يميل بعض المحلّلين السياسيين المؤدلجين، من خلفيات قومية ويسارية وإسلامية، إلى الاستسهال والتسرّع والمبالغة، لإضفاء رغباتهم أو قناعاتهم على الأحداث أو التطورات السياسية، أي تحوير التاريخ ليتناسب مع أهوائهم وسردياتهم.
وربما من أهم المسائل المطروحة للنقاش اليوم تلك المتعلقة بتفسير قيام بعض الأنظمة العربية، بالتملّص من السياسات التي تطلبها الولايات المتحدة، بل والتمرّد عليها، علماً أنها معروفة تاريخياً كتابعة لها، أو كمرتبطة بسياساتها.
بيد أن ذلك الاستنتاج يغفل واقعاً مفاده أن العلاقات بين الدول لا تسير وفق ثنائية التابع والمتبوع، بشكل مطلق، أو ميكانيكي، ولعل أكبر مثال على ذلك هو علاقة إسرائيل بالولايات المتحدة. فهذا العلاقة الوطيدة، وغير المسبوقة، ومع ذلك فقد شهدت محطات من التوتر بين الطرفين، ليس في عهد الرؤساء الديمقراطيين، وحسب، إنما شمل ذلك عهد الرؤساء الجمهوريين، أيضاً. ففي عهد الرئيس بوش (الأب) تمردت إسرائيل (في ظل حكومة اسحق شامير الليكودية)، على مسعى الولايات المتحدة عقد “مؤتمر مدريد للسلام” (1991)، فاضطرت تلك الإدارة إلى الضغط عليها وجرها إلى المؤتمر، لكن مع ذلك ظلت إسرائيل تتمنع من السير في عملية التسوية، وضمنها اتفاق أوسلو (رغم الإجحاف بحق الفلسطينيين).
وفي السياق ذاته، فإن المملكة العربية السعودية استخدمت سلاح النفط إبان حرب تشرين الأول/ أكتوبر (1973)، على خلاف مصلحة الدول الغربية، ما أدى إلى تضاعف أسعاره، بالقياس لما قبل.
في تفسير التوتر الحالي، في العلاقات العربية – الأميركية، يمكن تعيين الافتراق الأول بطرح الرئيس بوش (الابن) مشروع “نشر الديمقراطية”، و”الشرق الأوسط الكبير” (2002 – 2003)، المحمول، هذه المرة، بإرادة التدخل الخارجي العسكري، في بعض البلدان، لفرض الديمقراطية، باعتبار ذلك جزءاً من “استراتيجية الأمن القومي الأميركي”، على خلفية الهجوم الإرهابي في نيويورك وواشنطن (2001)، وهو ما تم ترجمته في غزو الولايات المتحدة لأفغانستان (2002)، والعراق (2003).
هكذا، فإن طرح ذلك المشروع عبر عن نهج أميركي جديد، يقوم على إحداث تغييرات في بنية الأنظمة العربية، في حين كان أحد أهم بنود الاستراتيجية الأميركية السابقة في الشرق الأوسط يتمثل في الدفاع عن الأنظمة الصديقة (مع الحفاظ على أمن إسرائيل وتفوقها، وحماية منابع وممرات النفط، وعدم تمكين أي دولة أخرى من السيطرة على الشرق الأوسط). والمعنى أن ذلك التحول بات في صلب السياسة الأميركية الجديدة في الشرق الأوسط، بغض النظر عن هوية ساكن البيت الأبيض، وإن كان جمهورياً أم ديمقراطياً، فالفلسفة الأميركية من وراء ذلك هي إحالة أسباب الفقر والتخلف والإحباط والغضب في العالم العربي ليس إلى إسرائيل، أو إلى الصراع العربي- الإسرائيلي، وإنما إلى من طبيعة الأنظمة العربية، الاستبدادية والفاسدة.
في المحصلة فإن ذلك الانقلاب الأميركي رن جرس الإنذار لدى الأنظمة “الصديقة” للولايات المتحدة، إذ حاولت، في البداية، التكيف معه عبر فكرة ترشيد أو إصلاح النظم السياسية (صدرت وقتها تقارير التنمية الإنسانية العربية)، مع تهربها عملياً من ذلك الاستحقاق، مع تركيزها على دعوة الغرب إلى احترام خصائص المجتمعات العربية، ومراعاة عدم فرض نموذج غربي عليها. وفي السياق أيضاً، أتى حبل النجاة من إسرائيل، التي قوضت اتفاق أوسلو، وقوضت بعده مشروع “الشرق الأوسط الجديد”، والمفاوضات متعددة الطرف، ومؤتمرات التنمية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ما ساهم بتغيير المعادلات.
الافتراق الثاني تمثل ببروز تحد آخر أمام الأنظمة العربية، لا سيما في المشرق العربي، واليمن، فازداد نفوذ إيران التي باتت تهيمن فعلياً على بلدان عربية عدة (العراق وسوريا ولبنان واليمن)، بحيث شكلت تهديداً حقيقياً للأنظمة السياسية العربية، وكعامل تقويض للاستقرار في المنطقة العربية، إن بتفكيكها المجتمعات العربية، على أسس طائفية مذهبية، أو بامتلاكها أذرعاً ميليشياوية مسلحة، كما بمحاولاتها الاستحواذ على قوة نووية.
المشكلة أن سياسة الولايات المتحدة إزاء إيران كانت تنطوي على تلاعب، ومراوغة، فهي فضلت الاستثمار في السياسة الإيرانية في المنطقة، بدل كبحها، من أجل الحفاظ على أمن إسرائيل، من خلال تمكين إيران من تصديع بني الدولة والمجتمع في دول المشرق العربي من العراق إلى سوريا وصولاً إلى لبنان، ولابتزاز بعض الأنظمة العربية، التي فهمت من هذه السياسة تخلياً أميركياً عنها، وتركها تحت التهديد الإيراني، لا سيما أن الأمر ترافق مع فرض الولايات المتحدة عقبات، ومعايير، على بعض صفقات التسلح العربية.
في الغضون، فإن اندلاع ثورات الربيع العربي، أدى إلى تضافر تخوّف الأنظمة العربية من التدخلات الأميركية في بلدانها، بحجة حقوق الإنسان، ولفرض الديمقراطية، مع التهديدات التي يمثلها تزايد النفوذ الإيراني في المنطقة، واحتمال حيازتها قوة نووية، لا سيما مع الاتفاق الأميركي- الإيراني (عهد باراك أوباما)، فاستنفرت الأنظمة العربية، من التخلي الأميركي والتهديد الإيراني.
أما الافتراق الثالث فتجلى بشكل أكبر بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، مع أنه سبقه، وهو يتعلق بسعي الغرب للتحرر من الطاقة الأحفورية، والتوجه نحو الطاقة الخضراء، أو النظيفة، إذ بدت الدول الغربية، وهي الأكثر استهلاكاً للغاز والنفط، وكأنها تريد حرمان بعض الأنظمة العربية النفطية من كنزها، أو ثروتها الاستراتيجية، التي تبني عليها مكانتها، ونفوذها.
والخلاصة، أنه لا يوجد ما يفضي إلى نزعة استقلالية، أو تمردية، لدى الأنظمة العربية المعنية، خصوصاً أنها ترتبط بألف خيط وخيط بالولايات المتحدة (سياسياً وأمنياً واقتصادياً ومالياً)، وهي تعرف تماماً الهوامش المتاحة لها، والتي تتحرك فيها في إطار السياسة الأميركية، وكل ما هنالك انها تعمل على استثمار التباينات في الداخل الأميركي، والوضع الحرج لإدارة الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن، في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، كما تحاول درء الضغوط الأميركية عنها، بالتداعيات الناجمة عن الغزو الروسي لأوكرانيا، والعلاقات الواعدة مع الصين، علماً أن روسيا والصين، لا تملكان ما تقدمانه لتلك الأنظمة، سوى اختلافهما عن الغرب بأنهما لا تطرحان أسئلة بخصوص طبيعة الأنظمة أو سياساتها إزاء شعوبها.
------
درج
وربما من أهم المسائل المطروحة للنقاش اليوم تلك المتعلقة بتفسير قيام بعض الأنظمة العربية، بالتملّص من السياسات التي تطلبها الولايات المتحدة، بل والتمرّد عليها، علماً أنها معروفة تاريخياً كتابعة لها، أو كمرتبطة بسياساتها.
بيد أن ذلك الاستنتاج يغفل واقعاً مفاده أن العلاقات بين الدول لا تسير وفق ثنائية التابع والمتبوع، بشكل مطلق، أو ميكانيكي، ولعل أكبر مثال على ذلك هو علاقة إسرائيل بالولايات المتحدة. فهذا العلاقة الوطيدة، وغير المسبوقة، ومع ذلك فقد شهدت محطات من التوتر بين الطرفين، ليس في عهد الرؤساء الديمقراطيين، وحسب، إنما شمل ذلك عهد الرؤساء الجمهوريين، أيضاً. ففي عهد الرئيس بوش (الأب) تمردت إسرائيل (في ظل حكومة اسحق شامير الليكودية)، على مسعى الولايات المتحدة عقد “مؤتمر مدريد للسلام” (1991)، فاضطرت تلك الإدارة إلى الضغط عليها وجرها إلى المؤتمر، لكن مع ذلك ظلت إسرائيل تتمنع من السير في عملية التسوية، وضمنها اتفاق أوسلو (رغم الإجحاف بحق الفلسطينيين).
وفي السياق ذاته، فإن المملكة العربية السعودية استخدمت سلاح النفط إبان حرب تشرين الأول/ أكتوبر (1973)، على خلاف مصلحة الدول الغربية، ما أدى إلى تضاعف أسعاره، بالقياس لما قبل.
في تفسير التوتر الحالي، في العلاقات العربية – الأميركية، يمكن تعيين الافتراق الأول بطرح الرئيس بوش (الابن) مشروع “نشر الديمقراطية”، و”الشرق الأوسط الكبير” (2002 – 2003)، المحمول، هذه المرة، بإرادة التدخل الخارجي العسكري، في بعض البلدان، لفرض الديمقراطية، باعتبار ذلك جزءاً من “استراتيجية الأمن القومي الأميركي”، على خلفية الهجوم الإرهابي في نيويورك وواشنطن (2001)، وهو ما تم ترجمته في غزو الولايات المتحدة لأفغانستان (2002)، والعراق (2003).
هكذا، فإن طرح ذلك المشروع عبر عن نهج أميركي جديد، يقوم على إحداث تغييرات في بنية الأنظمة العربية، في حين كان أحد أهم بنود الاستراتيجية الأميركية السابقة في الشرق الأوسط يتمثل في الدفاع عن الأنظمة الصديقة (مع الحفاظ على أمن إسرائيل وتفوقها، وحماية منابع وممرات النفط، وعدم تمكين أي دولة أخرى من السيطرة على الشرق الأوسط). والمعنى أن ذلك التحول بات في صلب السياسة الأميركية الجديدة في الشرق الأوسط، بغض النظر عن هوية ساكن البيت الأبيض، وإن كان جمهورياً أم ديمقراطياً، فالفلسفة الأميركية من وراء ذلك هي إحالة أسباب الفقر والتخلف والإحباط والغضب في العالم العربي ليس إلى إسرائيل، أو إلى الصراع العربي- الإسرائيلي، وإنما إلى من طبيعة الأنظمة العربية، الاستبدادية والفاسدة.
في المحصلة فإن ذلك الانقلاب الأميركي رن جرس الإنذار لدى الأنظمة “الصديقة” للولايات المتحدة، إذ حاولت، في البداية، التكيف معه عبر فكرة ترشيد أو إصلاح النظم السياسية (صدرت وقتها تقارير التنمية الإنسانية العربية)، مع تهربها عملياً من ذلك الاستحقاق، مع تركيزها على دعوة الغرب إلى احترام خصائص المجتمعات العربية، ومراعاة عدم فرض نموذج غربي عليها. وفي السياق أيضاً، أتى حبل النجاة من إسرائيل، التي قوضت اتفاق أوسلو، وقوضت بعده مشروع “الشرق الأوسط الجديد”، والمفاوضات متعددة الطرف، ومؤتمرات التنمية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ما ساهم بتغيير المعادلات.
الافتراق الثاني تمثل ببروز تحد آخر أمام الأنظمة العربية، لا سيما في المشرق العربي، واليمن، فازداد نفوذ إيران التي باتت تهيمن فعلياً على بلدان عربية عدة (العراق وسوريا ولبنان واليمن)، بحيث شكلت تهديداً حقيقياً للأنظمة السياسية العربية، وكعامل تقويض للاستقرار في المنطقة العربية، إن بتفكيكها المجتمعات العربية، على أسس طائفية مذهبية، أو بامتلاكها أذرعاً ميليشياوية مسلحة، كما بمحاولاتها الاستحواذ على قوة نووية.
المشكلة أن سياسة الولايات المتحدة إزاء إيران كانت تنطوي على تلاعب، ومراوغة، فهي فضلت الاستثمار في السياسة الإيرانية في المنطقة، بدل كبحها، من أجل الحفاظ على أمن إسرائيل، من خلال تمكين إيران من تصديع بني الدولة والمجتمع في دول المشرق العربي من العراق إلى سوريا وصولاً إلى لبنان، ولابتزاز بعض الأنظمة العربية، التي فهمت من هذه السياسة تخلياً أميركياً عنها، وتركها تحت التهديد الإيراني، لا سيما أن الأمر ترافق مع فرض الولايات المتحدة عقبات، ومعايير، على بعض صفقات التسلح العربية.
في الغضون، فإن اندلاع ثورات الربيع العربي، أدى إلى تضافر تخوّف الأنظمة العربية من التدخلات الأميركية في بلدانها، بحجة حقوق الإنسان، ولفرض الديمقراطية، مع التهديدات التي يمثلها تزايد النفوذ الإيراني في المنطقة، واحتمال حيازتها قوة نووية، لا سيما مع الاتفاق الأميركي- الإيراني (عهد باراك أوباما)، فاستنفرت الأنظمة العربية، من التخلي الأميركي والتهديد الإيراني.
أما الافتراق الثالث فتجلى بشكل أكبر بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، مع أنه سبقه، وهو يتعلق بسعي الغرب للتحرر من الطاقة الأحفورية، والتوجه نحو الطاقة الخضراء، أو النظيفة، إذ بدت الدول الغربية، وهي الأكثر استهلاكاً للغاز والنفط، وكأنها تريد حرمان بعض الأنظمة العربية النفطية من كنزها، أو ثروتها الاستراتيجية، التي تبني عليها مكانتها، ونفوذها.
والخلاصة، أنه لا يوجد ما يفضي إلى نزعة استقلالية، أو تمردية، لدى الأنظمة العربية المعنية، خصوصاً أنها ترتبط بألف خيط وخيط بالولايات المتحدة (سياسياً وأمنياً واقتصادياً ومالياً)، وهي تعرف تماماً الهوامش المتاحة لها، والتي تتحرك فيها في إطار السياسة الأميركية، وكل ما هنالك انها تعمل على استثمار التباينات في الداخل الأميركي، والوضع الحرج لإدارة الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن، في مواجهة التحديات الداخلية والخارجية، كما تحاول درء الضغوط الأميركية عنها، بالتداعيات الناجمة عن الغزو الروسي لأوكرانيا، والعلاقات الواعدة مع الصين، علماً أن روسيا والصين، لا تملكان ما تقدمانه لتلك الأنظمة، سوى اختلافهما عن الغرب بأنهما لا تطرحان أسئلة بخصوص طبيعة الأنظمة أو سياساتها إزاء شعوبها.
------
درج