نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

المهمة الفاشلة لهوكستين

23/11/2024 - حازم الأمين

العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب

17/11/2024 - العميد الركن مصطفى الشيخ

إنّه سلام ما بعده سلام!

17/11/2024 - سمير التقي

( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )

13/11/2024 - عبد الباسط سيدا*

طرابلس "المضطهدة" بين زمنين

13/11/2024 - د.محيي الدين اللاذقاني

اليونيسيف ومافيا آل كابوني دمشق

12/11/2024 - عبد الناصر حوشان


( دفع فاتورة الحرب: تحوُّلات القطاع الخاص في سورية )





تعرَّض القطاع الخاص في سورية، كما العديد من جوانب الحياة في هذا البلد، لأضرار وخسائر هائلة نتيجة النزاع المستمر منذ عام 2011، وأصبحت العوامل التي تمنع تعافي القطاع الخاص في سورية معقدة ومتشابكة، وبات اليوم عالقاً بين السياسات الداخلية المتخبطة الرامية للتعامل مع شح الموارد وإدارة الأزمة، ومطرقة العقوبات الخارجية. كما أن القطاع الخاص في سورية لم يعد يمثل مجرد نسخة مصغرة من ماضيه، بل تحوَّل إلى ظاهرة جديدة تختلف في التعاملات، والثقافة التجارية، وحتى في الشخصيات التي تتصدَّره.



نظرة عامة على القطاع الخاص في سورية:
إثر وصول الرئيس بشار الأسد للسلطة عام 2000 وشروعه بعملية إصلاح وتحديث للاقتصاد السوري، كما عُرفت في حينه، أعطت الدولة السورية حيّزاً أكبر للقطاع الخاص مما أسهم في نموه وتعاظم مساهمته في الاقتصاد الوطني بدرجة كبيرة، فسُمِحَ لأول مرة بإنشاء مصارف وشركات تأمين وشركات طيران وجامعات خاصّة، وخُفِّفَت القيود عن التعاملات بالعملة الصعبة بعد أن كانت في معظمها جُرماً يعاقب عليه القانون. كما وُحِّدَ سعر الصرف الرسمي لليرة السورية مقابل الدولار الأمريكي مما سهل المعاملات التجارية، وأدى لانتعاش الاستيراد والتصدير.
وعشية الحرب السورية، وبعد عقد من تحرير الاقتصاد، استحوذ قطاع الخدمات على حوالي 60% من الناتج القومي المحلي في عام 2010، فيما تقاسم القطاعان الصناعي والزراعي الحصة المتبقية، إلا أن حصة النشاط التصنيعي دون احتساب الصناعات الاستخراجية (أي النفط والغاز) بلغت 3% فقط من الناتج القومي المحلي عام 2010. وفيما لا توجد مؤشرات إحصائية موثوقة عن نسبة مساهمة القطاع الخاص في الناتج القومي المحلي في تلك الفترة، إلا أن هذا القطاع بشقيه المنظم وغير المنظم كان يُشغّل 73% من تعداد العاملين في سورية عام 2010. أي أن القطاع الخاص كان الرافعة الأساسية للنشاط الاقتصادي في البلاد والمحرك الأساسي للنمو الذي تحقق مع مطلع القرن الحادي والعشرين، فوفقاً لأرقام البنك الدولي، نما إجمالي الناتج المحلي السوري بين عامي 2000 و2010 بمعدل 4.3% سنوياً بالقيمة الحقيقية. وجاء هذا النمو، وفقاً للبنك، مدفوعاً "بالكامل تقريباً" من القطاعات غير النفطية.
لعل أهم مزية بنيوية للقطاع الخاص في سورية عشية الحرب هو غلبة المؤسسات المتوسطة والصغيرة على معظم النشاط الاقتصادي الخاص، بنسبة تفوق المتوسط العالمي البالغ حوالي 90% وفقاً للبنك الدولي. إذ بلغت حسب المصادر الرسمية نسبة الفعاليات الاقتصادية المشغّلة لأقل من 5 عمال 96% من مجمل الفعاليات الاقتصادية الخاصة عام 2011، وتلك التي تشغّل أقل من عشر عمال 97.5%، فيما بلغت نسبة الفعاليات المشغّلة لأقل من خمسين عاملاً 98%. أما في قطاع التصنيع، شكلت الفعاليات التي تحوي عاملين أو أقل ما نسبته 99% من المؤسسات التصنيعية الخاصة عام 2008، مما يمكننا من القول إن الاقتصاد السوري عشية الحرب كان اقتصاد ورش وليس اقتصاد مصانع.
وفي خلال النزاع المستمر من عام 2011، تعرَّض القطاع الخاص في سورية لأضرار هائلة نتيجة الخسائر المباشرة في رأس المال والقدرات الإنتاجية والقوة العاملة، إضافة إلى انفلات التضخم وتدهور العملة المحلية، وشح مصادر الطاقة، وتراجع احتياطيات سورية من النقد الأجنبي، وتقطُّع أوصال البلاد نتيجة وقوع أجزاء منها تحت سيطرة قوى مختلفة، وغيرها من العوامل. وعلى الرغم من غياب البيانات والأرقام الدقيقة، فإنَّه من الممكن القول إن القطاع الخاص في سورية انكمش بنسبة كبيرة، بدرجة توازي أو ربما تزيد عن النمو السلبي للناتج القومي الإجمالي، والذي تراجع بأكثر من 50% بين عامي 2011 و2020. أما فيما يتعلق بهروب رؤوس الأموال من سورية، ومع عدم وجود أي أرقام دقيقة حول الموضوع، تكفي الإشارة إلى تصريح للرئيس السوري عام 2021، أشار فيه إلى وجود 40 إلى 60 مليار دولار من الأموال السورية (الخاصة) العالقة في لبنان نتيجة لأزمة القطاع المصرفي فيه، وهو رقم يشكل عدة أضعاف الناتج المحلي لسورية في العام نفسه، الذي قدَّره البنك الدولي بحوالي تسعة مليارات دولار أمريكي.
العقوبات الغربية :
بلغت العقوبات الاقتصادية التي فُرضت على سورية، من قبل الولايات المتحدة وأوروبا بعد الانتفاضة الشعبية، مستويات غير مسبوقة من الشدة. تكوَّن نظام العقوبات الأمريكي، الذي بُدء فرضه في عام 2011، من مجموعة أوامر تنفيذية وقَّعها الرئيس الأمريكي في حينه باراك أوباما، واستهدفت شخصيات وكيانات تابعة أو داعمة للحكومة السورية من ضمنها مصرف سورية المركزي، كما حرّمت أي استثمارات أمريكية في سورية واستيراد المشتقات النفطية السورية أو التداول بها ومنعت أي فرد أو كيان أمريكي من الانخراط في معاملات تجارية مع الحكومة السورية أو كيانات مرتبطة بها، وتبع ذلك إخراج سورية من منظومة "السويفت" العالمية للتحويل المالي.
كما فرضت الولايات المتحدة قيوداً على تصدير أو إعادة تصدير المعدات والتقنيات والبرمجيات ذات المنشأ الأمريكي أو التي تدخل مواد مصنّعة أمريكياً في تركيبتها إلى سورية، خاصة المواد التي تعتبر ذات استخدام مزدوج (مدني وعسكري). ثم أتى قانون قيصر عام 2020، وهو تشريع صادر عن الكونغرس لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد، ليشكل نقلة نوعية في العقوبات المفروض على سورية، إذ فرض عقوبات على أي طرف ثالث (غير أمريكي) يتعامل مع الحكومة السورية. ورافق صدور هذا القانون تشديد غير مسبوق على التعاملات المتعلقة بسورية، وارتفاع كبير بإجراءات "الامتثال المفرط" و"الحد من المخاطر" من قبل المصارف والشركات الأجنبية التي كانت حتى حينه تتعامل مع السوق السورية، بما فيها تلك التي من دول "صديقة" مثل روسيا والصين؛ مما أدى لانسحاب العديد منها وإيقاف تلك التعاملات. فيما بقيت، أقلّه على الورق، التعاملات المتعلقة بالغذاء والدواء ونشاطات المنظمات الدولية الإنسانية خارج دائرة العقوبات الأمريكية.
وعلى عكس الولايات المتحدة، لم يفرض الاتحاد الأوروبي "عقوبات شاملة" (comprehensive sanctions) على سورية؛ إذ ركزت العقوبات الأوروبية على مصرف سورية المركزي وقطاع الطاقة السوري، إضافة لاستهداف تعاملات تجارية وأفراد وكيانات محددة. وجمّد الاتحاد الأوروبي أصولاً للحكومة السورية ومصارفها كانت توجد تحت سلطته القانونية إبان اندلاع النزاع في سورية عام 2011. وجدد الاتحاد الأوروبي هذه العقوبات سنوياً منذ فرضها.
أهم الآثار والتداعيات على القطاع الخاص :
تواجه عمليات التحويل المالي عبر المصارف وشركات التحويل السورية الخاصة (بحكم العقوبات المباشرة على المصارف العامة) معوقات كثيرة نتيجة العقوبات. وسيتم الحديث هنا عن التعاملات المتعلقة بالسلع التي لا تشملها العقوبات نظرياً عبر المصارف الخاصة غير المعاقبة، إذ من المعروف أن كلّ المصارف السورية الخاصة مملوكة لمصارف لبنانية وخليجية وأردنية وقادرة على الاستناد في غالب الأحيان للمصارف الوسيطة للبنوك الأم، إلا أن أكثر ما يُعقد عمليات التحويل للفعاليات الخاصة والتي تملك حسابات بالنقد الأجنبي بهذه المصارف هو ما يعرف بالامتثال المفرط من قبل المصارف والشركات الأجنبية التي تتعامل مع الجهات السورية[1]، وهو التقيّد الذي ازداد بشكل غير مسبوق بعد صدور قانون قيصر عام 2020.
ولتخطي هذه العواقب يترتب على الفاعلين توظيف خبرات قانونية قد تكون تكلفتها أعلى من المرابح المرجوة من العمل، خاصةً بالنسبة للشركات ذات الحجم الصغير. ومع مرور سنوات الأزمة والانكماش الاقتصادي الذي رافقها، أصبحت السوق السورية أصغر من أن تستحق المخاطرة بخرق العقوبات حتى في القطاعات المعفية. وتنسحب هذه المشكلات على مختلف فعاليات القطاع الخاص من الشركات الكبيرة، وحتى تلك المملوكة لأفراد (شركات تصميم وخدمات مواقع الانترنت على سبيل المثال). شجَّعت هذه العوائق زيادة اعتماد الفاعلين على قنوات الظل التي يمكن أن تُعرُّضهم للمساءلة في الداخل والخارج، بالإضافة إلى كلف أكبر تُنتقل بدورها للمستهلك من طريق زيادة الأسعار.
بالإضافة إلى صعوبات التحويلات المالية، تفرض العقوبات قيوداً على الشحن إلى سورية والتأمين وإعادة التأمين، ويلجأ الكثير من رجال الأعمال والتجار إلى الشحن عبر موانئ دول مجاورة مثل العقبة، وبيروت، مما يزيد من الكلف والتي تُنقَل للمستهلك عبر زيادة أسعار السلع[2]. كما أن الحاجة للحصول على تراخيص التصدير للتقنيات ذات المنشأ الأمريكي والأوروبي يمنع فعاليات القطاع الخاص في سورية من الوصول للتقنيات والبرمجيات الحديثة في العديد من المجالات. يُقابِل هذه المخاطر الانهيار المتواصل لقيمة العملة الوطنية، والانخفاض الكبير في القدرة الشرائية للمستهلك السوري؛ وكل ذلك يؤدي إلى انخفاض الطلب على الخدمات والبضائع المقدمة من القطاع الخاص. ولا تصعب مُلاحظة أن السنوات الأخيرة شهدت حركة إغلاق وتصفية أعمال لكثير من الفعاليات الخاصة على مختلف أحجامها في العاصمة دمشق وحلب وغيرها من المدن السورية، لعدم قدرتها على متابعة العمل في الظروف الحالية.
كما أن خسارة سورية آبار النفط في شرق الفرات، وزيادة كلف استيراد المشتقات النفطية وارتفاع أسعارها، إضافة إلى التسبب بانقطاعات مزمنة للكهرباء؛ كل ذلك أثَّر في قدرة مختلف فعاليات القطاع الخاص الصناعية منها، والتجارية والخدمية على العمل، حيث يضطر معظم الفعاليات إلى اعتماد موارد طاقة بديلة عالية الكلفة تؤدي إلى ارتفاع تكاليف الإنتاج وزياد الأسعار على المستهلك، مما يؤدي بدوره إلى انخفاض الطلب على السلع والخدمات.
إن شمولية العقوبات، خاصة الأمريكية، وتعقيدها جعل السوق السورية خطرة بدرجة كبيرة على أي مستثمر خارجي. مُضافاً إلى ذلك الانكماش الاقتصادي الذي حصل في سورية نتيجة للحرب وتداعياتها، مما جعل السوق السورية لا تستحق المغامرة من قبل أي مستثمر خارجي. وقد انخفض حجم الاستثمارات الخارجية المباشرة في أول عام من الأزمة (2011) انخفاضاً دارماتيكياً، من 1.85 مليار دولار إلى ما يقارب المليار دولار، بينما لا توجد إحصائيات حديثة. ومن دون حل سياسي وإزالة العقوبات، لا تشكل السوق السورية محط اهتمام المستثمرين الخارجيين، حتى من قبل شركات في دول حليفة للحكومة السورية. وعادةً ما تعلن شركات روسية أو إيرانية، على سبيل المثال، أنها ستستثمر في سورية، لكن هذه الخطط تظل حبراً على ورق، أو تفضل الاستثمار في قطاعات تَعِد بأرباح سريعة وكبيرة، مثل استخراج الفوسفات، حيث استحوذت شركة روسية، وأخرى إيرانية، على حصص في هذا القطاع بعد استعادة الحكومة السورية للحقول من تنظيم "داعش" في عام 2017. كما لا يُستبعد أن تكون هذه الشركات الأجنبية تستثمر في سورية عبر وسطاء سوريين تهرباً من العقوبات الأميركية والأوروبية، وعلى أي حال، يُستبعَد أن يكون حجم الاستثمارات قد عاد إلى المستويات السابقة.
قطاع الصناعات الدوائية:
يبرز قطاع الصناعات الدوائية مثالاً على أثر العقوبات في عمل القطاع الخاص داخل سورية. قبل الحرب كانت سورية مكتفية ذاتياً بدرجة شبه كاملة بالنسبة للأدوية، عدا عن أدوية الأمراض المستعصية، ووصل عدد المصانع الدوائية في عام 2010 إلى 70 مصنع. وعلى رغم ظروف الحرب وتدمير ونهب حوالي 19 مصنعاً، بلغ عدد المصانع المرخصة (وليس العاملة) في سورية 92 مصنعاً عام 2019. وتهيمن الشركات متوسطة الحجم (خمسين عاملاً أو أقل) على قطاع الصناعات الدوائية في سورية.
يعاني هذا القطاع من مشاكل في التحويلات المالية على رغم أن المواد الدوائية معفية نظرياً من العقوبات. ففي مقابلة مع مُعدّي هذه الورقة، يذكر أحد الفاعلين في القطاع أنه لم يتمكن من الحصول على مواد مخبرية ضرورية لا يزيد ثمنها عن خمسين ألف دولار من شركة أمريكية على رغم امتلاكه حساباً مالياً خارج سورية، وبعد تبيانه لهم أن هذه المواد معفية من العقوبات، وعلى الرغم من وجود تعامل سابق بين شركته والشركة الأمريكية على مدى سنوات، وهو تعاونٌ تواصل حتى صدور قانون قيصر. ويعود السبب للامتثال المفرط من قبل المؤسسات المالية، ونظراً لأن السوق السوري صغير جداً لا يستحق المخاطرة.
ومما يُعمّق المعضلة التي يعاني منها قطاع الصناعات الدوائية في سورية أن معظم خطوط الإنتاج -بما فيها تلك التابع لمصانع مملوكة حكومياً- ذات منشأ غربي، وتنتج أدوية بتراخيص من شركات غربية، ولا يوجد أمامها كثير من البدائل. والتفّ بعض المصانع الدوائية على المشكلة بمحاولة استيراد مواد أولية للصناعات الدوائية من إيران وبيلاروسيا والهند، إلا أن العديدين يشتكون من أن فاعلية هذه المواد أقل من تلك ذات المنشأ الغربي. وإذ يستمر معظم معامل الدواء بالعمل، ولا يزال عدد منها قادراً على التعامل مع شركات غربية، إلا أن ريعها، ومن ثمّ قدرتها على الاستمرار في العمل، في حالة تراجع متواصل بسبب تداعيات العقوبات، وبيئة العمل غير المشجعة السائدة في سورية، مما يهدد هذا القطاع الحيوي والمنتج بالشلل في المستقبل غير البعيد.
السياسات الحكومية: نزعة مفرطة نحو الجباية وإدارة الأزمة
حاولت الحكومة السورية التعامل مع تداعيات النزاع والعقوبات، والتي اشتدت بعد الأزمة المالية اللبنانية في نهاية عام 2019. عملت الحكومة السورية على اجتراح حلول بديلة تضمن ضبط سوق النقد الأجنبي منعاً لاستمرار انهيار العملة المحلية (التي هبطت قيمتها من 500 ليرة للدولار الواحدة مطلع عام 2019 إلى 1000 ليرة للدولار الأمريكي نهاية العام نفسه، فيما ارتفع سعر صرف الدولار الأمريكي الواحد اليوم إلى خمسة عشر ألف ليرة سورية)، وتأمين النقد اللازم لعمليات الاستيراد. وكانت آخر هذه الحلول ما سمي منصة الاستيراد، إذ تقوم الفعالية الاقتصادية الخاصة (سواء فرد أو شركة) الحاصلة على إجازة استيراد (لمادة مسموح أصلاً باستيرادها) بإيداع المبلغ المطلوب لدى هذه المنصة بالليرة السورية ليُحوَّل من قبل إحدى شركات الصرافة الخاصة للجهة المستورد منها. إلا أن هذه الآلية فشلت فشلاً ذريعاً، إذ بعد أن احتفظت شركات الصرافة بهذه المبالغ دون تحويلها لشهور عدة قامت الحكومة السورية منتصف هذا العام بإلغاء المنصة وإعادة المبالغ لأصحابها بالليرة السورية على الرغم من انخفاض قيمة العملة السورية مقابل الدولار بأكثر من 100% في الفترة نفسها، مما تسبب بخسائر كبيرة للفعاليات الاقتصادية.
وأُعيدَت هذه المبالغ، التي يُقدَّر بعضها بالمليارات من الليرات السورية لإجازة الاستيراد الواحدة، إلى الحسابات المصرفية للفعاليات الاقتصادية والأفراد. وأعادت الحكومة بعد فترة وجيزة تفعيل المنصة، إلا أنها اشترطت على المستوردين إيداع المبالغ لدى المصارف نقدياً وليس عبر التحويل من حساباتهم فيما تقوم المصارف بتحويل الأموال لشركات الصرافة، والتي بدورها تحوِّل ما يوازيها بالعملات الصعبة للجهة المستورد منها. وسبَّبت هذه العملية خسائر جديدة للمستوردين، إذ قاموا بسحب المبالغ المعادة لهم بصيغة نقدية من حساباتهم المصرفية تلبية لشرط الحكومة، والتي تضع بدورها سقف سحب يومي يبلغ 25 مليون ليرة سورية (حوالي 1800 دولار بحسب سعر السوق السوداء) ليعيدوا إيداعها نقداً، على رغم استمرار التدهور المتواصل لقيمة العملة الوطنية أمام الدولار، وتأخّر المستوردين في التسديد للجهات المستورد منها.
ويعاني القطاع الخاص في سورية أيضاً من فرض ضرائب غير قانونية تُجمَع من قبل السلطات الأمنية أحياناً عبر الترهيب والتهديد، وهي ظاهرة نشأت جديداً بعد الحرب ولا تُحفِّز أي طرف على الاستثمار. بدأت هذه السياسة مع رجال الأعمال الكبار، ولكن مؤخراً أصبح الأمن يستهدف فعاليات صغيرة مثل مُصلحي سيارات، ومستوردي قطع غيار صغار، وأصحاب ورش صياغة. كما يتعرّض الفاعلون لخطر الخضوع لضرائب عشوائية من قبل نقاط التفتيش العسكرية، والتي تستهدف السلع في مجال النقل والمشاريع الاقتصادية على حدٍّ سواء، ما يزيد من الضغوط على المشاريع الاقتصادية من جميع الأحجام.
تحوُّل في شكل القطاع الخاص وفاعليه :
لم تتسبب الحرب في سورية في تقليص اقتصاد البلاد، بما في ذلك القطاع الخاص فحسب، بل حولته بدرجة عميقة، تاركةً فرصاً محدودة أمامه للعودة إلى وضع ما قبل الحرب. ومع أن القطاع الخاص التقليدي، الذي يتكون من تجار ورجال أعمال امتهنوا أعمالهم لعقود طويلة وعملوا في بيئة مستقرة إلى حد ما، لا يزال موجوداً، إلا أن الفئة السائدة من الفاعلين اليوم هي تلك التي نشأت إبان الحرب والأزمة الاقتصادية وشح الموارد.
من حيث الأنماط الاقتصادية الجديدة، هناك اختلاف واضح بين فترة ما قبل 2011 واليوم. فمع أن جزءاً كبيراً من الاقتصاد السوري قبل عام 2011 كان غير رسمي، إلا أنه ما كانَ اقتصاد ظِلٍّ مُجرَّماً (shadow-criminal economy)، ولا مخنوقاً بالعقوبات. اليوم، تصطف الشبكات غير الرسمية، وتلك العاملة في الظل، والشبكات الإجرامية، لتعمل مع بعضها البعض بشكل أكثر تناسقاً. ولا يتطلب العمل في هذه البيئة، والتعامل مع هذه الشبكات، تمتُّع الفاعلين بعلاقات زبائنية كما كان الحال في السابق، بل أيضاً التفاهم مع شبكات إجرامية، والمؤسسات الأمنية والعسكرية، والقدرة على توفير الأمن الخاص وأمن الشركات الخاصة. كما يتطلب القدرة والمعرفة بسُبل التهرب من العقوبات الغربية والتكيف مع شروطها، مما يعني في شكل شبه تلقائي اللجوء إلى اقتصاد الظل والاعتماد على الشبكات البديلة.
وهناك عامل مهم آخر يتمثَّل في أن "الكعكة" الاقتصادية قد تقلصت بشكل كبير. قبل الحرب، كانت سورية مليئة بشخصيات اقتصادية تحوز احتكارات، وأبرز مثال على ذلك رجل الأعمال رامي مخلوف، الذي كان يمتلك أيضاً حصة مفروضة على أرباح الكثير من الشركات الأخرى غير المملوكة له، إلى درجة أن تجار من مدينة حلب، العاصمة الاقتصادية لسورية قبل الحرب، كانوا يسألون أصحاب الأعمال التجارية الجديدة: هل "رمرمت" المشروع؟ وكان هذا السؤال يشير إلى ما إذا كان مخلوف سيكون شريكاً في المشروع. الآن، بقيت هذه الظاهرة وإن زال مخلوف وحلّ مكانه شخصيات جديدة، على الرغم من قلّة الموارد، مما يعني أن ما تبقى للفاعلين الصغار يكاد لا يستحق عناء الاستثمار وتكلف المخاطر التجارية، وهو ما قد يسهم في تفسير ظاهرة الهجرة وإغلاق الفعاليات المذكورة أعلاه.
وعامل آخر يدفع القطاع الخاص خارج هذه المنافسة هو أنه قبل الحرب كان بإمكان الشركات الصغيرة والمتوسطة، مثلاً، استيراد كميات صغيرة من البضائع وبيعها، واستيراد مواد أولية بهدف التصنيع والبيع أو التصدير، أما الآن، فهم يعتمدون بدلاً من ذلك على المستوردين الكبار الذين يمكنهم مواجهة التحديات الداخلية والخارجية المذكورة أعلاه، ما يقلص أرباحهم ويحوّل أجزاءً مهمة منها إلى أولئك المستوردين الكبار.
وظهرت تغييرات داخل صفوف نخبة القطاع الخاص، ما ميزها عن النخب القديمة في عدة مجالات؛ فمنذ عام 2011 على الأقل ثلاث دفعات من رجال أعمال. في البداية، أدّت الحرب إلى تراجع دور العديد من رجال الأعمال التقليديين (مثل راتب الشلاح، أو عبد الغني العطار، أو هيثم جود، أو باسل عزوز)، أو هجرتهم خارج سورية (نزار أسعد)، أو انتقالهم إلى مناطق المعارضة. وانتهى عصر أبرز شخصية طغت على رجال الأعمال في المشهد الاقتصادي السوري قبل الحرب، بعد تدخل القصر لإنهاء إمبراطورية رامي مخلوف في 2019. وظهرت اليوم نخبة جديدة تهيمن على المشهد الاقتصادي، الذي تحوّل من اقتصاد حرب إلى اقتصاد يعاني من نقص الموارد. ومن الأمثلة البارزة على هذا التحول، الأخوان قاطرجي، الذين برزوا بوصفهم وسطاء يشترون النفط من قوات سورية الديمقراطية ويبيعونه للحكومة السورية، ومن ثم توسعوا في عدة مجالات أخرى.
استنتاجات :
يواجه الفاعل الاقتصادي السوري المنتمي للقطاع الخاص تحدياً مزدوجاً؛ إذ تُعيق العقوبات الخارجية والامتثال المفرط بها تحويل الأموال من سورية، كما أن الحكومة السورية تفرض عليه قيوداً كبيرة تمنعه من التحويل إلا عبر قنوات محددة غالباً ما تُعرِّضه لخسائر كبيرة. أما القطاع الخاص التقليدي الذي كان يؤدي دوراً محورياً قبل عام 2011 فقد أصبح تاريخاً، ولا يمكن العودة إليه، وأصبح أغلب رواده يعيشون الآن خارج البلاد.
وأثبتت السلطة السورية في دمشق قدرتها على إعادة صياغة التوازنات الاقتصادية بين رجال الأعمال والترويج لشخصيات جديدة، وهما أمران قد يؤشران إلى احتمال انتعاش القطاع الخاص التقليدي في حال حصل اتفاق سياسي وتخفيف العقوبات. ومع ذلك، تبقى احتمالات حدوث ذلك ضئيلة بسبب تعقيدات العملية السياسية، وكلما طالت الحرب تَزايد تراجُع دور القطاع الخاص التقليدي، وتعززت مواقع الفاعلين الجُدد.
في الأجل القصير، تَحِدُّ العقوبات الدولية وغياب حل سياسي والفاعلون الجدد من قدرة الدول العربية على دعم القطاع الخاص في سورية. وكما فعلت في الماضي، يمكن للسلطة السورية تهميش أولئك الفاعلين الجدد الذين استفادوا من ظروف الحرب والعقوبات ليتبوأوا الصفوف الأولى في المشهد الاقتصادي السوري، لكن من غير المرجح أن تُقدِم على ذلك من دون الوصول إلى حل للأزمة. وقد يتمثل الحل الجزئي المقترح في تقسيم الاقتصاد السوري (compartmentalize)، وقبول الحكومة السورية بتخصيص قطاعات أو فروع معينة ليست تحت طائلة العقوبات لرجال أعمال سوريين ذوي سمعة جيدة وخبرة طويلة. فهذا من شأنه أن يعود بالنفع على السوريين ودول الجوار، خاصة أن استمرار الصراع سيزيد من حجم اقتصاد الظل-المجرَّم.
هوامش :
[1] "الامتثال المفرط" هو ظاهرة تتجنَّب فيها المؤسسات المالية والشركات الخاصة الأخرى حتى المعاملات المسموح بها تقنياً، التي، بسبب العقوبات، تُعدّ قانونية، ولكنها محفوفة بالمخاطر.
[2] منذ فرض العقوبات على سورية، أضافت شركات التأمين ما تسميه 'فاتورة حرب' (war premium) قدرها 10,000 دولار لكل رحلة جوية إلى البلاد.
 

مركز الإمارات للسياسات
الاحد 4 غشت 2024