نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
عيون المقالات

نظرة في الإعلان الدستوري

26/03/2025 - لمى قنوت

رياح الشام

25/03/2025 - مصطفى الفقي

في الردّة الأسدية الإيرانية

22/03/2025 - عبد الجبار عكيدي


الجد.. عيون بابا عمرو وطفلها العنيد







في مدينة تحولت إلى خريطة للدم وتضاريس للوجع، حيث كل زاوية في حمص تحمل قصة وذاكرة واسم شهيد، كان هناك رجل يسير بين الأنقاض كما لو أنه يعرف أين يضع قدمه. علي عثمان، أو كما كنا نناديه بمحبةٍ وإكبار "الجدّ"، لم يكن عجوزًا كما يوحي اللقب، بل شابًا بروح طفل وشجاعة ثائر عنيد، يركض في قلب الخطر، يسابق الموت ويبتسم له في لعبة القدر.


 
عرفته حين كانت الثورة في البدايات المرتبكة، في مدينة مفككة بالحواجز، متماسكة بالأمل. التقيته في مظاهرة مرتجلة، يقود "سوزوكي" صغيرة، بين الرصاص لينقل الجرحى. لم يكن يعرفني، لكنه قال لي: "اركب... بسرعة".. كانت تلك أولى جمل صداقتنا. منذ ذلك اليوم، صار علي رفيق الطريق تحت القصف والنار، في لحظات اللعب مع الموت والحظ، وفي أيام الملاحقة التي لا تنتهي. لم يكن يملك سلاحًا، لكنه قرر أن يحمل الكاميرا، وتعلّم كيف يصوّر. اقتحم الخطر، لا حبًّا في المجازفة، بل لأن الصورة، في تلك الأيام، كانت سلاحًا نادرًا، وضروريًّا، وأخطر من الرصاص.
نشأ علي في بيت يشبهه: بسيط، لكنه شديد الاعتداد بكرامته. والده، محمود عثمان، محاسب عسكري خدم 35 عامًا، وخرج نظيف اليد والسمعة، رجلٌ لم تنل منه وظائف الدولة ولا شبكاتها. ووالدته، آمنة، من قرية القنية بريف درعا، مزيج من صلابة الأرض التي تنبت من دون إذن، ودفء الأم التي تربّي على الصدق لا السلامة. كانت عائلة لا تُعلّم أبناءها الطاعة، بل تُعلّمهم المسؤولية. وكانت الثورة، حين اندلعت، كأنها خرجت من ضلوعهم.
تربى في بيت يعجّ بالحياة، ويضجّ بالأسماء. عمل في المطاعم، ثم في أسواق الخضار، أحبّ الرياضة واحترف الكاراتيه، وسافر بحثاً عن رزقه بين حمص والسعودية. حياة عادية لرجل غير عادي. كانت الثورة هي الحدّ الفاصل الذي كشف ما بداخله. ليصبح لاحقًا أيقونة للثورة تردّد اسمها بيانات وزارية للدول العظمى، وكبرى الصحف والمجلات.
حين اشتعلت حمص، كان حي بابا عمرو أول الشهداء وأول الشهود. كتابًا مفتوحًا للرصاص، والمركز الإعلامي هناك لم يكن غرفة عمليات، بل غرفة ضمير. لا تمويل، لا تجهيزات، فقط قلوب مصممة على ألا تترك الصمت ينتصر. وصار علي، بعينيه الثابتتين وصوته الواضح، عين بابا عمرو وطفلها المدلل. وسرعان ما تحوّل المركز إلى قبلة للصحافيين من كل العالم، يتحدّى نظام الأسد ويعري وجهه القبيح كما لم يفعل أحد.
في قلب المركز، تماهى علي الإنسان بالصحافي. يبتسم حين يتوتر الآخرون، ويخشى على رفاقه، حين قُصف المركز الإعلامي، صاح: "أطفئوا البث... كشفوا المكان". يحذرهم كي لا يقتلهم الضوء. وكأنه يزن الصورة بميزان الدم. وكان، على نحو يُربكك، أبًا لخمسة أطفال. كيف يمكن لرجل يعرف تمامًا ماذا يعني أن يُيَتَّم طفل، أن يواجه الخطر بهذا العناد؟ وحدهم الذين يحبون جدًا، يخاطرون جدًا. قال لي مرة: "يمكنك أن تحب حدّ أن تختبئ، أو أن تحب حدّ أن تواجه... وأنا اخترت الثانية".
حاز علي على صداقة وثقة الصحافيين الدوليين. كان دليلهم وراويتهم، ومسعفًا لبعضهم. في إحدى الليالي، بول كونروي، الصحافي البريطاني المخضرم، الذي عاش ثلاثة عقود بين الحروب والمناطق الساخنة، قصّ علينا حكاياته عن بنغازي الليبية، عن الرعب الذي شهده، وعن الدمار الذي لا يُقارن. إنسان يشع بالفكاهة، يروي الحكايات وكأنها محض ذكرى بعيدة عن واقع اليوم. ولكن علي، بابتسامته الهادئة التي لا تفارق محيّاه، ردّ: "انتظر يا صديقي، وسترى وجهك بعد أيام، وستشعر بما لا يمكن أن تراه إلا هنا". وما هي إلا أيام قليلة، حتى فوجئ بول بالقصف السجادي العنيف، كنا محاصرين في الطابق السفلي من المركز الإعلامي، في غرفة صغيرة تفوح منها رائحة الموت، والذعر، ومحاولة الفرار خارج هذه اللحظة التراجيدية. وسط تلك الفوضى، بصوت مختنق وهو يراقب الجرحى، قال بول: "أتعلم، كنت أظن أنني أعرف الحرب، لكنني اليوم أكتشف أننا لا نعرف شيئًا عن الموت".
عندما قُتل الصحافيان ماري كولفن وريمي أوشليك في قصف المركز، كان علي يحمل الكاميرا بيد، والأشلاء بالأخرى. لم يتوقف ليبحث عن المسؤول، كان يعرف. فقط التقط الصورة، كي لا يقول أحدٌ لاحقًا: "لم نرَ شيئًا".
وبعد المجزرة الكبرى في بابا عمرو نهاية فبراير/ شباط 2012 وتهجير أهلها بالموت لا بالباصات الخضراء، بقي علي متخفيًا في حي مجاور، ثم خرج إلى ريف حلب الشمالي. وفي 28 مارس/ آذار 2012، تم استدراجه عبر هاتف صديقة اعتُقلت، فوقع في الفخ. اعتقله النظام، وظهر على شاشته الرسمية، بملامح هائمة يُدلي باعترافات باهتة، لا تشبهه. عيناه تصرخ بما لم يقله لسانه. كأن روحه تنظر من خلف الشاشات تقول: هذا ليس أنا، هذا جسدي تحت التهديد، أما أنا فقد قرّرت أن أبقى معكم، بالكاميرا، بالنداء، بالصورة التي لن يحذفها أحد أو يستطيع التلاعب بها.
وقف العالم يراقب. تصريحات من هيلاري كلينتون، من ويليام هيغ، ومن كبرى المنظمّات الصحافية. عرفوا أن هذا الرجل الذي حمل الخضار يومًا، وأصبح يحمل الحقيقة، صار ذاكرة الثورة. لم يكن علي مهمًّا لأنه يحمل كاميرا فقط، بل لأنه صار دليلًا حيًّا على ما حاول النظام دفنه وطمسه.
وبعد عام ونصف على اعتقاله، سُجلت وفاته في السجل المدني، دون سبب، أو محاكمة، من دون حتى جثة، رغم ظهوره على إعلام الدولة الرسمي.. هكذا ببساطة، مات علي على الورق. لكن الورق لا يعرف كيف تموت الأرواح العظيمة. لاحقًا، في صور "قيصر"، تعرّفت عائلته عليه بين آلاف الجثث التي قضت تحت التعذيب والتجويع. كان ذلك هو الاعتراف الرسمي الدامغ.
لم يمت علي. لأن الذين يصنعون ذاكرة لا يموتون. بقي في الصور، في الوثائق، في كل بث حيّ حمل صوته. بقي في ذلك الشريط الذي صرخ فيه: "بابا عمرو تُقصف... أين أنتم يا عرب؟". بقي في ضحكته التي كان يخبئ بها خوفه كي لا يخيف أصدقاءه.
فيما بعد، استشهد ثلاثة من إخوته: حمزة الذي ورث كاميراته، عبد الكافي، فإبراهيم. علي لم يرَ موتهم، لكنه عرف أن القصة أطول من حياته، وأن الطريق لا يُقاس بخطواته وحده.
الثورة التي أحبها لم تُهزم. بل انتصرت حتى قبل الثامن من ديسمبر/ كانون الأول (2024)؛ منذ الصرخة الأولى، في قلوبنا، في الأثر، في الصورة التي التُقطت رغم الخطر، في الصوت الذي ارتجف لكنه نطق. الأسد سقط يوم ارتعد من كاميرا علي، وارتبك من حضور شابٍ يعشق الحياة ويصر على روايتها.
في آخر مرّة تحدثنا، قال لي: "إذا متُّ، لا تزعل... احكي قصتي صح، بدون دراما". وها أنا أفعل، بلا مبالغة، بكل ما في الذاكرة من وجع مؤجّل، وألم تخثر طوال أربعة عشر عامًا. وها أنا أفعل، لا لأبكيك، بل لأُعيدك إلى حيث تنتمي: في ضمير من عرفوك، وفي وعي من سيقرأون عنك.
علي مات، نعم. لكنّه لم ينتهِ. لأن القصص الحقيقية لا تنتهي. لأنها تُروى، وتُكتب، وتُتداول، وتُزرع في صدور من لم يعرفوه فيحلمون مثله، ويعاندون الواقع مثله، ويبتسمون للوجع كما كان يفعل.
سلام عليك، يا جدّو الثورة..
سلامٌ على عينك التي لا تنام، وعلى صوتك الذي لم يختنق تحت التعذيب.
سلامٌ عليك يا من كنت أكبر من الكاميرا، وأصدق من كل بث مباشر.
سلامٌ على ظلّك الذي ما زال واقفاً عند مفترقات الموت، لا يرتجف، ولا يتراجع.
سلامُ على نظرتك الثابتة التي برهنت أن الحقيقة لا تُهزم، حتى لو غُيّب حاملها.
سلامُ على روحك التي ما زالت تتنفس في كل صورة نجت، وفي كل حكاية لم تُدفن.
سلامٌ على عيون بابا عمرو، التي كنتها... وستبقى
-----------------
العربي الجديد- ملحق سوريا.

خالد أبو صلاح
الثلاثاء 22 أبريل 2025