها على الأرض وتقدير مدى منطقيّته وعمليته.
طرحت لجان إحياء المجتمع المدني من عام 2000 إلى 2005، وكنت عضوا في لجنتها الإعلامية، بعد بيانيها، بيان الـ 99 وبيان الـ 1000، ووثيقتها "توافقات وطنية"، مجموعة مبادرات ميدانية، خميس فلسطين عام 2002، حيث يتجمّع المشاركون أمام مكتب الأمم المتحدة في دمشق للتضامن مع الشعب الفلسطيني في مقاومته الاحتلال الإسرائيلي، والاحتفال بذكرى الجلاء بزيارة ضريح الشهيد يوسف العظمة، والاعتصام أمام القصر العدلي يوم 8 مارس/ آذار من كل عام احتجاجا على فرض حالة الطوارئ والأحكام العرفية، والاعتصام أمام مقر رئاسة الوزارة في ذكرى الإحصاء الاستثنائي في محافظة الحسكة عام 1962 الذي أخرج آلاف الكرد من الجنسية السورية. وقد كانت مشاركة الأحزاب السياسية فيها فردية وبقرار شخصي لا حزبي. وكانت قد رفضت عام 2004 التوجّه إلى مدينة القامشلي للاطلاع على الوضع بعد شغب الملاعب، والذي تحول إلى مجزرة باستخدام النظام القوة وإطلاق الرصاص على المحتجّين من الكرد وقتل وجرح العشرات واعتقال المئات وخروج تظاهرات في كل المدن السورية التي فيها تجمّعات كردية، الذي دعت إليه اللجان ونفذته، فالعلة خلف ضعف الأحزاب السياسية المعارضة وضعف دورها وفعاليتها ترجع إلى عدم انخراطها في عمل مباشر ومثابر من أجل تجاوز الواقع والعوائق الأمنية والاجتماعية التي تقف في وجه التغيير؛ وعدم تدريب كوادرها على تنفيذ نشاطاتٍ ميدانيةٍ لاكتساب الخبرة والصلابة. يذكّرني حالها بمشهد في فيلم "طبّاخ الريس"، تظاهرة تنادي بالتغيير وكادر من حزب المعارضة يتابعها وهو يخفي وجهه خلف صحيفة، وعندما تهاجمها قوات الشرطة يغادر المكان.
أسرد هنا واقعتين تؤكّدان ما أقوله. في لقاء مفتوح دعت إليه لجان إحياء المجتمع المدني عام 2003 حضره عدد جيد من كوادر أحزاب المعارضة، دعوتُ أحزاب المعارضة إلى تشكيل "جبهة خلاص وطني"؛ فانبرى للردّ على الفكرة ورفضها قيادي من الحزب الشيوعي ـ المكتب السياسي وقيادي من حزب العمّال العربي الثوري. والطريف أن الأول جلس إلى جانبي بعد إنهاء تعقيبه، وقال لي: "فكرتك راح تصرعهم (يقصد النظام)، صرع". لم يرفض الفكرة لأنها خاطئة أو غير مُجدية بل لأنها تستفز النظام. وفي اجتماع لمجلس الرئاسة في إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي، وكنتُ عضوا فيه، طرحت فكرة عن معاضدة الثورة بأحاديث صوت وصورة؛ يسجّلها رياض الترك، بما له من مكانة وسمعة محلية وعربية ودولية، وكنت كتبتُ له كلمة مقترحه، فاعتذر مبرّرا موقفه بقوله "دع أصحاب الثورة يديرونها"، لكنه صارحني، في لقاء خاص، بأن قيادة حزبه، حزب الشعب السوري، طلبت منه عدم الإدلاء بتصريحات تثير السلطة فتعتقلهم.
وهذا من دون أن ننسى سلوك أحزاب المعارضة في بدايات الثورة بعد ارتفاع مستوى عنف النظام ضد المتظاهرين وتنفيذه عمليات قتلٍ بدم بارد، ببدء قادتها وكوادرها مغادرة البلد إلى المهاجر البعيدة. لاحظت خلال وجودي في منظمة التحرير الفلسطينية، بين عامي 1977 و1994، مدى التقدير الذي يكنه الشعب الفلسطيني للرئيس ياسر عرفات وحركة فتح، لأنهما منخرطان في العمل السياسي والعسكري بقوة. قدمت الحركة أكثر من عشرة شهداء من أعضاء لجنتها المركزية، حتى أن قائد موقع في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في جنوب لبنان قال لي: "كنّا ننام في المواقع مطمئنين، لأن رجال عرفات في الجوار".
لستُ من دعاة الانتحار السياسي. ولكن لنتصوّر ماذا كان يمكن أن يحصل لو أن قادة أحزاب المعارضة أو بعض كوادرها البارزين تصدّروا التظاهرات في المدن الرئيسة، وماذا كان سيترتّب عليها داخليا وخارجيا من نتائج؟ تتحرّك أحزاب المعارضة السورية وفق قاعدة تحقيق الحسنيين: معارض ويعيش بأمان. ممارسة سياسية حللتها ثناء فؤاد عبدالله في كتابها "آليات التغيير الديمقراطي في الوطن العربي" (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1997). يقوم النظام والمعارضة بتكميل بعضهما البعض، بحيث تكون ثمرته استمرار كلّ منهما في موقعه ودوره، فللنظام والمعارضة مصالح داخل النظام، الأول يحكم والثانية تعارض من دون تشكيل تحدٍّ فعلي للأول.
تبقى نقطة الخلاف الرئيسة مع الأستاذة الفاضلة رأيها بشأن سبب فشل الثورة السورية. ترى أنه "لا يعود فقط إلى غياب القيادة السياسية، أو الكيانات السياسية، الواعية والمجرّبة، والمرتبطة بشعبها، على أهمية ذلك كله، وإنما يعود، أساساً، إلى المداخلات الخارجية، وضمنها مما يسمّى معسكر "أصدقاء الثورة السورية" عربا وإقليميين ودوليين، التي قيدت مسارات الثورة وخطاباتها وتلاعبت بها، فالعامل الخارجي (مع غياب الداخلي أو ضعفه) كان هو العامل المقرّر في ذلك كله". بينما أرى أن العامل الذاتي هو الذي دفع العامل الخارجي إلى تغيير موقفه، فانكسار الثورة بدأ في العام الثاني لانطلاقها، بعد أن عجزت عن تطوير أدائها والتحوّل إلى ثورة منظمّة تعتمد خططا وبرامج محدّدة وموحّدة؛ حيث بقيت تواجه النظام في إطار مواجهاتٍ محليةٍ من دون ارتباط بالمشهد العام، ومن دون التفات إلى ما يحصل في مواقع أخرى أو التحرّك للتنسيق والتشبيك معها؛ تحوّلت إلى ثوراتٍ مناطقية، وانخراط التنسيقيات، التي لعبت دور الداعم اللوجستي للثوار والمواطنين بالعمل على توفير احتياجاتهم لتنظيم التظاهرات ومداواة الجرحى وإغاثة المشرّدين والمحتاجين، في تنافس عدمي، وتحرّك المجلس الوطني من دون ارتباط فعلي بالثورة، ومن دون تنسيق مع قادتها، كان لكاتب هذه السطور شرف التنبيه من فشل الثورة في مقالةٍ نشرت في صحيفة المستقبل اللبنانية يوم 27/5/2012 تحت عنوان "الثورة السورية على مفترق طرق". وهذا قاد إلى تأكّد القوى الخارجية الداعمة من عدم قدرة الثورة على تحقيق هدفها إسقاط النظام وإدارة البلد بعد النصر، ودفعها إلى التحوّل إلى تبنّي تغيير سلوك النظام عبر إدارة الصراع وضبط وموازنة دعم المعارضة بدلالة هذا الخيار. عكس ما حصل في تونس ومصر مثلا، حيث أدّت القناعة بقدرة التظاهرات على إسقاط النظامين إلى تركيز الضغط على بن علي وحسني مبارك، ودفعهما نحو الخروج من المشهد، فهرب الأول إلى الخارج واستقال الثاني، فالدول تنخرط في الصراعات الساخنة، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، لتحقيق أحد هدفين: درء مخاطر أو تحقيق مكاسب، وما تفعله خلال انخراطها في الصراعات محكومٌ بحساباتها الخاصة وسعيها إلى تحقيق مصالحها بالدرجة الأولى. وهنا يأتي دور القوى المحلية بخططها وبرامجها وممارساتها في إقناع القوى الخارجية بقدرتها على النصر؛ وبتوافق نصرها مع بعض أو كل أهداف هذه القوى ومصالحها؛ وحجز موقع في المعادلة ومقعد على الطاولة والحصول على حصّة من النتائج لصالح مطالبها وأهدافها.
لم تنجح قوى المعارضة في تسويق ذاتها وتعزيز دورها من خلال ممارساتها ومواقفها وإبراز تقاطع مصالحها وأهدافها مع "أصدقاء الشعب السوري"، بل على العكس أثارت شكوك القوى الخارجية وارتيابها، من خلال شعارات ومواقف متباينة وغير مدروسة. نذكر هنا موقف رئيس المجلس الوطني السوري، برهان غليون، من الثورة في ليبيا، حيث اعتبرها صنيعة حلف الناتو، وتصريحات أعضاء في المجلس الوطني وقادة الفصائل المسلحة عن جبهة النصرة، وعن الدور الأميركي، التي أوحت بأن المعارضة، السياسية والعسكرية، تريد الدعم لخدمة أهدافها في الوصول إلى السلطة، من دون أن توحي باعتراف أو استعداد للتعاون لتحقيق أهداف مشتركة. وقد زاد افتراق مصالح دول "أصدقاء الشعب السوري" الموقف تعقيدا وقاد إلى انفجار التنافس بينها وتبنّي كل منها جهة سياسية أو عسكرية من أجل تحقيق مصالحها وأهدافها الخاصة، فقد رأت دول الخليج في نجاح الثورة في تونس ومصر ونجاح حركة النهضة في الأولى والإخوان المسلمين في الثانية في الانتخابات البرلمانية والرئاسية تعبيرا عن تحالفٍ أميركي مع أعدائها في الحركات الإسلامية. وعليه، قادت الإمارات والسعودية حملة مضادّة ضد الربيع العربي وزجت إمكانات مالية ولوجستية وعسكرية كبيرة لإفشال ثوراته، ونجحت في عكس اتجاه الأحداث في مصر وليبيا وتونس. وزاد الموقف تعقيدا قرار الرئيس الأميركي، باراك أوباما، تخفيف دور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط والتركيز على شرق آسيا لمواجهة الصين؛ وعمله على إبعاد روسيا عن الأخيرة، ما حاول تحقيقه عبر إعطاء روسيا مكاسب في ملفات إقليمية ودولية، تجلّى ذلك في ردّ فعله الفاتر على احتلال روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014، وإعطائها ضوءا أخضر للتدخل في سورية عام 2015، بشرط عدم إنزال قواتٍ على الأرض. فتحوّل الصراع في سورية إلى
حربٍ بالوكالة، لا يمكن اعتبارها جزءا من الثورة أو امتدادا لها، ولا هدفها تحقيق مطالبها. فكانت النتيجة ما نشاهده الآن
---------
العربي الجديد
يمكن التدقيق في حقيقة الموقف والعمل على استجلاء الصورة واستنتاج حكم واقعي من خلال استقراء المواقف والوقائع، فعمل النظام على إغلاق المجال العام ومنع قيام حياة سياسية حقيقية هو المبرّر المنطقي والدافع الرئيس لعمل الأحزاب السياسية المعارضة لتغيير هذا الواقع. هذا من حيث المبدأ، وهو يستدعي التفكير في سبل مواجهة هذا الواقع والتغلب على ما فيه من قيود وعقبات. إذ لا يكفي أن نتذمّر من الوضع، بل لا بد من مواجهته بدفع من غريزة الحرية والكرامة التي غرسها الخالق، عزّ وجلّ، في فطرة الإنسان. وهذا يعيدنا إلى سيرة أحزاب المعارضة وتوجّهاتها في العقدين الأخيرين وعملها على الأرض وتقدير مدى منطقيّته وعمليته.
طرحت لجان إحياء المجتمع المدني من عام 2000 إلى 2005، وكنت عضوا في لجنتها الإعلامية، بعد بيانيها، بيان الـ 99 وبيان الـ 1000، ووثيقتها "توافقات وطنية"، مجموعة مبادرات ميدانية، خميس فلسطين عام 2002، حيث يتجمّع المشاركون أمام مكتب الأمم المتحدة في دمشق للتضامن مع الشعب الفلسطيني في مقاومته الاحتلال الإسرائيلي، والاحتفال بذكرى الجلاء بزيارة ضريح الشهيد يوسف العظمة، والاعتصام أمام القصر العدلي يوم 8 مارس/ آذار من كل عام احتجاجا على فرض حالة الطوارئ والأحكام العرفية، والاعتصام أمام مقر رئاسة الوزارة في ذكرى الإحصاء الاستثنائي في محافظة الحسكة عام 1962 الذي أخرج آلاف الكرد من الجنسية السورية. وقد كانت مشاركة الأحزاب السياسية فيها فردية وبقرار شخصي لا حزبي. وكانت قد رفضت عام 2004 التوجّه إلى مدينة القامشلي للاطلاع على الوضع بعد شغب الملاعب، والذي تحول إلى مجزرة باستخدام النظام القوة وإطلاق الرصاص على المحتجّين من الكرد وقتل وجرح العشرات واعتقال المئات وخروج تظاهرات في كل المدن السورية التي فيها تجمّعات كردية، الذي دعت إليه اللجان ونفذته، فالعلة خلف ضعف الأحزاب السياسية المعارضة وضعف دورها وفعاليتها ترجع إلى عدم انخراطها في عمل مباشر ومثابر من أجل تجاوز الواقع والعوائق الأمنية والاجتماعية التي تقف في وجه التغيير؛ وعدم تدريب كوادرها على تنفيذ نشاطاتٍ ميدانيةٍ لاكتساب الخبرة والصلابة. يذكّرني حالها بمشهد في فيلم "طبّاخ الريس"، تظاهرة تنادي بالتغيير وكادر من حزب المعارضة يتابعها وهو يخفي وجهه خلف صحيفة، وعندما تهاجمها قوات الشرطة يغادر المكان.
أسرد هنا واقعتين تؤكّدان ما أقوله. في لقاء مفتوح دعت إليه لجان إحياء المجتمع المدني عام 2003 حضره عدد جيد من كوادر أحزاب المعارضة، دعوتُ أحزاب المعارضة إلى تشكيل "جبهة خلاص وطني"؛ فانبرى للردّ على الفكرة ورفضها قيادي من الحزب الشيوعي ـ المكتب السياسي وقيادي من حزب العمّال العربي الثوري. والطريف أن الأول جلس إلى جانبي بعد إنهاء تعقيبه، وقال لي: "فكرتك راح تصرعهم (يقصد النظام)، صرع". لم يرفض الفكرة لأنها خاطئة أو غير مُجدية بل لأنها تستفز النظام. وفي اجتماع لمجلس الرئاسة في إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي، وكنتُ عضوا فيه، طرحت فكرة عن معاضدة الثورة بأحاديث صوت وصورة؛ يسجّلها رياض الترك، بما له من مكانة وسمعة محلية وعربية ودولية، وكنت كتبتُ له كلمة مقترحه، فاعتذر مبرّرا موقفه بقوله "دع أصحاب الثورة يديرونها"، لكنه صارحني، في لقاء خاص، بأن قيادة حزبه، حزب الشعب السوري، طلبت منه عدم الإدلاء بتصريحات تثير السلطة فتعتقلهم.
وهذا من دون أن ننسى سلوك أحزاب المعارضة في بدايات الثورة بعد ارتفاع مستوى عنف النظام ضد المتظاهرين وتنفيذه عمليات قتلٍ بدم بارد، ببدء قادتها وكوادرها مغادرة البلد إلى المهاجر البعيدة. لاحظت خلال وجودي في منظمة التحرير الفلسطينية، بين عامي 1977 و1994، مدى التقدير الذي يكنه الشعب الفلسطيني للرئيس ياسر عرفات وحركة فتح، لأنهما منخرطان في العمل السياسي والعسكري بقوة. قدمت الحركة أكثر من عشرة شهداء من أعضاء لجنتها المركزية، حتى أن قائد موقع في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في جنوب لبنان قال لي: "كنّا ننام في المواقع مطمئنين، لأن رجال عرفات في الجوار".
لستُ من دعاة الانتحار السياسي. ولكن لنتصوّر ماذا كان يمكن أن يحصل لو أن قادة أحزاب المعارضة أو بعض كوادرها البارزين تصدّروا التظاهرات في المدن الرئيسة، وماذا كان سيترتّب عليها داخليا وخارجيا من نتائج؟ تتحرّك أحزاب المعارضة السورية وفق قاعدة تحقيق الحسنيين: معارض ويعيش بأمان. ممارسة سياسية حللتها ثناء فؤاد عبدالله في كتابها "آليات التغيير الديمقراطي في الوطن العربي" (مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1997). يقوم النظام والمعارضة بتكميل بعضهما البعض، بحيث تكون ثمرته استمرار كلّ منهما في موقعه ودوره، فللنظام والمعارضة مصالح داخل النظام، الأول يحكم والثانية تعارض من دون تشكيل تحدٍّ فعلي للأول.
تبقى نقطة الخلاف الرئيسة مع الأستاذة الفاضلة رأيها بشأن سبب فشل الثورة السورية. ترى أنه "لا يعود فقط إلى غياب القيادة السياسية، أو الكيانات السياسية، الواعية والمجرّبة، والمرتبطة بشعبها، على أهمية ذلك كله، وإنما يعود، أساساً، إلى المداخلات الخارجية، وضمنها مما يسمّى معسكر "أصدقاء الثورة السورية" عربا وإقليميين ودوليين، التي قيدت مسارات الثورة وخطاباتها وتلاعبت بها، فالعامل الخارجي (مع غياب الداخلي أو ضعفه) كان هو العامل المقرّر في ذلك كله". بينما أرى أن العامل الذاتي هو الذي دفع العامل الخارجي إلى تغيير موقفه، فانكسار الثورة بدأ في العام الثاني لانطلاقها، بعد أن عجزت عن تطوير أدائها والتحوّل إلى ثورة منظمّة تعتمد خططا وبرامج محدّدة وموحّدة؛ حيث بقيت تواجه النظام في إطار مواجهاتٍ محليةٍ من دون ارتباط بالمشهد العام، ومن دون التفات إلى ما يحصل في مواقع أخرى أو التحرّك للتنسيق والتشبيك معها؛ تحوّلت إلى ثوراتٍ مناطقية، وانخراط التنسيقيات، التي لعبت دور الداعم اللوجستي للثوار والمواطنين بالعمل على توفير احتياجاتهم لتنظيم التظاهرات ومداواة الجرحى وإغاثة المشرّدين والمحتاجين، في تنافس عدمي، وتحرّك المجلس الوطني من دون ارتباط فعلي بالثورة، ومن دون تنسيق مع قادتها، كان لكاتب هذه السطور شرف التنبيه من فشل الثورة في مقالةٍ نشرت في صحيفة المستقبل اللبنانية يوم 27/5/2012 تحت عنوان "الثورة السورية على مفترق طرق". وهذا قاد إلى تأكّد القوى الخارجية الداعمة من عدم قدرة الثورة على تحقيق هدفها إسقاط النظام وإدارة البلد بعد النصر، ودفعها إلى التحوّل إلى تبنّي تغيير سلوك النظام عبر إدارة الصراع وضبط وموازنة دعم المعارضة بدلالة هذا الخيار. عكس ما حصل في تونس ومصر مثلا، حيث أدّت القناعة بقدرة التظاهرات على إسقاط النظامين إلى تركيز الضغط على بن علي وحسني مبارك، ودفعهما نحو الخروج من المشهد، فهرب الأول إلى الخارج واستقال الثاني، فالدول تنخرط في الصراعات الساخنة، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، لتحقيق أحد هدفين: درء مخاطر أو تحقيق مكاسب، وما تفعله خلال انخراطها في الصراعات محكومٌ بحساباتها الخاصة وسعيها إلى تحقيق مصالحها بالدرجة الأولى. وهنا يأتي دور القوى المحلية بخططها وبرامجها وممارساتها في إقناع القوى الخارجية بقدرتها على النصر؛ وبتوافق نصرها مع بعض أو كل أهداف هذه القوى ومصالحها؛ وحجز موقع في المعادلة ومقعد على الطاولة والحصول على حصّة من النتائج لصالح مطالبها وأهدافها.
لم تنجح قوى المعارضة في تسويق ذاتها وتعزيز دورها من خلال ممارساتها ومواقفها وإبراز تقاطع مصالحها وأهدافها مع "أصدقاء الشعب السوري"، بل على العكس أثارت شكوك القوى الخارجية وارتيابها، من خلال شعارات ومواقف متباينة وغير مدروسة. نذكر هنا موقف رئيس المجلس الوطني السوري، برهان غليون، من الثورة في ليبيا، حيث اعتبرها صنيعة حلف الناتو، وتصريحات أعضاء في المجلس الوطني وقادة الفصائل المسلحة عن جبهة النصرة، وعن الدور الأميركي، التي أوحت بأن المعارضة، السياسية والعسكرية، تريد الدعم لخدمة أهدافها في الوصول إلى السلطة، من دون أن توحي باعتراف أو استعداد للتعاون لتحقيق أهداف مشتركة. وقد زاد افتراق مصالح دول "أصدقاء الشعب السوري" الموقف تعقيدا وقاد إلى انفجار التنافس بينها وتبنّي كل منها جهة سياسية أو عسكرية من أجل تحقيق مصالحها وأهدافها الخاصة، فقد رأت دول الخليج في نجاح الثورة في تونس ومصر ونجاح حركة النهضة في الأولى والإخوان المسلمين في الثانية في الانتخابات البرلمانية والرئاسية تعبيرا عن تحالفٍ أميركي مع أعدائها في الحركات الإسلامية. وعليه، قادت الإمارات والسعودية حملة مضادّة ضد الربيع العربي وزجت إمكانات مالية ولوجستية وعسكرية كبيرة لإفشال ثوراته، ونجحت في عكس اتجاه الأحداث في مصر وليبيا وتونس. وزاد الموقف تعقيدا قرار الرئيس الأميركي، باراك أوباما، تخفيف دور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط والتركيز على شرق آسيا لمواجهة الصين؛ وعمله على إبعاد روسيا عن الأخيرة، ما حاول تحقيقه عبر إعطاء روسيا مكاسب في ملفات إقليمية ودولية، تجلّى ذلك في ردّ فعله الفاتر على احتلال روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014، وإعطائها ضوءا أخضر للتدخل في سورية عام 2015، بشرط عدم إنزال قواتٍ على الأرض. فتحوّل الصراع في سورية إلى
حربٍ بالوكالة، لا يمكن اعتبارها جزءا من الثورة أو امتدادا لها، ولا هدفها تحقيق مطالبها. فكانت النتيجة ما نشاهده الآن
---------
العربي الجديد