في مقاله المنشور على هذه الصفحة بجريدة القاهرة 4/10/2011 أشار كاتب هذه السطور إلى ضرورة تشكيل لجنة من المثقفين المتخصصين لإعادة صياغة تاريخ مصر الحديث في سياق استشراف مستقبل ثورة يناير ، منوها ً إلى أن كل دراسة تاريخية لها قيمتها – خاصة إذا قام بها فريق عمل - لا غرو تحمل في طياتها إشارة ً ونبوءة "علمية " لما هو آت. وكان المقال قد اقترح أن تكون نقطة الانطلاق من مناهج "حداثية" أساسها دراسة تطور الواقع الإنتاجي المرتبط بكفاح الشعب وليس "الرصد الحكائي" لسياسات الرؤساء والوزراء. ذلك أن تلك المناهج قد أثرت العقل المصري باجتهادات بعض المؤرخين الجدد من أمثال محمود إسماعيل وعبد الهادي عبد الرحمن وعلي مبروك، الذين أضاءوا لنا فترات ُأريد لها أن تظل مظلمة في تاريخنا العربي والإسلامي الوسيط، بجانب صلاح عيسى الذي محا نفس الظلمة عن تاريخ مصر الحديث والمعاصر.
في هذا السياق وقع الكاتب على كراسة شديدة الأهمية قامت بنشرها دار ميريت منذ عشرة أعوام ونيف للدكتور عماد بدر الدين أبو غازي بعنوان " الجذور التاريخية لأزمة النهضة في مصر" يشرح فيها المؤلف مقصده بمصطلح النهضة " إحياء منظومة قيم الاستقلال والتحرر التي قتلها الاستعمار، ودفنها الاستبداد ".
لكن صاحب الكراسة ينتقد دراسات بيتر جران ونللي حنا وسمير أمين التي رصدت حركة الإحياء في القرن 18 ورأت أنه لولا تدخل الغرب لآتت البذور ثمارها لأنها دراسات " تؤبد التخلف بما تسميه الطريق الخاص لكل مجتمع " وكأن المطلوب لمن يريد التحرر والنهضة أن ينعزل عن العالم ! وبنفس القدر ينتقد أبو غازي الاتجاه المعاكس برموزه : الرافعي ولويس عوض وحسين فوزي الداعين لكون النهضة وليدة الاحتكاك بالغرب ، بل والسير على هداه . بينما يرى عماد أن هذا الفكر يفرض نموذجا ً Paradigm وحيدا ً للتطور هو النموذج الأوربي .
تلك إذن رؤية نقدية لا غش فيها، من شأنها أن تقود خطى المؤرخين الجدد – سيما الشباب منهم - إلى إعمال آليات البحث والتنقيب عند الجذور ، مفسحة المجال للأرقام أن تتكلم حتى إذا ُعرفت التفاصيل أمكن للباحث أن يطلق حكما ً موضوعيا ً وليس مجرد ناتج تأمليّ يبحث له صاحبه عن مسوغات وتبريرات. والحاصل أن الكراسة تزخر بالإحصائيات التي تؤسس للفكرة المراد استخلاصها والتي يمكن تتبعها في أن النهضة الحقيقية ممكنة فحسب حين تنشأ وتتسع طبقة ملاك الأراضي ( البورجوازية الزراعية) لأنها تغدو قادرة على تنشيط التجارة ، والتجارة هي الأم " البريختية" للتصنيع، ترعاه تحقيقا ً لمزيد من الأرباح ، وقد تتركه لغيرها - إن جذبه منها – كي لا ينخلع ذراعه ! وهي في غمرة نشاطها لا غرو تشجع انتشار التعليم والبحث العلمي ، وعلى عكس الإقطاع فهي بحكم مصالحها النشطة، تتقبل التغييرات الثقافية بل وتسعى إليها سعيا ً. وهو ما رأينا نموذجا له في ستينات القرن الماضي بعد تطبيق قوانين الإصلاح الزراعي،الذي ضاعف من نشاط التجارة الداخلية وأسهم في توسيع دائرة القوى الشرائية وسافر بالطبقات المعدمة إلى " قارات " التعليم وفضاءات الثقافة الرفيعة. وتلك هي النهضة في جانب من جوانبها بغض النظر عن نظرية الطريق الخاص للتطور، أو النظرية الأخرى القائلة بضرورة احتذاء النموذج الأوربي.
ماذا قالت الأرقام في الكراسة ؟
لقد شهدت أواخر عصر المماليك البحرية (1382- 1517) تراخي قبضة الدولة على أراضي مصر، التي احتكرها ما يطلق عليه اسم " النمط الآسيوي للإنتاج" Asiatic Mode of Production وهو نمط سكوني جامد ، يلد في السياق السياسي ما ُيعرف بالطغيان الشرقي Oriental Despotism تبعا ً لقانون من يملك وحده يحكم وحده . لذا فما أن حل وباء الخمسة عشر عاما الذي اجتاح البلاد منذ العام 1379 وراح يحصد كل يوم ما بين عشرة آلاف وعشرين ألف نسمة ( حسب ابن تغري بردي في النجوم الزاهرة ) حتى سقطت دولة المماليك الأولى ليتصدع بسقوطها أساس النمط الآسيوي ، حيث اضطرت الدولة المملوكية الثانية ( الجراكسة ) لبيع جانب كبير من أراضيها الزراعية للأفراد ، حيث بدأت الأرض الزراعية – ولأول مرة – تأخذ شكل السلعة والتي هي بداية الإنتاج الرأسمالي مما أفسح الطريق للحراك الاجتماعي Social Mobility منتقلا ً بعلاقات الإنتاج جزئيا ً من العصر الإقطاعي المغلق إلى مشارف العصر البورجوازي الأكثر تقدما ً وحيوية.
بيد أن ذاك الحراك الاجتماعي – على أهميته وقتها – لم يكن ليتعدى مرحلة وضع الأسس إلى مرحلة تنفيذ المشروع التاريخي " الثوري " وذلك لأن معظم الأراضي المنقولة ( 54( % بيعت لأفراد الطبقة الحاكمة : السلطان، والأمراء، ومن كانوا يسمون " أولاد الناس " وهم أبناء المماليك وزوجاتهم وجواريهم (20% ) وقد كانت تلك الأراضي في حيازتهم أصلا ً ولكن كحق انتفاع دون حق الرقبة. الأمر الذي أبطأ من مسيرة الحراك الاجتماعي إلى أن دهم البلاد الغزو العثماني في أوائل القرن السادس عشر ليطيح بمفردات المشروع وبالأسس القانونية التي توفرت له في ضربة واحدة، حيث صارت مصر بكاملها ملكا ً خالصا ً للخليفة العثماني .
الاستقلال السياسي والتنظيري
وتبقى أهمية هذه الكراسة في كونها تأصيلا ً للمنهج العلمي في دراسة التاريخ ، لنستخلص منها كيفية النظر إلى الحوادث الكبرى من زوايا جديدة، وضرورة الاعتماد على الأرقام والإحصائيات المستمدة من المراجع الموثوق بها ، مع مقارنة بعضها بالبعض حتى لا يعكر واحدها على المشهد العام جراء انحيازه لسلطة قديمة أو حديثة .
وبجانب هذا وذاك فالكراسة تقرر بمنهج جدليّ واضح أن الاستقلال ليس محض تحرر من الحكم الأجنبي، بل هو أيضا - على المستوى التنظيري – الاستقلال عن مخايلات نموذج مغاير للتحديث، كي تتجنب الإرادة الوطنية الوقوع في شرك التبعية، ولكن من دون أن يعني ذلك انغلاقا ً وتقوقعا ً على الذات. وبهذا الفهم المزدوج لمعنى الاستقلال يتبين أنه هو حجر الزاوية لكل نهضة مأمولة ، والركن الركين لكل ثورة تسعى لتغيير الأسس المادية لأوضاع الملكية. إذ بدون هذا التغيير " الماديّ " الملموس فلا مجال للحديث عن تغييرات دستورية أو قانونية أو أخلاقية ذات أثر حاسم في حياة الناس .