هذه الأزمة المركبة بوجوهها المتعددة، تكشف هشاشة الأفكار، في ما يخص قراءة المجريات وتشخيص المشكلات. وإلا كيف نفسر كل هذه الإفلاسات والانهيارات الأمنية والمالية، مع وجود هذا الحشد من العلماء والخبراء بترسانتهم النظرية وخبراتهم الأكاديمية؟
بالطبع هناك من يلقي التبعة على المجتمعات، باتهامها بالجهل والتعصب والتخلف، كما يشخص المشكلة مثقفون كبار ذوو أسماء لامعة في العالم العربي. ومن يفعل ذلك يتهرب من المسؤولية برميها على الغير، في حين أن الأولى أن يرتد المثقفون والعاملون في فروع المعرفة وميادين الفكر، على نظرياتهم ونماذجهم بالمساءلة النقدية والمراجعة العقلانية، وذلك من أجل تحديث عدتهم الفكرية التي اعتراها الصدأ، وباتت تموّه المشكلات أكثر مما تسهم في إيجاد الحلول لها.
وهكذا، فهم بدلاً من أن يعترفوا باستهلاك أدواتهم في الدرس والتحليل، نراهم يتهمون سواهم بالتخلف. ومن يفعل ذلك يحكم على نفسه في النهاية، إذ كيف نحتل الواجهة ونمارس الوصاية على الأمة وقضاياها، في حين هي على هذا الحال من الضعف والتردي والتفكك؟!
لنعترف بالواقع كي نعرف كيف نفهم ونشخص.
لم يعد يجدي النخب هروباً بعد كل هذه الأعطال والآفات. فالعلة تكمن في الرؤى والتصورات، كما في المدارس والمناهج المعتمدة في المقاربة والمعالجة.
هذا ما يعترف به مفكرون غربيون في تحليلهم للأزمة الراهنة. ومن الأمثلة البارزة، ما يقوله الأميركي بول كروغمان الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2008، إذ هو يفسر الأزمة البنكية بردها إلى فشل النظريات التي تحولت إلى محرمات اقتصادية. وهذا ما يقوله أيضاً عالم الاجتماع الفرنسي فرنسوا دوبيه، الذي يفسر المشكلات الاجتماعية بردها إلى مجتمع العلماء، أي إلى ما ينتجه علماء الاجتماع حول المجتمعات من التصورات التي فقدت، في رأيه، مصداقيتها وقدرتها على الشرح والتفسير.
وأنا لم أكن أنتظر غيري من علماء الغرب لكي أفهم وأشخص، فمنذ سنوات، وبالتحديد منذ كتابي «أوهام النخبة» (1996)، أذهب إلى أن مشكلة المفكرين والفلاسفة ليست مع المجتمع ولا مع الساسة، بل مع أفكارهم ومفاهيمهم بالدرجة الأولى.
وأن ما يطرحه المثقفون الساعون إلى تغيير الأوضاع، يشهد على جهلهم المركب بالنفس والواقع وبالمجتمعات التي يريدون تغييرها أو إصلاحها، لأن هذه تسير في وادٍ، وهم في وادٍ آخر يهيمون بشعاراتهم الطوباوية ومقولاتهم الخاوية.
ولكني لم أكن أرجم بالغيب. فالمشكلات المتفاقمة والأزمات المزمنة في العالم العربي، تحمل من يعاني ويكابد، على أن ينظر ويتأمل، أو يتبصر ويتدبر، بحيث يعيد النظر في أدواته المنهجية وشبكاته المفهومية. واليوم يبدو الوضع أكثر إلحاحاً بأسئلته.
فما يحدث يكشف جهل النخب المطْبِق، بسير العالم وعمل المجتمعات. وأقرب الشواهد على ذلك أن مباراة لكرة القدم كادت توقع حرباً بين بلدين عربيين، وتخلق عداوة مستحكمة بينهما، مما يعني أن ما يحرك الشعوب والجماعات هو أبعد ما يكون عن العقل والمصلحة، أي بعكس ما تتوهمه النخب الثقافية.
وهذا ما جعل الكاتب الجزائري أمين الزاوي يقول في تعليقه على أزمة الكرة: لقد هزمت كتبنا. وهكذا فالجموع البشرية التي نتهمها أحياناً بالتخلف أو ندافع عن مصالحها أحياناً أخرى، لا تتحرك دوماً بداعي الدفاع عن الحقوق والمصالح والكرامة.
ما يحركها أكثر هو العقد والحساسيات والأحقاد والعداوات. أليس هذا ما يتحكم في سلوك الطوائف والأحزاب الدينية والسياسية، على ما تشهد الحروب الأهلية في العراق وفلسطين والسودان، وفي غير بلد تقود فيه السياسات العقائدية والحزبية إلى الهلاك والخراب!
لا يعني ذلك أن مسؤولية الآفات والمصائب يحملها وحدهم الساسة والمثقفون، ممن يسهمون في صناعة الرأي العام وقيادة الدول. صحيح أن مسؤولية هؤلاء مضاعفة، وذلك على قدر الادعاء. ولكن المسؤولية تقع في النهاية على الجميع، أي هي مسؤولية متبادلة، إذ إن لكل قسطه ودوره في ما يحدث، على الأقل في مجتمعه، سواء سلباً أو إيجاباً.
وهذا يقضي بتغيير النظرة إلى الإنسان، بالتعامل معه ككائن عاقل يملك القدرة على التفكير والتدبير. إذ التفكير الحي والخلاق ليس مهنة الفلاسفة والعلماء، وإنما هو ميزة الإنسان عامة.
ومن المفارقات أن هناك مثقفين ذوي ألقاب تناط بهم مهمة تجديد العدة الفكرية، نجدهم يلوكون، من غير تجديد أو تطوير، المقولات حول العقلانية أو الديمقراطية أو الهوية، في حين نجد أناساً خارج القطاع الثقافي، يمارسون علاقتهم بمهنهم بصورة خصبة وفعالة، كما في المصارف والشركات والإعلام والهندسة والعمارة وعالم الأعمال، وسوى ذلك من القطاعات.
والتعامل مع الفرد بوصفه يملك القدرة على ممارسة حيويته الفكرية والسياسية والمهنية، مؤداه أن كل فرد هو فاعل ومشارك في بناء مجتمعه وتقدم بلده، بقدر ما هو منتج في حقل اختصاصه ومجال عمله. بهذا المعنى لا أحد ينوب مناب أحد في تشخيص مشكلته أو في تحسين أوضاعه.
وإذا كان العلماء يستخدمون عدتهم النظرية وأدواتهم المعرفية في الدرس والتحليل أو في الكشف والإضاءة، في ما يخص مقاربة المشكلات، فإن العاملين في بقية القطاعات، إنما يستخدمون أيضاً خبراتهم الميدانية ومعارفهم العملية، في تشخيص المشكلات أو في تصور معالجاتها. مما يعني أن ابتكار الحلول للخروج من الأزمات أو لتطوير الأوضاع، إنما هو عمل مشترك يؤلف على نحو مبتكر بين المعرفة الأكاديمية والخبرات العملية.
مختصر القول إن معالجة الأزمات تفترض الكف عن التعامل مع الناس كجماهير أو حشود أو كتل أو طوائف، فثنائيات النخبة والجمهور أو الزعيم والقطيع أو البطل والحشد أو المنقذ والشعب، ما عادت تسهم في أعمال الإصلاح والنهوض أو في مشاريع الإنماء والبناء. بالعكس، هي تولد ما نشكوه من المصائب والكوارث.
فالأحرى النظر إلى الفرد بوصفه فاعلاً، وإلى المجتمع بوصفه جملة حقوله وقطاعاته وقواه المنتجة والفاعلة. وهذا شأن المجتمع الحيوي والغني. إنه يشتغل كورشة دائمة من التفكير الحي والعمل المثمر، الأمر الذي يحوله إلى مساحة للمداولات الخصبة، بقدر ما يجعل منه شبكة من التأثيرات المتبادلة على مختلف الصعد والمستويات.
---------------------
كاتب ومفكر لبناني
harb@cyberia.net.lb
البيان - دبي
بالطبع هناك من يلقي التبعة على المجتمعات، باتهامها بالجهل والتعصب والتخلف، كما يشخص المشكلة مثقفون كبار ذوو أسماء لامعة في العالم العربي. ومن يفعل ذلك يتهرب من المسؤولية برميها على الغير، في حين أن الأولى أن يرتد المثقفون والعاملون في فروع المعرفة وميادين الفكر، على نظرياتهم ونماذجهم بالمساءلة النقدية والمراجعة العقلانية، وذلك من أجل تحديث عدتهم الفكرية التي اعتراها الصدأ، وباتت تموّه المشكلات أكثر مما تسهم في إيجاد الحلول لها.
وهكذا، فهم بدلاً من أن يعترفوا باستهلاك أدواتهم في الدرس والتحليل، نراهم يتهمون سواهم بالتخلف. ومن يفعل ذلك يحكم على نفسه في النهاية، إذ كيف نحتل الواجهة ونمارس الوصاية على الأمة وقضاياها، في حين هي على هذا الحال من الضعف والتردي والتفكك؟!
لنعترف بالواقع كي نعرف كيف نفهم ونشخص.
لم يعد يجدي النخب هروباً بعد كل هذه الأعطال والآفات. فالعلة تكمن في الرؤى والتصورات، كما في المدارس والمناهج المعتمدة في المقاربة والمعالجة.
هذا ما يعترف به مفكرون غربيون في تحليلهم للأزمة الراهنة. ومن الأمثلة البارزة، ما يقوله الأميركي بول كروغمان الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام 2008، إذ هو يفسر الأزمة البنكية بردها إلى فشل النظريات التي تحولت إلى محرمات اقتصادية. وهذا ما يقوله أيضاً عالم الاجتماع الفرنسي فرنسوا دوبيه، الذي يفسر المشكلات الاجتماعية بردها إلى مجتمع العلماء، أي إلى ما ينتجه علماء الاجتماع حول المجتمعات من التصورات التي فقدت، في رأيه، مصداقيتها وقدرتها على الشرح والتفسير.
وأنا لم أكن أنتظر غيري من علماء الغرب لكي أفهم وأشخص، فمنذ سنوات، وبالتحديد منذ كتابي «أوهام النخبة» (1996)، أذهب إلى أن مشكلة المفكرين والفلاسفة ليست مع المجتمع ولا مع الساسة، بل مع أفكارهم ومفاهيمهم بالدرجة الأولى.
وأن ما يطرحه المثقفون الساعون إلى تغيير الأوضاع، يشهد على جهلهم المركب بالنفس والواقع وبالمجتمعات التي يريدون تغييرها أو إصلاحها، لأن هذه تسير في وادٍ، وهم في وادٍ آخر يهيمون بشعاراتهم الطوباوية ومقولاتهم الخاوية.
ولكني لم أكن أرجم بالغيب. فالمشكلات المتفاقمة والأزمات المزمنة في العالم العربي، تحمل من يعاني ويكابد، على أن ينظر ويتأمل، أو يتبصر ويتدبر، بحيث يعيد النظر في أدواته المنهجية وشبكاته المفهومية. واليوم يبدو الوضع أكثر إلحاحاً بأسئلته.
فما يحدث يكشف جهل النخب المطْبِق، بسير العالم وعمل المجتمعات. وأقرب الشواهد على ذلك أن مباراة لكرة القدم كادت توقع حرباً بين بلدين عربيين، وتخلق عداوة مستحكمة بينهما، مما يعني أن ما يحرك الشعوب والجماعات هو أبعد ما يكون عن العقل والمصلحة، أي بعكس ما تتوهمه النخب الثقافية.
وهذا ما جعل الكاتب الجزائري أمين الزاوي يقول في تعليقه على أزمة الكرة: لقد هزمت كتبنا. وهكذا فالجموع البشرية التي نتهمها أحياناً بالتخلف أو ندافع عن مصالحها أحياناً أخرى، لا تتحرك دوماً بداعي الدفاع عن الحقوق والمصالح والكرامة.
ما يحركها أكثر هو العقد والحساسيات والأحقاد والعداوات. أليس هذا ما يتحكم في سلوك الطوائف والأحزاب الدينية والسياسية، على ما تشهد الحروب الأهلية في العراق وفلسطين والسودان، وفي غير بلد تقود فيه السياسات العقائدية والحزبية إلى الهلاك والخراب!
لا يعني ذلك أن مسؤولية الآفات والمصائب يحملها وحدهم الساسة والمثقفون، ممن يسهمون في صناعة الرأي العام وقيادة الدول. صحيح أن مسؤولية هؤلاء مضاعفة، وذلك على قدر الادعاء. ولكن المسؤولية تقع في النهاية على الجميع، أي هي مسؤولية متبادلة، إذ إن لكل قسطه ودوره في ما يحدث، على الأقل في مجتمعه، سواء سلباً أو إيجاباً.
وهذا يقضي بتغيير النظرة إلى الإنسان، بالتعامل معه ككائن عاقل يملك القدرة على التفكير والتدبير. إذ التفكير الحي والخلاق ليس مهنة الفلاسفة والعلماء، وإنما هو ميزة الإنسان عامة.
ومن المفارقات أن هناك مثقفين ذوي ألقاب تناط بهم مهمة تجديد العدة الفكرية، نجدهم يلوكون، من غير تجديد أو تطوير، المقولات حول العقلانية أو الديمقراطية أو الهوية، في حين نجد أناساً خارج القطاع الثقافي، يمارسون علاقتهم بمهنهم بصورة خصبة وفعالة، كما في المصارف والشركات والإعلام والهندسة والعمارة وعالم الأعمال، وسوى ذلك من القطاعات.
والتعامل مع الفرد بوصفه يملك القدرة على ممارسة حيويته الفكرية والسياسية والمهنية، مؤداه أن كل فرد هو فاعل ومشارك في بناء مجتمعه وتقدم بلده، بقدر ما هو منتج في حقل اختصاصه ومجال عمله. بهذا المعنى لا أحد ينوب مناب أحد في تشخيص مشكلته أو في تحسين أوضاعه.
وإذا كان العلماء يستخدمون عدتهم النظرية وأدواتهم المعرفية في الدرس والتحليل أو في الكشف والإضاءة، في ما يخص مقاربة المشكلات، فإن العاملين في بقية القطاعات، إنما يستخدمون أيضاً خبراتهم الميدانية ومعارفهم العملية، في تشخيص المشكلات أو في تصور معالجاتها. مما يعني أن ابتكار الحلول للخروج من الأزمات أو لتطوير الأوضاع، إنما هو عمل مشترك يؤلف على نحو مبتكر بين المعرفة الأكاديمية والخبرات العملية.
مختصر القول إن معالجة الأزمات تفترض الكف عن التعامل مع الناس كجماهير أو حشود أو كتل أو طوائف، فثنائيات النخبة والجمهور أو الزعيم والقطيع أو البطل والحشد أو المنقذ والشعب، ما عادت تسهم في أعمال الإصلاح والنهوض أو في مشاريع الإنماء والبناء. بالعكس، هي تولد ما نشكوه من المصائب والكوارث.
فالأحرى النظر إلى الفرد بوصفه فاعلاً، وإلى المجتمع بوصفه جملة حقوله وقطاعاته وقواه المنتجة والفاعلة. وهذا شأن المجتمع الحيوي والغني. إنه يشتغل كورشة دائمة من التفكير الحي والعمل المثمر، الأمر الذي يحوله إلى مساحة للمداولات الخصبة، بقدر ما يجعل منه شبكة من التأثيرات المتبادلة على مختلف الصعد والمستويات.
---------------------
كاتب ومفكر لبناني
harb@cyberia.net.lb
البيان - دبي