ربما ستحتفظ الذاكرة الإيرانية إلى عهود متقدمة بمبلغ الغبطة التي طالت الكثير من الدول والقوى الإسلامية التي وجدت في وصول الخميني إلى السلطة ( 1979 ) إرهاصاً بانتصار الإسلام وعودته إلى الإمساك بزمام المبادرة لقيادة العالم من جديد، بل ربما وجد فيه البعض مقدمة موضوعية لما كان يدعى بالصحوة الإسلامية التي ستعيد الاعتبار للإسلام لينهض بالأمة من مهاوي الانحطاط إلى طريق النهوض، ولعل هذه المواقف الإيديولوجية بالأصل كانت أكثر وضوحاً وتبلوراً طيلة سنوات الحرب العراقية الإيرانية ( 1980 – 1988 )، إذ بررت العديد من القوى الإسلامية انحيازها إلى الموقف الإيراني آنذاك باعتقادها أن إيران تحارب دولة الكفر البعثية، وهذه الحرب التي يقودها الخميني هي فاتحة المواجهة مع الكفر، والتي ستكون لها امتدادات أخرى، وربما تكون محاكاة لمفهوم (الفتوحات الإسلامية) وفقاً لأصحاب هذا الاتجاه. فيما بررت بعض القوى الإسلامية الأخرى تضامنها مع إيران باعتباره انحيازاً لمواجهة المؤامرة الصهيونية الأميركية على الثورة الإسلامية في إيران، إذ يعتقد أصحاب هذا الرأي أن الغرب الكافر بادر بتحريك عملائه في المنطقة لمواجهة الثورة الإسلامية، ولم يكن العراق آنذاك – من وجهة نظر هؤلاء – سوى أداة من صنيع الغرب الإمبريالي، مثله مثل بقية الأنظمة الحاكمة.
موقف القوميين المناهضين لإيران كان صادراً في جانب كبير منه من جانب إيديولوجي يتكئ في كثير من مقولاته على الإرث العدائي التاريخي بين العرب والفرس
ربما امتاز القوميون بموقف أكثر جلاء وجذرية حيال إيران الخمينية، والمعني في هذا السياق هو القوى القومية في الوطن العربي وليست الأنظمة والحكومات، مع التأكيد على أن ثمة قوى قومية أبقت على انحيازها لإيران نتيجة لارتباطاتها المباشرة بأنظمة حكم عربية، إلّا أن موقف القوميين المناهضين لإيران كان صادراً في جانب كبير منه من جانب إيديولوجي يتكئ في كثير من مقولاته على الإرث العدائي التاريخي بين العرب والفرس، ولعله من غير المُستغرب أن تكون معركتا (ذي قار والقادسية) معيناً زاخراً بالمشاعر التي تلهب الأحاسيس، بل ربما وجد بعض القوميين في مواجهة إيران استدراكاً لما قاله الشاعر الأعشى (ميمون بن قيس 570 م – 629 م ):
لو أنّ كلَّ مُعَدٍّ كان شاركنا في يوم ذي قار ما أخطاهمُ الشرفُ
ولعل كلا الموقفين السابقين، الداعم للمشروع الإيراني والمناهض له إنما ينبثق من مرجعيات إيديولوجية لا يمكن استبعادها في مواجهات كهذه، ويمكن تفهمها في حقبة زمنية كانت فيها الإيديولوجيات التقليدية ما تزال تحظى بحضور واضح، كما تجدر الإشارة إلى أن بعض القوى اليسارية ذات المرجعيات الماركسية لم تتردد في انحياز مواقفها لإيران، بعض منها بدوافع سياسية، لاعتقادها بجدّية العداء الإيراني لأميركا وإسرائيل، ما يمكن اعتباره دعماً للحلف المعادي للبرجوازية الغربية، ومعظم تلك القوى كانت تدور وما تزال في فلك محور الممانعة، وربما كان انحياز البعض بدوافع طائفية، ولا غرابة في ذلك، فالإيديولوجية الأممية قد تشهد في حالات كثيرة ارتكاسات نحو حالة من الولاءات البدائية، كحال العديد من القوى والأحزاب اليسارية العراقية التي لا تستطيع مغادرة ما تقرّه المرجعيات الدينية الشيعية، ولعل اللافت في جميع مواقف تلك القوى ، سواء المعادية أو المنحازة إلى إيران، هو أن مواقفها تجاهلت – بحكم أسبقية الإيديولوجيا – البعد الإنساني والأخلاقي في السياسات الإيرانية، فإيران في نظر من يؤيدها ليست سوى قاطرة للأمة الإسلامية نحو النصر واستعادة السيادة، وهي في نظر من يناهضها مصدر خطر على ثروات الأمة ومِنعتها، وهي بهذا تتساوى مع أي جهة استعمارية ذات مطامع في البلاد العربية.
إيران تسعى إلى الهيمنة المطلقة ليس على مقدرات البلدان الأخرى وثرواتها بل تريد أن تستثمر مصير الشعوب الأخرى في خدمة مشروعها
ويبدو أن معظم المواقف الراهنة حيال إيران، سواء المنحازة إليها أو الرافضة لها، ما تزال تشكل امتداداً للمواقف التقليدية الإيديولوجية، على الرغم من أن الترجمات الفعلية لسياسات إيران تؤكد أن نزوعها الشديد نحو السيطرة والهيمنة على الآخر لا يتماهى مع المنطق الاستعماري بمعناه التقليدي، ذلك أن الاستعمار القديم الذي طال معظم الدول العربية ودول العالم كان مدفوعاً بمصالح إقتصادية وعسكرية في غالب الأحيان، بهدف السيطرة على مقدرات الشعوب والسطوة على ثرواتها، وغالباً ما كان ينتهي الاستعمار باستنفاد مقوّماته ودواعيه، بل ربما انتهى في حالات كثيرة إلى تسويات وربما شراكات بين المُستعمِر والمُستَعمَر، ليس هذا – بالطبع – إشادة بمفهوم الاستعمار التقليدي بقدر ما هو تمييز بين سيئ وأسوأ، أمّا إيران فإنها لا تستهدف سواها من البلدان مدفوعةً بشهوة التسلّط الاقتصادي أو الهيمنة العسكرية فحسب، ولا ينتهي تسلطها بمجرد تحقيق مصالح ذات سمات محددة، بل ما تريده لا يمكن تأطيره بحدود معينة، فإيران تسعى إلى الهيمنة المطلقة ليس على مقدرات البلدان الأخرى وثرواتها بل تريد أن تستثمر مصير الشعوب الأخرى في خدمة مشروعها، ولتأكيد ذلك يمكن النظر إلى البلدان التي تخضع حكوماتها لسلطة إيران المباشرة، كالحالة اللبنانية مثلاً، إذ يتوجب على الشعب اللبناني أن يجوع ويشقى ويعاني من جميع أشكال الخراب وفاءً للعهود التي قطعها حزب الله بالتماهي مع أوامر طهران، كما ينبغي على الشعب السوري – وفقاً لهذا المنطق – أن يقبل بكل أشكال البؤس وألّا تقوم له قائمة للحفاظ على سلطة بشار الأسد الذي يضمن لإيران أن تبقى سوريا مجالاً حيوياً للنفوذ الإيراني التوسعي في المنطقة العربية، ولعل قيام الميليشيات الإيرانية بذبح أهالي بعض البلدات والقرى السورية بالسواطير في السنوات الأولى من عمر الثورة تأكيد واضح على أحقية إيران ليس بالبلاد السورية فحسب بل بمصير وحيوات السوريين أيضاً.
ولتحاشي سرد الأمثلة يمكن الإشارة إلى أن ما فعلته إيران في كل من سوريا ولبنان والعراق واليمن يفوق ما فعله الاستعمار التقليدي من خراب ودمار، وهذا ليس تفاضلاً بين مستعمر وآخر بل للدلالة على أن ما تواجهه شعوب المنطقة من جانب إيران لا يجسّد أخطاراً مرحلية محكومة بتحقيق مصالح مؤقتة، بل هي تحديات وجودية لا تنتهي إلا باستئصال أسبابها.
وجود إيران وازدهارها لا يتوقف على نهبها لثروات ومقدرات لبنان وسوريا والعراق، وهي كذلك ليست بحاجة إلى نفط الخليج، فلديها من النفط والغاز بقدر ما لدى الدول العربية، بل ما تريده هو السيطرة المطلقة والتحكم بمصير شعوب تلك المنطقة، كضامن وحيد لاستمرار حكام إيران في السلطة.
---------
تلفزيون سوريا