تلقي الطائرات الحربية للنظام السوري حمولتها من القنابل العنقودية، عقب انتهائهم من عرض إحدى مسرحيات الدعم النفسي للأطفال، ويصاب فريق المتطوعين بإصابات متباينة في الخطورة، ينجم عنها استشهاد غيث القادم من السويداء، وعندما يحاول الفريق دفنه في أرض درزية بناءً على رغبة جدته، يصطدمون بتبعية شيخ العقل للنظام، وكذلك يرفض الإسلاميون الجدد أتباع جبهة النصرة دفنه في أرض إسلامية، وهنا يتضاعف الشكل المأساوي للسرد!ومع استمرار مضخة عنف النظام بشكل يومي وتنامي قوة الثورة المضادة عبر الفصائل والمنظمات المدعومة بأجندات خارجية، يبدأ فريق العمل السلمي يفقد قوته وقدرته، إذ يقتل ويعتقل ويهجر. حتى قصص الحب التي ولدت في هذا الزمن تنتهي بشكل مأساوي على أنغام أغنية كردية. وتتزامن بطريقة -بولفونية- مع هذه القصص الواقعية، قصة أسطورية لرجل يولد من رحم الأرض، يحمل شجرته المضيئة ليغرسها وسط تجمع بشري متنوع، يهدد بشجرته شجرة متيبسة آمن بها السابقون. وهنا يتوازى الصراع الواقعي والأسطوري خلال السرد الروائي.
شخصية ثورية منجزة
تعد رواية (رقصة الشامان الأخيرة)، من وجهة نظري الشخصية، إنجازاً روائياً متنوع أساليب السرد وعملاً إبداعياً جيداً، قدم فيها الروائي عبد الرحمن الحلاق رؤى إنسانية وجمالية رائعة للثورة السورية على نظام طائفي، وتجربة درامية على الطريقة الشكسبيرية، صوّر السرد بشكل واقعي يزخر بالحرارة والحدّة، وعالجت صورة الموت الجمعي بأبشع صور ارتكبها نظام طائفي، وعادت بنا إلى زمن قابيل حين يقتل شقيقه هابيل؛ هنا الآن تنعدم قيم الجمال والخير والحياة، ويحل بديلاً عنها صور الموت والقهر والظلم لشعب تحدى بحناجره القنابل العنقودية.
تطرح الرواية إشكالية الانتماء للحرية والانتماء المضاد لحكم الفرد الطاغية، في حياة جيل الشباب والصبايا الحالم المتسلح بالعلم ضد الجهل، ويحاول أن يخلق من واقع مدجج بالمأساة والضياع والفتنة…واقعاً مدججاً بالخير والحياة والجمال… مستثمرة الرواية في سردها بدايات الثورة السورية المضيئة في مدينة حلب.
(غيث) ابن مدينة السويداء، الذي أحب جدته التي اعتنت به بعد رحيل ابنتها الفاجع، غيث عاشق حكايات الجدة التي تلعب دور البلد والأم، حكايات الجدة زرعت في الولد حب البلد "وجدت نفسي وحيداً في السويداء، ومن كنت أحبهم من الأصدقاء هم الآن في صفوف الشبيحة، يحملون الهراوات والبواريد يهددون كل من تسول له نفسه التظاهر، كيف يتحول الإنسان هكذا بشكل مفاجئ؟". وفي موطئ آخر من السرد، يكمل: "يا ستي. حكيت لي حكايات كثيرة جداً عن بطولات ولاد الجبل في المزرعة، اليوم دورنا كي يتحدث أولادنا وأحفادنا عن بطولاتنا". لتبدأ بعدها قصة هذا البطل، الذي يعيش المأساة على أرضه لحظة بلحظة، يتجرعها قطرةً قطرة، بدءاً بالحرب التي تشنها آلة حرب النظام الموغلة في الوحشية الطائفية، تصبح السماء وتحديداً في مدينة حلب الشرقية تمطر البراميل والقنابل العنقودية والسكود، وراجمات الصواريخ تحصد الأرواح، والقناصة المنتشرون في كل مبنى يحصدون حيوات المدنيين الأبرياء، ثم تنقلنا الرواية للصراعات بين فريق المتطوعين والفصائل المسلحة الإسلامية المدعومة من بعض إمارات الخليج، ومنظمات تحظى بدعم أجنبي، وهنا صراعات المجتمع والتطرف والسلطة.
صراع حلب مع الثورة المضادة!
يضع الكاتب الروائي عبد الرحمن حلاق، شخصيته الرئيسية (غيث) في أتون الثورة السورية في فترة حرجة في تاريخ سوريا المعاصر، وفي كل اللحظات الحاسمة التي عاشها الشعب السوري الحر، الذي دفع الثمن باهظاً حينما طالب بحريته ودافع عن نفسه في وجه إجرام طائفي بأبشع الصور، إحداها قتل الناس في أحياء حلب الشرقية بسيوف كُتب عليها اسم الحسين، والقتلى طبعاً من أحفاد يزيد ومعاوية، الذين يعتبرهم العلويون والشيعة بالعموم "قتَلة الحسين"! جريمة نسيها حتى مدوِّنو التاريخ، ندفع ثمنها حتى هذا اليوم "لكنه زرع فينا خوفاً جديداً، مفاده الخوف من زوال السلطة فبزوالها سيعيدنا أهل السنة ثانيةً إلى زرائب الأبقار، بهذا الخوف أيقظ حافظ الأسد في الطائفة روح الثأر والانتقام والتشبث بالسلطة مهما يكون الثمن. أحداث حماة كانت وسيلته في ذلك".
المجتمع السوري الذي دفع ثمناً باهظاً لطرد جيش النظام الطائفي من حلب الشرقية، ارتُكبت بحقه أخطاء فادحة من عدم الحفاظ على أمواله وممتلكاته التي تعرضت للسطو من كلا طرفي الصراع، وصعوبة بناء مجتمع حديث تسوده قيم الوطنية والمثل الديمقراطية والسماحة والعدل…واختلط الحابل بالنابل حيث الفتنة الكبرى بين إسلامي وعلماني بين فهم خاطئ للدين والتاريخ والتراث؛ هنا يتجلى الصراع بين"الثورة"و "الثورة المضادة". وغيث هو النموذج السوري الهادئ والمسالم، حيث تنجز هذه الصورة لشخصيته الروائية من بداية الأحداث حتى نهايتها.
وحدات سردية متناوبة
الرواية في عمومها تتألف من وحدات سردية، يتناوب أبطالها الثمانية على زمام السرد، ولكنها تسهب أكثر كما أسلفنا عن شخصية (غيث) الأكثر إنجازاً ورمزية في تصوري النقدي، وتتعلق هذه الوحدات السردية بوحدات سردية أسطورية، ولا سيما في الثلث الأول من الرواية حيث الإسهاب بالحديث عن (غيث) و(خالد) و(صباح).ويمكن للقارئ أن يلمس أن الرواية من الناحية الإيقاعية في الثلثين الأولين، كان يتنامى شيئاً فشيئاً، أما في الثلث الأخير، فقد أخذ الإيقاع بعداً جمالياً تراجيدياً مختلفاً، تميز بحدة التوتر والشاعرية القصوى.
-(رقصة الشامان الأخيرة) صادرة عن دار الفراشة في الكويت (2021)، وتقع في 223 صفحة من القطع المتوسط.