الدكتور ماهر التمران، عضو قيادة التحالف السوري الوطني، أوضح لموقع “لبنان الكبير” أن سد تشرين يُعد ثاني أكبر سد في البلاد بعد سد الفرات، وهو منشأة حيوية لإنتاج الكهرباء، وتأمين مياه الشرب، وريّ الأراضي الزراعية الممتدة في ريف حلب الشرقي ومحيط منبج. وقد شكل منذ سيطرة “قسد” عليه عام 2015 أحد أعمدة مشروع “الادارة الذاتية”، من حيث تأمين الاستقلال في البنية التحتية، وفرض النفوذ الفعلي على الجغرافيا.
التفاهم تحت الضغط
عملية التسليم في هذا التوقيت، الذي يتزامن مع تصعيد عسكري تركي وضربات جوية متزايدة على البنية التحتية التابعة لـ”قسد”، لا يمكن اعتبارها مجرد قرار إداري، بل تشير إلى ولادة تفاهم جديد فُرض تحت وطأة الضغط العسكري والاقتصادي والانساني، خصوصاً بعد توقف السد عن العمل، ما أدى إلى أزمة حادة في الكهرباء والمياه في مناطق متعددة من شمال سوريا.وبحسب مصادر ميدانية، فقد توصّل الطرفان إلى اتفاق، برعاية إقليمية ودولية، يتضمن تسليم الحكومة السورية السيطرة التقنية والادارية على السد، مقابل تهدئة التوتر في محيط منبج ووقف الغارات الجوية التركية. كما شهدت المنطقة اجتماعات أمنية متعددة الأطراف، شملت ممثلين عن الحكومة السورية، والتحالف الدولي، و”الادارة الذاتية”، للتنسيق حول تفاصيل التسليم.
مصدر حكومي صرّح لـ”لبنان الكبير” بأن الاتفاق يمثل استمراراً للتفاهم الرئيسي الموقع في 10 آذار الماضي، وقد تم التوصل إلى النقاط التنفيذية الخاصة بسد تشرين قبل حوالي أربعة أيام فقط. ووفق المصدر، عقدت لجنة المتابعة اجتماعاً صباح أمس، بحضور ممثلين عن التحالف الدولي، وتسلمت الدولة السورية رسمياً السد، في خطوة تُعد رمزية واستراتيجية في آنٍ واحد، على أن يجري لاحقاً تنفيذ بقية البنود بالتدرج.
وفي هذا الاطار، قال مراقبون إن هذا الاتفاق قد يكون نتاج قنوات غير معلنة بين أنقرة وواشنطن، وربما موسكو أيضاً، تهدف إلى ضبط إيقاع الصراع شمال سوريا، ومنع الانزلاق إلى مواجهات أوسع بين تركيا و”قسد”. فالمشهد الكردي-التركي-السوري في الشمال معقّد إلى حد يجعل أي تغير في الوضع الميداني مدفوعاً بتفاهمات خلف الأبواب المغلقة أكثر منه بحسابات محلية خالصة.
اللافت، أن عمليات الصيانة في السد بدأت بصورة جزئية، واقتصرت في المرحلة الأولى على العنفات فقط، بينما لا تزال الشبكة الكهربائية بحاجة إلى عمل كبير لإعادة التشغيل الكامل. وأشارت ورشة الصيانة المشرفة على الموقع إلى أن ساعات قليلة تفصلنا عن إعلان اتفاق جديد يشمل سد تشرين وجسر قره قوزاق، على أن يتم تحويل المنطقة المحيطة إلى منطقة خالية من السلاح، تُشرف عليها نقاط أمنية مشتركة من الطرفين: قوات الحكومة السورية، و”الأسايش” التابعة لـ”قسد”. ويوازي ذلك، السماح بعودة السكان المهجرين إلى قراهم في الضفتين الشرقية والغربية للسد والجسر، على الرغم من استمرار بعض الخلافات حول تفاصيل التنفيذ.
منشأة فوق الأرض… وعيون على ما تحتها
أثار هذا التفاهم المحدود تفاؤلاً في الأوساط المحلية، بإمكان تكرار النموذج ذاته في مناطق أخرى، خصوصاً تلك التي شهدت اتفاقات مشابهة سابقاً في ريف حلب وعفرين، سواء لجهة إزالة الحواجز أو ضبط التوترات. ووفقاً لما نُقل عن بعض الأطراف المتابعة، فإن الطرفين – دمشق و”قسد” – يعيدان اختبار صيغة تعايش أمني مؤقت قد تتحول لاحقاً إلى ترتيب إداري-سياسي مشترك، يُبقي بعض الهياكل الذاتية، مقابل إعادة بسط سيادة الدولة على المؤسسات والبنى التحتية.من جهة أخرى، لا يمكن إغفال البُعد النفطي في هذا الملف. فعلى الرغم من أن سد تشرين يرتبط بمصادر المياه والطاقة الكهربائية، فإن ما “تحت الأرض” أكثر حساسية من فوقها. ويُطرح سؤال مشروع في هذا السياق: هل يكون تسليم السد تمهيداً لعودة الدولة إلى حقول النفط في دير الزور والحسكة؟ وهل تسعى دمشق الى لتكرار النموذج ذاته هناك، بعد أن نجحت في تسلم منشأة بهذا الحجم من دون تصعيد عسكري؟
في المقابل، يُحتمل أن تكون “قسد” قدّمت هذا التنازل في إطار إعادة التموضع الاستراتيجي، خصوصاً بعد تراجع الحضور العسكري الأميركي، ورسائل واشنطن المتكررة حول خفض الالتزامات المباشرة في شرق سوريا. من هنا، فإن “قسد” قد تجد نفسها مضطرة إلى تقديم أوراق تفاهم لضمان بقاء دورها السياسي أو الاداري، ولو بصورة غير مباشرة، ضمن ترتيبات إقليمية أكبر.
ما السيناريوهات المحتملة لما بعد السد؟
تشير القراءة السياسية إلى ثلاثة سيناريوهات رئيسية مرشحة للتطور في المرحلة المقبلة:توسيع التفاهم: قد تتجه دمشق و”قسد” إلى توقيع اتفاقات مشابهة تتعلق بمطارات، منشآت غاز، أو محطات مياه، ضمن إطار تفاوضي أوسع، يضمن لدمشق عودة تدريجية للنفوذ، ويترك لـ”قسد” مساحة حكم محلي أو إداري.
مناورة مؤقتة: قد يكون التفاهم مجرد هدنة تكتيكية من جانب “قسد”، تهدف إلى امتصاص الضغط التركي، والحصول على تنازلات خدمية أو سياسية من دمشق أو التحالف، من دون نية حقيقية للتنازل عن جوهر الادارة الذاتية.
انهيار التفاهم والتصعيد: وهو احتمال وارد، خصوصاً إذا ما شعر أحد الأطراف بالخديعة، أو فشلت الضمانات الاقليمية والدولية في الحفاظ على التوازن. في هذه الحالة، قد تعود المواجهات إلى المشهد، لا سيما مع استمرار الضغوط التركية على محاور منبج وعين العرب وتل رفعت.
في نهاية المطاف، سد تشرين ليس الهدف النهائي، بل هو المفتاح الأول في سلسلة معقدة من التحركات السياسية والعسكرية. فعندما يُسلَّم مصدر الحياة – الماء والكهرباء – بهدوء نسبي، يصبح من غير المستبعد أن تبدأ الأنظار تتجه نحو الموارد التي تختزنها الأرض السورية… إلى الذهب الأسود، الذي لطالما كان مركز الصراع وأداته.