سلفي في مقام سيدي عبد الرحمن.. عنوان مقال كتبه صحافي مغمور في جريدة الوطن السعودية، يتخيل فيه حضور شاب سلفي، تلك الطقوس الصوفية التي يمارسها زوار ضريح سيدي عبد الرحمن في الجزائر، حيث يقارن بين الفكر الصوفي والثقافة السلفية، هذه الأخيرة التي وصفها بالثقافة الجرداء المسطحة التي لا تملك التعمق في الفكر. المقال انتشر بسرعة مذهلة في المنتديات السعودية والمشرقية، وأثار لغطا كبيرا لدى مستويات فكرية ودينية متعددة، وأُشبع انتقادات وتحليلات. وهذه الضجة الإعلامية اضطرت المسؤولين إلى إقالة رئيس تحرير الجريدة جمال خاشقجي، المحسوب على التيار الليبيرالي، وإبعاد رئيس صفحة الرأي وفصل كاتب المقال عن العمل.
أمام هذه العاصفة الإعلامية، من حقنا كجزائريين أن نطرح عددا من الأسئلة، في محاولة لفهم ما يدور حولنا من صراعات ثقافية وإيديولوجية ظلت مخفية عنا ثم فضحتها العولمة الإعلامية، فلماذا يثير سيدي عبد الرحمن كل هذا الرعب في الثقافات الأخرى؟ وهل التصوف بهذا الخطر الذي يهدد الكيانات؟ وإذا كان التصوف الجزائري يهدد السلفية، فلماذا تفتح الجزائر ذراعيها للفكر السلفي عبر الفضائيات والكتب والشيوخ المستوردين ومن خلال فتح المدارس الخاصة؟ وإذا كانت الكيانات السياسية تُروّج لتياراتها الدينية التي تتحالف معها وتُقصي الآخر تحجّجا بأمنها القومي، فأين عناصرنا الثقافية والروحية التي تضمن لنا أمننا القومي وهويتنا الوطنية؟ كل الوقائع تشير إلى أن الجزائر ومنذ بداية الثمانينيات، قد سمحت باستيراد التيارات الإخوانية والسلفية والتكفيريين والتبليغيين والقرآنيين وغيرها من الحركات الأصولية، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم (مثالاً لا حصرا، منع طلبة كلية الشريعة في قسنطينة عبد الحميد مهري من إلقاء محاضرة في ذكرى عيد الطالب في الجامعة).
هل من تأثير للثقافة الجزائرية على المشرق؟
المتجول في شوارع المدن الكبرى، كالعاصمة وقسنطينة ووهران، يلاحظ تأثرا واضحا للجزائريين بثقافة المشرق. فمن العباءة الخليجية التي أصبحت موضة في قسنطينة، إلى الأثاث الشامي (السوري) الذي غزا بيوت طبقة الأثرياء الجدد، إلى الأرجيلة والخيمة (لاحظوا التأثر بثقافة البداوة) التي تُزين صالونات الشاي والمطاعم والمقاهي، إلى الأغاني المشرقية التي تلازم الجزائريين في التلفزيون والإذاعات والمحلات والسيارات، إلى اللباس الأفغاني الذي يتميز به السلفيون، إلى مجالس التطبير واللطم في ذكرى إحياء عاشوراء. وهكذا، فإن الجزائري الذي لا يبعد عن أوروبا سوى بساعة من الطيران، يفضل مظاهر الحياة التي أنتجتها البداوة وقساوة الحياة القاحلة عن حياة الحضارة والعمران والخضار. وفي حين يتسابق المشرق الأكثر قربا إلى مدن الموت مثل كابول وكراتشي وموقاديشو إلى اعتناق عواصم الرخاء والإشباع في أوروبا وإلى بناء ناطحات السحاب واستعمال آخر التقنيات العلمية واحتضان الثقافة الأنجلوساكسونية، يجتهد الجزائري في ترييف المدن، ويصوم عن تعلم اللغات الأجنبية، ويركض خلف الثقافة الجرداء المسطحة حسب وصف كاتب المقال السعودي ابراهيم الألمعي، هذا الأخير لم يتأثر بالثقافة الجزائرية وهو في السعودية، وإنما زواجه من سيدة جزائرية وإقامته في الجزائر كانت وراء توسّع أفق قراءاته.
أتوقف هنا للإجابة على السؤال الذي طرحته آنفا هل من تأثير لنا على غيرنا؟ نعم، هناك تأثير وحيد، وينحصر في أغنية الراي! نعم، وأقولها بكل مرارة، إن تأثيرنا الوحيد على غيرنا لم يخرج عن دائرة هذه الأغنية. وهنا، أتحدث عن تاريخنا المعاصر، وأعرف أن الكثيرين سيخالفونني الرأي وسيستشهدون بأيام الثورة وما قبلها، إلا أنني أتحدث هنا عن جزائر القرن الواحد والعشرين أين تمتعض كاتبة مثل أحلام مستغانمي وتقول: كلما تعرّفتُ على أجنبي وعرف جنسيتي، إلا وسألني عن الشاب خالد.
ومادمنا نتحدث عن سيدي عبد الرحمن، فأغنية (عبد القادر يا بوعلام) التي أداها شباب الراي دخلت بيوت وقلوب المغاربيين والمشارقة على حد سواء قبل أن تصل إلى العالمية، ورفعت من بورصة هؤلاء الشباب، وفتحت لهم قاعات العرض وتلفزيونات العالم. هذه الأغنية وهي من التراث الجزائري، تتحدث في سطرين بلغة شعبية بسيطة عن عاشق (ضاق الحال عليه)، فاستنجد بالولي الصالح سيدي عبد الرحمن لعله يعالجه من جفاء الحبيب. والأغنية التي وصفت حال العاشق الولهان عبّرت عن المخيال الجمعي، الذي يلجأ إلى الأولياء الصالحين للتنفيس عن كربه. وفي الأغنية، جاء ذكر أسماء ثلاثة منهم، وهم سيدي عبد القادر، سيدي عبد الرحمن، وسيدي الهواري.
على الطرف النقيض، لم تنزل بركات سيدي عبد الرحمن الجزائري على الصحافي السعودي جمال خاشقجي مثلما نزلت على مطربي الراي، بل فتحت عليه أبواب الانتقادات التي وصلت حدّ التشفي على فقدانه لوظيفته. فمن هو سيدي عبد الرحمان الذي أثار حفيظة أنصار ما يسمى بالتيار السلفي وأطاح برأس صحافي يعتبره الكثيرون رمز التيار اللييرالي في السعودية؟
عبد الرحمن الثعالبي المولود بالجزائر (1385 م 785 ه) شيخ مجتهد، عكف على التدريس والتأليف. له قرابة مئة كتاب في التفسير والحديث والفقه واللغة والتاريخ. وتميزت فترته بكثرة الفتن في شمال إفريقيا والحروب بين الحكام والولاة، وهذا ما دفعه إلى التبحّر في الفكر الصوفي، في مرحلة شهدت إقبالا كبيرا على التصوف والتصديق بالكرامات والمعجزات وتقديس الأولياء على أساس النّسب. ففي هذا القرن، أي الثامن للهجرة، كانت قبائل بنو مرين مُستولية على حكم المغرب الأقصى، وسيطرت قبائل بنو عبد الواد على المغرب الأوسط، أما الحفصيون، فاستولوا على تونس إثر سقوط دولة الموحدين التي كانت تحكم شمال إفريقيا.
بعد وفاته، اكتسب قبر الشيخ عبد الرحمن مكانة خاصة لدى أتباعه، حيث لايزال الآلاف منهم يتبركون به حتى يومنا هذا. ففي حي القصبة العتيق وسط العاصمة، يرقد الشيخ في ضريح خشبي مُرصّع بالذهب ومغطى بالحرير تحت قبة مزينة بالخزف النادر وثريات البلور.
لاأريد هنا أن أبحث في جذور ثقافة الإقصاء التي تلازمنا، كاعتبار السلفييين بأن التصوف وزيارة القبور زندقةً وشركا بالله، لأن أعلام الفكر الصوفي أنفسهم يعتبرون أن هذا التقديس نوع من التطرف لكنه ليس شركا، كما لا أريد الخوض في الصراعات المذهبية التي امتدت عبر التاريخ الإسلامي، لأن النتيجة التي سنصل إليها ستكون واحدة:
إنه جدل قديم يتجدد، وصراع سياسي واجتماعي مغلف بالدين يتأجّج. فهنالك من الباحثين من يُرجع تاريخ هذه الصراعات إلى سقيفة بني ساعدة، وآخرون يرون بأنها بدأت منذ معركة صفين، أي في السنة الأربعين للهجرة. ومادام باب الاجتهاد في الإسلام مغلق والنقد العقلي يُعتبر خروجا عن الجماعة، فإننا سنستمر في دفع ثمن هذه الصراعات وسنبقى دائما خارج التاريخ ومجرد طفيليين على بقية الأمم والشعوب.
شباب الراي ينتصر على المثقفين
محور موضوعي هنا، لماذا ينجح المطربون والممثلون وأهل الفن في الجزائر عموما في تمرير أفكار أخطر وأعمق ولا ينتبه لهم أحد، فيما يتقاعس المثقفون والمفكرون والكتاب عن التأثير في الجزائريين، فما بالكم بغير الجزائريين؟ قد يجادل أحدكم بأن مطربي الراي استعملوا الطريقة الأسهل، وهي الاعتماد على لغة الموسيقى للتأثير على غيرنا. أقول نعم، فمغني الراي جعل الملايين تهتف ببركة سيدي عبد الرحمن واستطاع أن يتسلل إلى قلوبهم من خلال الموسيقى. وفي السعودية أيضا، استطاع الممثل ناصر القصيبي في سلسلته (طاش ما طاش) كسر عدة طابوهات، وتمكن من تمريرها إلى الرأي العام السعودي والعربي من خلال الكوميديا والفن. لكن، إضافة إلى القصيبي، هنالك الآلاف من الكتاب والشيوخ والأثرياء وصناع الرأي العام المروّجين للفكر السلفي. فأين هؤلاء في الجزائر؟ أين الأثرياء الذين يستثمرون أموالهم في طباعة الكتب الجادة وفي ترجمة التراث العالمي وإطلاق الفضائيات في الخارج، وبالتالي صناعة رأي عام جزائري يدافع عن ثقافته ضمن حدود القطر كي يضمن سلامة البنية الاجتماعية والثقافية للدولة؟
الجهل المقدس
عنوان طرحه قبل أيام المفكر هاشم صالح، حيث اعتبر أن أهم سبب يقف وراء تخلفنا وهروبنا من الواقع إلى التراث خوفا من مواجهة المستقبل هو الجهل المقدس، حيث يعتبر الكثيرون أن الجهل بثقافات الشعوب المتقدمة، سواء شعوب جنوب شرق آسيا أو الغرب، يدخل ضمن القاعدة التراثية (علمٌ لا ينفع وجهلٌ لا يضر)، بل إن المُغالين يعتبرون أن الجهل بفلسفة أرسطو أو نيتشه وموسيقى بيتهوفن وغيرها من العلوم (الدنيوية) هو امتثال حقيقي للدين الإسلامي، وأن العلم الوحيد الذي يُنجي صاحبه في الدنيا والآخرة هو القرآن والسنة، وماعدا ذلك، فهو تضييع للوقت، لأن أسرار الكون والحلول لمشكلاته كلها موجودة في ديننا، ولا داعي للبحث عن الحلول في ثقافات أخرى.
نظرية الجهل المقدس بدأ يتخلص منها عرب المشرق بالانغماس في تطوير التعليم، واستقدام جامعات أجنبية إلى أراضيهم، ومحاربة أفكار التطرف التي تمنع المرأة من الاختلاط (تابعوا فتوى جواز الاختلاط التي أطلقها الشيخ أحمد الغامدي، وهو رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مكة المكرمة)، وملاحقة مطلقي فتاوى التكفير، وهذه الحملة تقف وراءها هيئات ومجالس رسمية مرتبطة بالدولة، وهذه هي الهيئات التي يحتاجها النظام الرسمي عندنا ويحتاج إلى تفعيلها ودعمها للقضاء على الظلامية أولا، ثم نشر أفكار التسامح والتنوير والانفتاح على الثقافات الأخرى وهي على مرمى حجر منا. وعندما تنتشر ثقافة الانفتاح والحوار، تنبثق عناصر الهوية الجزائرية بكل تنوعاتها واختلافاتها. وإذا ترسخت، فستتحول الجزائر إلى منارة تُشع على الآخرين،ولن ينتصر مطربو الراي على مثقفينا مرة أخرى.
-----------------------------
الخبر الاسبوعي
أمام هذه العاصفة الإعلامية، من حقنا كجزائريين أن نطرح عددا من الأسئلة، في محاولة لفهم ما يدور حولنا من صراعات ثقافية وإيديولوجية ظلت مخفية عنا ثم فضحتها العولمة الإعلامية، فلماذا يثير سيدي عبد الرحمن كل هذا الرعب في الثقافات الأخرى؟ وهل التصوف بهذا الخطر الذي يهدد الكيانات؟ وإذا كان التصوف الجزائري يهدد السلفية، فلماذا تفتح الجزائر ذراعيها للفكر السلفي عبر الفضائيات والكتب والشيوخ المستوردين ومن خلال فتح المدارس الخاصة؟ وإذا كانت الكيانات السياسية تُروّج لتياراتها الدينية التي تتحالف معها وتُقصي الآخر تحجّجا بأمنها القومي، فأين عناصرنا الثقافية والروحية التي تضمن لنا أمننا القومي وهويتنا الوطنية؟ كل الوقائع تشير إلى أن الجزائر ومنذ بداية الثمانينيات، قد سمحت باستيراد التيارات الإخوانية والسلفية والتكفيريين والتبليغيين والقرآنيين وغيرها من الحركات الأصولية، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم (مثالاً لا حصرا، منع طلبة كلية الشريعة في قسنطينة عبد الحميد مهري من إلقاء محاضرة في ذكرى عيد الطالب في الجامعة).
هل من تأثير للثقافة الجزائرية على المشرق؟
المتجول في شوارع المدن الكبرى، كالعاصمة وقسنطينة ووهران، يلاحظ تأثرا واضحا للجزائريين بثقافة المشرق. فمن العباءة الخليجية التي أصبحت موضة في قسنطينة، إلى الأثاث الشامي (السوري) الذي غزا بيوت طبقة الأثرياء الجدد، إلى الأرجيلة والخيمة (لاحظوا التأثر بثقافة البداوة) التي تُزين صالونات الشاي والمطاعم والمقاهي، إلى الأغاني المشرقية التي تلازم الجزائريين في التلفزيون والإذاعات والمحلات والسيارات، إلى اللباس الأفغاني الذي يتميز به السلفيون، إلى مجالس التطبير واللطم في ذكرى إحياء عاشوراء. وهكذا، فإن الجزائري الذي لا يبعد عن أوروبا سوى بساعة من الطيران، يفضل مظاهر الحياة التي أنتجتها البداوة وقساوة الحياة القاحلة عن حياة الحضارة والعمران والخضار. وفي حين يتسابق المشرق الأكثر قربا إلى مدن الموت مثل كابول وكراتشي وموقاديشو إلى اعتناق عواصم الرخاء والإشباع في أوروبا وإلى بناء ناطحات السحاب واستعمال آخر التقنيات العلمية واحتضان الثقافة الأنجلوساكسونية، يجتهد الجزائري في ترييف المدن، ويصوم عن تعلم اللغات الأجنبية، ويركض خلف الثقافة الجرداء المسطحة حسب وصف كاتب المقال السعودي ابراهيم الألمعي، هذا الأخير لم يتأثر بالثقافة الجزائرية وهو في السعودية، وإنما زواجه من سيدة جزائرية وإقامته في الجزائر كانت وراء توسّع أفق قراءاته.
أتوقف هنا للإجابة على السؤال الذي طرحته آنفا هل من تأثير لنا على غيرنا؟ نعم، هناك تأثير وحيد، وينحصر في أغنية الراي! نعم، وأقولها بكل مرارة، إن تأثيرنا الوحيد على غيرنا لم يخرج عن دائرة هذه الأغنية. وهنا، أتحدث عن تاريخنا المعاصر، وأعرف أن الكثيرين سيخالفونني الرأي وسيستشهدون بأيام الثورة وما قبلها، إلا أنني أتحدث هنا عن جزائر القرن الواحد والعشرين أين تمتعض كاتبة مثل أحلام مستغانمي وتقول: كلما تعرّفتُ على أجنبي وعرف جنسيتي، إلا وسألني عن الشاب خالد.
ومادمنا نتحدث عن سيدي عبد الرحمن، فأغنية (عبد القادر يا بوعلام) التي أداها شباب الراي دخلت بيوت وقلوب المغاربيين والمشارقة على حد سواء قبل أن تصل إلى العالمية، ورفعت من بورصة هؤلاء الشباب، وفتحت لهم قاعات العرض وتلفزيونات العالم. هذه الأغنية وهي من التراث الجزائري، تتحدث في سطرين بلغة شعبية بسيطة عن عاشق (ضاق الحال عليه)، فاستنجد بالولي الصالح سيدي عبد الرحمن لعله يعالجه من جفاء الحبيب. والأغنية التي وصفت حال العاشق الولهان عبّرت عن المخيال الجمعي، الذي يلجأ إلى الأولياء الصالحين للتنفيس عن كربه. وفي الأغنية، جاء ذكر أسماء ثلاثة منهم، وهم سيدي عبد القادر، سيدي عبد الرحمن، وسيدي الهواري.
على الطرف النقيض، لم تنزل بركات سيدي عبد الرحمن الجزائري على الصحافي السعودي جمال خاشقجي مثلما نزلت على مطربي الراي، بل فتحت عليه أبواب الانتقادات التي وصلت حدّ التشفي على فقدانه لوظيفته. فمن هو سيدي عبد الرحمان الذي أثار حفيظة أنصار ما يسمى بالتيار السلفي وأطاح برأس صحافي يعتبره الكثيرون رمز التيار اللييرالي في السعودية؟
عبد الرحمن الثعالبي المولود بالجزائر (1385 م 785 ه) شيخ مجتهد، عكف على التدريس والتأليف. له قرابة مئة كتاب في التفسير والحديث والفقه واللغة والتاريخ. وتميزت فترته بكثرة الفتن في شمال إفريقيا والحروب بين الحكام والولاة، وهذا ما دفعه إلى التبحّر في الفكر الصوفي، في مرحلة شهدت إقبالا كبيرا على التصوف والتصديق بالكرامات والمعجزات وتقديس الأولياء على أساس النّسب. ففي هذا القرن، أي الثامن للهجرة، كانت قبائل بنو مرين مُستولية على حكم المغرب الأقصى، وسيطرت قبائل بنو عبد الواد على المغرب الأوسط، أما الحفصيون، فاستولوا على تونس إثر سقوط دولة الموحدين التي كانت تحكم شمال إفريقيا.
بعد وفاته، اكتسب قبر الشيخ عبد الرحمن مكانة خاصة لدى أتباعه، حيث لايزال الآلاف منهم يتبركون به حتى يومنا هذا. ففي حي القصبة العتيق وسط العاصمة، يرقد الشيخ في ضريح خشبي مُرصّع بالذهب ومغطى بالحرير تحت قبة مزينة بالخزف النادر وثريات البلور.
لاأريد هنا أن أبحث في جذور ثقافة الإقصاء التي تلازمنا، كاعتبار السلفييين بأن التصوف وزيارة القبور زندقةً وشركا بالله، لأن أعلام الفكر الصوفي أنفسهم يعتبرون أن هذا التقديس نوع من التطرف لكنه ليس شركا، كما لا أريد الخوض في الصراعات المذهبية التي امتدت عبر التاريخ الإسلامي، لأن النتيجة التي سنصل إليها ستكون واحدة:
إنه جدل قديم يتجدد، وصراع سياسي واجتماعي مغلف بالدين يتأجّج. فهنالك من الباحثين من يُرجع تاريخ هذه الصراعات إلى سقيفة بني ساعدة، وآخرون يرون بأنها بدأت منذ معركة صفين، أي في السنة الأربعين للهجرة. ومادام باب الاجتهاد في الإسلام مغلق والنقد العقلي يُعتبر خروجا عن الجماعة، فإننا سنستمر في دفع ثمن هذه الصراعات وسنبقى دائما خارج التاريخ ومجرد طفيليين على بقية الأمم والشعوب.
شباب الراي ينتصر على المثقفين
محور موضوعي هنا، لماذا ينجح المطربون والممثلون وأهل الفن في الجزائر عموما في تمرير أفكار أخطر وأعمق ولا ينتبه لهم أحد، فيما يتقاعس المثقفون والمفكرون والكتاب عن التأثير في الجزائريين، فما بالكم بغير الجزائريين؟ قد يجادل أحدكم بأن مطربي الراي استعملوا الطريقة الأسهل، وهي الاعتماد على لغة الموسيقى للتأثير على غيرنا. أقول نعم، فمغني الراي جعل الملايين تهتف ببركة سيدي عبد الرحمن واستطاع أن يتسلل إلى قلوبهم من خلال الموسيقى. وفي السعودية أيضا، استطاع الممثل ناصر القصيبي في سلسلته (طاش ما طاش) كسر عدة طابوهات، وتمكن من تمريرها إلى الرأي العام السعودي والعربي من خلال الكوميديا والفن. لكن، إضافة إلى القصيبي، هنالك الآلاف من الكتاب والشيوخ والأثرياء وصناع الرأي العام المروّجين للفكر السلفي. فأين هؤلاء في الجزائر؟ أين الأثرياء الذين يستثمرون أموالهم في طباعة الكتب الجادة وفي ترجمة التراث العالمي وإطلاق الفضائيات في الخارج، وبالتالي صناعة رأي عام جزائري يدافع عن ثقافته ضمن حدود القطر كي يضمن سلامة البنية الاجتماعية والثقافية للدولة؟
الجهل المقدس
عنوان طرحه قبل أيام المفكر هاشم صالح، حيث اعتبر أن أهم سبب يقف وراء تخلفنا وهروبنا من الواقع إلى التراث خوفا من مواجهة المستقبل هو الجهل المقدس، حيث يعتبر الكثيرون أن الجهل بثقافات الشعوب المتقدمة، سواء شعوب جنوب شرق آسيا أو الغرب، يدخل ضمن القاعدة التراثية (علمٌ لا ينفع وجهلٌ لا يضر)، بل إن المُغالين يعتبرون أن الجهل بفلسفة أرسطو أو نيتشه وموسيقى بيتهوفن وغيرها من العلوم (الدنيوية) هو امتثال حقيقي للدين الإسلامي، وأن العلم الوحيد الذي يُنجي صاحبه في الدنيا والآخرة هو القرآن والسنة، وماعدا ذلك، فهو تضييع للوقت، لأن أسرار الكون والحلول لمشكلاته كلها موجودة في ديننا، ولا داعي للبحث عن الحلول في ثقافات أخرى.
نظرية الجهل المقدس بدأ يتخلص منها عرب المشرق بالانغماس في تطوير التعليم، واستقدام جامعات أجنبية إلى أراضيهم، ومحاربة أفكار التطرف التي تمنع المرأة من الاختلاط (تابعوا فتوى جواز الاختلاط التي أطلقها الشيخ أحمد الغامدي، وهو رئيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مكة المكرمة)، وملاحقة مطلقي فتاوى التكفير، وهذه الحملة تقف وراءها هيئات ومجالس رسمية مرتبطة بالدولة، وهذه هي الهيئات التي يحتاجها النظام الرسمي عندنا ويحتاج إلى تفعيلها ودعمها للقضاء على الظلامية أولا، ثم نشر أفكار التسامح والتنوير والانفتاح على الثقافات الأخرى وهي على مرمى حجر منا. وعندما تنتشر ثقافة الانفتاح والحوار، تنبثق عناصر الهوية الجزائرية بكل تنوعاتها واختلافاتها. وإذا ترسخت، فستتحول الجزائر إلى منارة تُشع على الآخرين،ولن ينتصر مطربو الراي على مثقفينا مرة أخرى.
-----------------------------
الخبر الاسبوعي