في المقابل أعلن المبعوث الروسي دعم بلاده “لكلّ المبادرات المتعلّقة بالتقريب بين سورية وتركيا”، معتبراً أنّ الظروف “تبدو مناسبة أكثر من أيّ وقت مضى لنجاح الوساطات”.
بعد ذلك بأيام كان وزير الخارجية التركي هاقان فيدان يحثّ النظام السوري على “استثمار حالة الهدوء وتوقّف الاشتباكات بغية حلّ المشكلات الدستورية وتحقيق السلام مع معارضيه” .
إلى هنا كانت الأمور تسير وفق كلاسيكية معهودة قبيل القمّة التركية الروسية على هامش أعمال مؤتمر شنغهاي في الآستانة. لكنّ المفاجأة غير المتوقّعة فجّرها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، الذي قرّر أن يبدّل في تسمياته وتوصيفاته السلبية والقاسية الكثيرة التي أطلقها على بشار الأسد في العقد الأخير، من “لا مصافحة ولا جلوس مع القتلة” إلى مخاطبة الأسد بـ”حضرة” والقول إنّه “لا سبب لعدم حدوث التطبيع مع دمشق وعودة العلاقات إلى ما كانت عليه في السابق”، على الرغم من أنّ مندوب تركيا الدائم لدى الأمم المتحدة أكّد خلال جلسة لمجلس الأمن حول الوضع الإنساني في سوريا، ضرورة اعتراف جميع الأطراف السوريّة بخطورة الوضع، وضرورة تحقيق “إجماع وطني حقيقي وتسوية سياسية على أساس قرار مجلس الأمن رقم 2254”.
إشعال الدّاخل “السّوريّ التّركيّ” :
في حين كان الطرفان يتبادلان الرسائل الإيجابية، ويتحضّران لطيّ صفحة نحو عقدين من الخلافات والصراعات، اندلعت في مدينة قيصري هجمات عنيفة ضدّ اللاجئين السوريين، بحجّة اعتداء لاجىء على طفلة تركيّة.
ردّ السوريون في مدن الشمال المحرّر، الواقعة تحت نفوذ قوى المعارضة السورية بالتنسيق مع تركيا، على ما يتعرّض له اللاجىء السوري في قيصري، وحمّلوا القيادات التركية مسؤولية عدم التعامل مع هذه المجموعات العرقية المتشدّدة، وجرى استهداف المرافق ومراكز الخدمات ووسائل النقل والأعلام التركية.
أعلن وزير الداخلية التركي علي يرلي قايا توقيف 474 شخصاً على ذمّة التحقيق في تهم تراوح بين التسبّب بإشعال الفوضى واستهداف مدنيين سوريين في قيصري. لكنّ الأهمّ قوله إنّ 285 شخصاً بين هؤلاء هم من أصحاب السوابق والمسجونين بتهم وقضايا السرقة والاختلاس والتزوير والتهديد، أي 60% منهم. ومهمّة التحقيقات الآن هي استجوابهم سريعاً ومعرفة كيف نزلوا إلى الشوارع في المدينة وهاجموا منازل وممتلكات اللاجئين السوريين ومَن الذين حرّضهم، وأن يجري لاحقاً إعلان نتائج التحقيقات بشفافية أمام الرأي العامّ التركي كي تهدأ النفوس ولا تتكرّر الأمور مرّة أخرى.
في هذا الوقت خرج إردوغان ليعلن: “لم نقع في الفخّ الذي نصبه البعض من خلال إشعال الفوضى في مدينة قيصري عبر استهداف اللاجىء السوري ثمّ محاولة نقل المخطّط إلى مناطق شمال سوريا”. هذا لأنّ قيادات العدالة والتنمية لم تتمكّن من سحب ورقة اللجوء من يد بعض القوى السياسية والحزبية الداخلية ومراكز القرار في الخارج، التي تحاول استخدامها للإيقاع بين الأتراك والسوريين.
ماذا قال الأميركيّون؟
أعلنت الخارجية الأميركية أنّها “تتفهّم قرار تركيا الحوار مع سوريا من أجل تخفيف معاناة الأهالي وترحّب به”، لكنّها تؤكّد أنّ “واشنطن لن تطبّع مع نظام الأسد”. هكذا تقرأ القيادات الأميركية المشهد في جهود التواصل والتطبيع بين أنقرة ودمشق. لا ترى أنّ مصالحها في سوريا وشرق الفرات ستكون مستهدفة بعد هذا التقارب، حتى لو سقط مشروع شريكها المحلّي “قسد” في موضوع الانتخابات بعد شهر وكان هذا الحليف الضحيّة الأولى لهذا الانفتاح.
هنا تحدّثت وسائل إعلام سورية مقرّبة من النظام عن وجود اتّصالات لعقد الاجتماع المؤجّل للجنة الاتّصال العربية حول سوريا في العاصمة العراقية خلال وقت قريب. فكيف سيكون شكل جدول الأعمال؟ وهل لهذا القرار علاقة بالتطوّرات السياسية الأخيرة على خطّ أنقرة – دمشق؟
المعارضة السّوريّة تحذّر :
على موجة إردوغان نفسها، حذّرت قيادات المعارضة السورية من مصيدة يرسمها النظام ويسعى من خلالها إلى ضرب العلاقات بينها وبين تركيا. لكنّ أنقرة تحاول طمأنة شريكها السوري في الشمال بالتأكيد أنّ أيّ تقارب مع النظام لن يكون على حساب العلاقة معه.
كيف سيكون شكل العلاقة بين أنقرة وحليفها في المعارضة السورية عند إعلان بداية الحوار المباشر مع “سوريا الأسد” بوساطة عراقية – روسية؟ وكيف ستتحرّك قوى المعارضة السورية أمام مشهد من هذا النوع؟ وهل استعدّت له وجهّزت الخيارات والبدائل الجديدة التي تحمي الشعارات والأهداف التي انتفضت من أجلها قبل 13 عاماً؟ أم تلتزم بمواقف وخيارات تركيا السياسية التي تقول إنّها لن تعرّض مصالح من ينسّق معها استراتيجياً منذ سنوات للخطر، ولن يتمّ أيّ تقارب مع النظام على حساب علاقات الطرفين؟
أحد الأقلام التركية المعارضة قبل أيام ذكّر بمثل شعبي تركيّ معروف: “كُلْ لقمة كبيرة… لكن لا تقُل كلاماً كبيراً تندم عليه”. وبالتالي فإنّ الانتقال من منطق “لا مصافحة وجلوس أمام طاولة واحدة” إلى منطق “فتح الأبواب أمام العودة إلى ما كان عليه الوضع قبل سنوات”، ليس هديّة تركيّة لبشار الأسد بل لموسكو أوّلاً، ثمّ ثانياً يسمح لتركيا بلعب ورقتها من أجل انتزاع ما تريده من واشنطن في سوريا.
قد لا تحدث المفاجأة التركية السورية على هامش قمّة شنغهاي في الآستانة، لكنّ لقاء إردوغان وبوتين بعد أشهر طويلة من الانتظار واحتمال جلوس إردوغان وبايدن حول طاولة ثنائية على هامش قمّة الأطلسي بعد أسبوع في أميركا، قد يسرّعان أكثر فأكثر الحوار بين القيادات التركية والنظام في دمشق.
------------
اساس ميديا
*كاتب وأكاديمي تركي .