وسبب تلك الحسرة أن الموريسكيين وهو لقب يشير إلى المسلمين الذين أجبروا على النفي أو اعتناق المسيحية بعد حرب التحرير، لم تقف خسارتهم عند فقدانهم لأملاكهم في أسبانيا وإنما عانوا لاحقا على مدى عقود طويلة من اهتزاز انتمائهم بالوطن الأندلسي وبداية موت بطيء لموروثهم في أوطانهم الجديدة.
ولكن رضوان رايشيكو وهو كهل في عقد الخمسينات من عمره مختص في التاريخ الأندلسي، ما يزال من بين العائلات الأندلسية القليلة التي بقيت في مدينة سليمان التونسية من يبدون إصرارا على حماية هويتهم الأندلسية بعد نحو خمسة قرون من وصول أجدادهم الأوائل إلى المدينة.
ويقول رضوان بصوت يغلب عليه الحدة لوكالة الأنباء الألمانية (د .ب. أ) "نحن نعتبر معركة الأندلس حربا صليبية. هم (الإسبان) يسمونها الريكونكيستا (الاسترداد) ونحن نسميها الكونكيستا (الاحتلال") ويضيف رايشيكو "نحن هنا ندعم حركات التحرر السلمية من أجل استقلال الأندلس".
والرايشكو هو لقب لعائلات أندلسية نسبة إلى أبو عبد الله محمد الحادي عشر آخر ملوك الاندلس في غرناطة ويلقب من قبل الملكين فرديناند وايزابيلا بالرايشيكو، أي الملك الصغير بالإسبانية.
وربما يشترك جميع مؤرخي العالم الإسلامي في خسارة ملك استمر لنحو ثمانية قرون وشهد قمة الازدهار في العصور الوسطى في وقت كانت فيه أوروبا تغط في عصر الظلمات. لكن الموريسكيين المشتتين في أنحاء العالم تبدو تجربتهم أكثر قساوة.
معمار مهمل ومشاكل عقارية
في مدينة سليمان الشاطئية على بعد نحو 30 كيلومترا عن العاصمة ينتصب الجامع الكبير وسط المدينة كأحد المعالم الرئيسية لتاريخ الأندلسيين المؤسسيين للمباني والأحياء السكنية المحيطة به.
بعد سنوات قليلة من وصول أولى العائلات الأندلسية إلى المدينة شيد الجامع بطريقة بناء فريدة في العام 1616. وتحاكي صومعته الصوامع المتواجدة في الأندلس. بينما تمتاز قاعة الصلاة بوجود سقفان، سقف أول مبني وآخر خشبي مغطى بالقرمد بمثابة العازل الحراري والمكيف لبيت الصلاة، وهي طريقة أندلسية فريدة في البناء. خلال الحرب العالمية الثانية فقد الجامع سوره القديم بمدافع قوات المحور أثناء مرورها بمدينة سليمان. لكن الجامع لا يزال بشكل عام متماسكا حتى اليوم ويستقبل مصليه بشكل منتظم إذ تعمل السلطات على ترميمه وصيانته بشكل دوري.
لكن على النقيض مما يبدو عليه الجامع الكبير يبرز عدد من المباني السكنية الأندلسية في الأحياء القريبة منه في وضع آيل للسقوط. وتزداد شكاوي السكان المجاورين لها في منازل عصرية من تحول تلك المباني المهجورة إلى مرتع للقوارض والزواحف.
قال أحد السكان المجاورين لمبنى أندلسي كان يستخدم فيما مضى كمخزن للسلع لـ(د. ب .أ) "أهمل أصحاب المبنى الاصليين منزلهم لافتقادهم إلى الوثائق وأبقت السلطات الوضع هنا معلقا. تخرج اليرابيع من حين لآخر لتقض مضجعنا".
تحتفظ أزقة سليمان في بعض مفترقاتها بسقف مقوس يطلق عليه أهل المدينة بـ"السباط" كما هو منتشر في المدن الإسلامية العتيقة في اسبانيا غير أن بعضها بدى عليه التصدع فيما اختفى عدد منها مع تحول السكان الى تشييد مباني عصرية.
يشير فوزي ساسي كاتب عام بلدية سليمان لـ (د .ب .أ) بأن "وسط المدينة يعد بأكمله منطقة أثرية. لا يمكن البناء من دون ترخيص مسبق من المعهد الوطني للتراث مع ذلك يعمد بعض السكان إلى البناء من دون رخص".
ويضيف ساسي "البلدية لا يمكنها ان تقوم بمفردها بعمليات الترميم من دون تنسيق مع معهد التراث. بدأنا هذه الفترة في ترميم موقع أثري بعد أن قمنا بمراسلات على امتداد سنة كاملة". تبدو المعضلة الأساسية أمام محاولات احياء التراث الأندلسي في المدينة أنها تتوقف في جزء كبير منها على حل المشكلات العقارية ونزاعات قانونية معقدة بين أحفاد العائلات الأندلسية لتقاسم الميراث ما عطل تدخل الدولة للترميم.
ويوضح عزيز محسن مهندس مختص في التراث وعضو بجمعية صيانة مدينة تونس لوكالة الأنباء الألمانية "المشكل الأساسي عقاري. أغلب المنازل الأندلسية ذات تقسيم تقليدي لكن في العصر الحديث تفضل العائلات من أصل واحد تقسيم العقار بحسب أعدادها".
ويتابع في حديثه "يؤدي ذلك الى اندثار تدريجي للطابع المعماري الأندلسي القديم مقابل زحف المعمار الأوروبي العمودي".
وما يحز في نفس عزيز والأندلسيين المحافظين، أن جزءا كبيرا من الأجيال الجديدة المنحدرة من الأقليات الاندلسية لا تأخذ بعين الاعتبار الخصوصية الثقافية لتراثها ولأسباب اقتصادية فرطوا في العقارات إما بالهدم أو بإهمال الصيانة.
ولكن ليس تلك الأسباب وحدها التي تفسر حالات الاهمال المتفشية في المواقع الأثرية في سليمان ولدى غالبية المعمار الاندلسي.
يكشف محمد علي بوقفة عضو جمعية صيانة مدينة سليمان أنه "في غمرة الانفلات الأمني بعد أحداث الثورة عام 2011 حصلت حالات نهب وسرقات ونبش منظمة في المواقع الأثرية من دون أن يكون هناك حراس".
كما يضيف بوقفة قائلا "في حال يتوجب التدخل لترميم المواقع الأثرية يتعين إخطار السلطات، المعهد الوطني للتراث. وهذه الخطوة تدخلنا في متاهات من البيروقراطية وخسارة الكثير من الوقت. في الأثناء تكون الأضرار التي لحقت بالمعلم الأثري قد زادت اتساعا".
وتعاني عمليات الترميم في كل الحالات من عدة مشاكل لا ترتبط فقط بقلة الموارد المالية والبيروقراطية ولكن أيضا بندرة المواد الأولية الأصلية وقلة المختصين في المعمار الاندلسي بجانب استنزاف الكثير من الوقت في عمليات الترميم الدورية.
وبحسب السلطات البلدية يتم اقتناء مواد البناء ذات الخصوصية الأندلسية من مزود وحيد في تونس وهو متواجد في مدينة تستور شمال غرب تونس، وهي أحد المعاقل الرئيسية الشهيرة للسكان الأندلسيين الوافدين.
وكون بعض المباني الأندلسية في سليمان تشكل نسخا مطابقة لنظيرتها في اسبانيا خلال حقبة الحكم الأموي فإن هذا الأمر يزيد من عمليات الترميم صعوبة وتعقيدا. ويقول السكان إن الطاحونة الأندلسية في المدينة مثلا لا يوجد نظير لها سوى في مدينة اشبيلية.
وفي مسعى لتبديد الصعوبات اللوجيستية والمادية تبحث جمعية صيانة مدينة سليمان اليوم عن عقد شراكات مع جمعيات اسبانية وعالمية تهتم بالمعمار الأندلسي لإنقاذ ما بقي من المنازل والمباني من المتداعية من الانهيار الوشيك.
وتستعد البلدية بالفعل عبر مشروع اطلعت عليه وكالة الأنباء الألمانية لترميم مقام ولي صالح على شاطئ سليمان مهدد بالاندثار بفعل عوامل الانجراف عبر تمويل من البنك الألماني للتنمية، إذ تخطط البلدية لتحويله لاحقا الى مزار سياحي في الجهة.
محن الموريسكيين في سليمان
على أية حال لم تنسف حالة المعمار المتدهورة على أرض الواقع القصص والعادات والأكلات الأندلسية المتناقلة من جيل إلى آخر.
يروي سكان المدينة حتى اليوم قصصا أسطورية عن كرامات الجد الأول لعائلة الماظور الأندلسية من بينها أنه كان يستطيع إمامة صلاة الصبح في الجامع دون أن يكون قد بارح منزله.
ويري رضوان رايشيكو لـ(د. ب. أ) "تقول الأسطورة إن الإمام محمد الماظور كان يضع قدما في منزله وأخرى في الجامع ليؤذن في الناس. وهي حيلة حتى لا يغادر المنزل".
ويتابع رضوان "تضيف الأسطورة أنه عندما اكتشف الابن حيلة أباه محمد الماظور اختفى من الوجود وعاد بعد سنوات محملا بقيود من الحديد وبقي في خدمة القراصنة إلى أن دفن على تلك الحالة في مقبرة آل الماظور".
ومثل عائلة الماظور الشهيرة بشعرائها وعلمائها يتقاسم أهل سليمان من العائلات الأندلسية الوافدة منذ نحو 500 عام مواقع خاصة بها للدفن في مقبرة المدينة. وحتى القبور هناك حافظت على ميزة المعمار والخط الأندلسي على واجهاتها.
يذكر المؤرخون أن قدوم الأندلسيين المؤسسين في القرن السابع عشر حول مدينة سليمان إلى مركز اشعاع اقتصادي وتجاري ومنطقة استقطاب للطرابلسية القادمين من ليبيا والعثمانيين الأتراك في فترات لاحقة.
ويوضح رضوان رايشيكو "بعد فترة ازدهار في القرنين 17 و18 حصل تراجع وتردي للأوضاع في المدينة في القرن التاسع عشر ما دفع الكثير من الموريسكيين إلى الهجرة ثانية إلى خارج مدينة سليمان نحو العاصمة تونس أين أمنت لهم السلطة الحماية".
ومن بين 300 عائلة أندلسية قدمت خلال فترة التأسيس لم يتبق منها سوى عشر عائلات اليوم من بينها البيرسو والباشكوال وجحا والرايشيكو والماظور. وهؤلاء اضطروا الى التفريط في أراضيهم بسبب موجات النهب والسرقات المنظمة على مدى فترات من التاريخ.
ويلقي أحفاد الأندلسيين في ذلك باللائمة بشكل خاص على الحكام العثمانيين من البايات في فقدانهم لأملاكم.
ويشير رضوان إلى أن " الحكام البايات وبطانتهم قاموا بعمليات نهب منظمة وبالقوة لأراضي الفلاحين الأندلسيين ما دفع الكثير منهم إلى الهجرة. والسلطات المتعاقبة أيضا لم يبذلوا أي جهدا لحماية الموروث الاندلسي. قاموا بعمليات طمس مقصود".
بحسب ما يرويه أهل المدينة تعرضت العائلات الاندلسية إلى العنف والسرقات بسبب السياسية الضريبية المجحفة بحقهم وبسبب توافد عدد من القبائل من داخل البلاد بنية السطو على الاملاك، في فترة تميزت بالاضطرابات الاجتماعية السياسية وصعوبة الوضع الاقتصادي في المملكة قبل دخول الفرنسيين المستعمرين في القرن التاسع عشر.
وأوضح رايشيكو "فقد الاندلسيون اليوم كل الامكانيات لصيانة ممتلكاتهم كما فقد أغلب من بقي منهم الاعتزاز بالانتماء إلى تراث الأجداد وانصهروا في المجتمع التونسي".
لكن آل رايشيكو المحافظين وكغيرهم من الموريسكيين المنتشرين في أنحاء العالم ما زالوا يطالبون العرش الملكي الاسباني بالاعتذار عن حقبة التهجير القسري ومحاكم التفتيش بحق المسلمين أسوة باعتذار الملك خوان كارلوس قبل سنوات لما حصل للموريسكيين اليهود خلال نفس الحقبة القاتمة.
ولكن رضوان رايشيكو وهو كهل في عقد الخمسينات من عمره مختص في التاريخ الأندلسي، ما يزال من بين العائلات الأندلسية القليلة التي بقيت في مدينة سليمان التونسية من يبدون إصرارا على حماية هويتهم الأندلسية بعد نحو خمسة قرون من وصول أجدادهم الأوائل إلى المدينة.
ويقول رضوان بصوت يغلب عليه الحدة لوكالة الأنباء الألمانية (د .ب. أ) "نحن نعتبر معركة الأندلس حربا صليبية. هم (الإسبان) يسمونها الريكونكيستا (الاسترداد) ونحن نسميها الكونكيستا (الاحتلال") ويضيف رايشيكو "نحن هنا ندعم حركات التحرر السلمية من أجل استقلال الأندلس".
والرايشكو هو لقب لعائلات أندلسية نسبة إلى أبو عبد الله محمد الحادي عشر آخر ملوك الاندلس في غرناطة ويلقب من قبل الملكين فرديناند وايزابيلا بالرايشيكو، أي الملك الصغير بالإسبانية.
وربما يشترك جميع مؤرخي العالم الإسلامي في خسارة ملك استمر لنحو ثمانية قرون وشهد قمة الازدهار في العصور الوسطى في وقت كانت فيه أوروبا تغط في عصر الظلمات. لكن الموريسكيين المشتتين في أنحاء العالم تبدو تجربتهم أكثر قساوة.
معمار مهمل ومشاكل عقارية
في مدينة سليمان الشاطئية على بعد نحو 30 كيلومترا عن العاصمة ينتصب الجامع الكبير وسط المدينة كأحد المعالم الرئيسية لتاريخ الأندلسيين المؤسسيين للمباني والأحياء السكنية المحيطة به.
بعد سنوات قليلة من وصول أولى العائلات الأندلسية إلى المدينة شيد الجامع بطريقة بناء فريدة في العام 1616. وتحاكي صومعته الصوامع المتواجدة في الأندلس. بينما تمتاز قاعة الصلاة بوجود سقفان، سقف أول مبني وآخر خشبي مغطى بالقرمد بمثابة العازل الحراري والمكيف لبيت الصلاة، وهي طريقة أندلسية فريدة في البناء. خلال الحرب العالمية الثانية فقد الجامع سوره القديم بمدافع قوات المحور أثناء مرورها بمدينة سليمان. لكن الجامع لا يزال بشكل عام متماسكا حتى اليوم ويستقبل مصليه بشكل منتظم إذ تعمل السلطات على ترميمه وصيانته بشكل دوري.
لكن على النقيض مما يبدو عليه الجامع الكبير يبرز عدد من المباني السكنية الأندلسية في الأحياء القريبة منه في وضع آيل للسقوط. وتزداد شكاوي السكان المجاورين لها في منازل عصرية من تحول تلك المباني المهجورة إلى مرتع للقوارض والزواحف.
قال أحد السكان المجاورين لمبنى أندلسي كان يستخدم فيما مضى كمخزن للسلع لـ(د. ب .أ) "أهمل أصحاب المبنى الاصليين منزلهم لافتقادهم إلى الوثائق وأبقت السلطات الوضع هنا معلقا. تخرج اليرابيع من حين لآخر لتقض مضجعنا".
تحتفظ أزقة سليمان في بعض مفترقاتها بسقف مقوس يطلق عليه أهل المدينة بـ"السباط" كما هو منتشر في المدن الإسلامية العتيقة في اسبانيا غير أن بعضها بدى عليه التصدع فيما اختفى عدد منها مع تحول السكان الى تشييد مباني عصرية.
يشير فوزي ساسي كاتب عام بلدية سليمان لـ (د .ب .أ) بأن "وسط المدينة يعد بأكمله منطقة أثرية. لا يمكن البناء من دون ترخيص مسبق من المعهد الوطني للتراث مع ذلك يعمد بعض السكان إلى البناء من دون رخص".
ويضيف ساسي "البلدية لا يمكنها ان تقوم بمفردها بعمليات الترميم من دون تنسيق مع معهد التراث. بدأنا هذه الفترة في ترميم موقع أثري بعد أن قمنا بمراسلات على امتداد سنة كاملة". تبدو المعضلة الأساسية أمام محاولات احياء التراث الأندلسي في المدينة أنها تتوقف في جزء كبير منها على حل المشكلات العقارية ونزاعات قانونية معقدة بين أحفاد العائلات الأندلسية لتقاسم الميراث ما عطل تدخل الدولة للترميم.
ويوضح عزيز محسن مهندس مختص في التراث وعضو بجمعية صيانة مدينة تونس لوكالة الأنباء الألمانية "المشكل الأساسي عقاري. أغلب المنازل الأندلسية ذات تقسيم تقليدي لكن في العصر الحديث تفضل العائلات من أصل واحد تقسيم العقار بحسب أعدادها".
ويتابع في حديثه "يؤدي ذلك الى اندثار تدريجي للطابع المعماري الأندلسي القديم مقابل زحف المعمار الأوروبي العمودي".
وما يحز في نفس عزيز والأندلسيين المحافظين، أن جزءا كبيرا من الأجيال الجديدة المنحدرة من الأقليات الاندلسية لا تأخذ بعين الاعتبار الخصوصية الثقافية لتراثها ولأسباب اقتصادية فرطوا في العقارات إما بالهدم أو بإهمال الصيانة.
ولكن ليس تلك الأسباب وحدها التي تفسر حالات الاهمال المتفشية في المواقع الأثرية في سليمان ولدى غالبية المعمار الاندلسي.
يكشف محمد علي بوقفة عضو جمعية صيانة مدينة سليمان أنه "في غمرة الانفلات الأمني بعد أحداث الثورة عام 2011 حصلت حالات نهب وسرقات ونبش منظمة في المواقع الأثرية من دون أن يكون هناك حراس".
كما يضيف بوقفة قائلا "في حال يتوجب التدخل لترميم المواقع الأثرية يتعين إخطار السلطات، المعهد الوطني للتراث. وهذه الخطوة تدخلنا في متاهات من البيروقراطية وخسارة الكثير من الوقت. في الأثناء تكون الأضرار التي لحقت بالمعلم الأثري قد زادت اتساعا".
وتعاني عمليات الترميم في كل الحالات من عدة مشاكل لا ترتبط فقط بقلة الموارد المالية والبيروقراطية ولكن أيضا بندرة المواد الأولية الأصلية وقلة المختصين في المعمار الاندلسي بجانب استنزاف الكثير من الوقت في عمليات الترميم الدورية.
وبحسب السلطات البلدية يتم اقتناء مواد البناء ذات الخصوصية الأندلسية من مزود وحيد في تونس وهو متواجد في مدينة تستور شمال غرب تونس، وهي أحد المعاقل الرئيسية الشهيرة للسكان الأندلسيين الوافدين.
وكون بعض المباني الأندلسية في سليمان تشكل نسخا مطابقة لنظيرتها في اسبانيا خلال حقبة الحكم الأموي فإن هذا الأمر يزيد من عمليات الترميم صعوبة وتعقيدا. ويقول السكان إن الطاحونة الأندلسية في المدينة مثلا لا يوجد نظير لها سوى في مدينة اشبيلية.
وفي مسعى لتبديد الصعوبات اللوجيستية والمادية تبحث جمعية صيانة مدينة سليمان اليوم عن عقد شراكات مع جمعيات اسبانية وعالمية تهتم بالمعمار الأندلسي لإنقاذ ما بقي من المنازل والمباني من المتداعية من الانهيار الوشيك.
وتستعد البلدية بالفعل عبر مشروع اطلعت عليه وكالة الأنباء الألمانية لترميم مقام ولي صالح على شاطئ سليمان مهدد بالاندثار بفعل عوامل الانجراف عبر تمويل من البنك الألماني للتنمية، إذ تخطط البلدية لتحويله لاحقا الى مزار سياحي في الجهة.
محن الموريسكيين في سليمان
على أية حال لم تنسف حالة المعمار المتدهورة على أرض الواقع القصص والعادات والأكلات الأندلسية المتناقلة من جيل إلى آخر.
يروي سكان المدينة حتى اليوم قصصا أسطورية عن كرامات الجد الأول لعائلة الماظور الأندلسية من بينها أنه كان يستطيع إمامة صلاة الصبح في الجامع دون أن يكون قد بارح منزله.
ويري رضوان رايشيكو لـ(د. ب. أ) "تقول الأسطورة إن الإمام محمد الماظور كان يضع قدما في منزله وأخرى في الجامع ليؤذن في الناس. وهي حيلة حتى لا يغادر المنزل".
ويتابع رضوان "تضيف الأسطورة أنه عندما اكتشف الابن حيلة أباه محمد الماظور اختفى من الوجود وعاد بعد سنوات محملا بقيود من الحديد وبقي في خدمة القراصنة إلى أن دفن على تلك الحالة في مقبرة آل الماظور".
ومثل عائلة الماظور الشهيرة بشعرائها وعلمائها يتقاسم أهل سليمان من العائلات الأندلسية الوافدة منذ نحو 500 عام مواقع خاصة بها للدفن في مقبرة المدينة. وحتى القبور هناك حافظت على ميزة المعمار والخط الأندلسي على واجهاتها.
يذكر المؤرخون أن قدوم الأندلسيين المؤسسين في القرن السابع عشر حول مدينة سليمان إلى مركز اشعاع اقتصادي وتجاري ومنطقة استقطاب للطرابلسية القادمين من ليبيا والعثمانيين الأتراك في فترات لاحقة.
ويوضح رضوان رايشيكو "بعد فترة ازدهار في القرنين 17 و18 حصل تراجع وتردي للأوضاع في المدينة في القرن التاسع عشر ما دفع الكثير من الموريسكيين إلى الهجرة ثانية إلى خارج مدينة سليمان نحو العاصمة تونس أين أمنت لهم السلطة الحماية".
ومن بين 300 عائلة أندلسية قدمت خلال فترة التأسيس لم يتبق منها سوى عشر عائلات اليوم من بينها البيرسو والباشكوال وجحا والرايشيكو والماظور. وهؤلاء اضطروا الى التفريط في أراضيهم بسبب موجات النهب والسرقات المنظمة على مدى فترات من التاريخ.
ويلقي أحفاد الأندلسيين في ذلك باللائمة بشكل خاص على الحكام العثمانيين من البايات في فقدانهم لأملاكم.
ويشير رضوان إلى أن " الحكام البايات وبطانتهم قاموا بعمليات نهب منظمة وبالقوة لأراضي الفلاحين الأندلسيين ما دفع الكثير منهم إلى الهجرة. والسلطات المتعاقبة أيضا لم يبذلوا أي جهدا لحماية الموروث الاندلسي. قاموا بعمليات طمس مقصود".
بحسب ما يرويه أهل المدينة تعرضت العائلات الاندلسية إلى العنف والسرقات بسبب السياسية الضريبية المجحفة بحقهم وبسبب توافد عدد من القبائل من داخل البلاد بنية السطو على الاملاك، في فترة تميزت بالاضطرابات الاجتماعية السياسية وصعوبة الوضع الاقتصادي في المملكة قبل دخول الفرنسيين المستعمرين في القرن التاسع عشر.
وأوضح رايشيكو "فقد الاندلسيون اليوم كل الامكانيات لصيانة ممتلكاتهم كما فقد أغلب من بقي منهم الاعتزاز بالانتماء إلى تراث الأجداد وانصهروا في المجتمع التونسي".
لكن آل رايشيكو المحافظين وكغيرهم من الموريسكيين المنتشرين في أنحاء العالم ما زالوا يطالبون العرش الملكي الاسباني بالاعتذار عن حقبة التهجير القسري ومحاكم التفتيش بحق المسلمين أسوة باعتذار الملك خوان كارلوس قبل سنوات لما حصل للموريسكيين اليهود خلال نفس الحقبة القاتمة.