لقد برهنت فلسفة العقل ( تحديدا ً عند جون سيريل وجون بول كنجهام ) على أن الدلالة الرقمية للمدخلات الكهروكيمائية في المخ إنما توجد بينها وبين المخرجات الشعورية فجوة ٌ محال اجتيازها إلا ... بماذا ؟ إلا بأمر ٍ من كائن أعلى هو وحده المؤلف والمترجم .
وآية ذلك أن الحياة لو كانت مجرد تطور " مادي " للطبيعة للزم أن نكون كائنات " ماتركسية " Matrix لا تشعر ولا تفكر ، ولو قيل : بل الطبيعة أرادتنا مفكرين وشعراء ، لقلنا : إذن فالطبيعة كائن حي قيوم . وهكذا نعزو لها صفاتٍ لا ُتثبت إلا للإله !
للموت أن يستصفي الجسد َ الذي هو من تراب ليعيده إلى موطنه " التراب" ولا تثريب عليه إذ يفعل . تلك تجربة الجسد مع أمه الطبيعة ، وهي تجربة متسقة مع جبلتها . أما الروح التي تحب وتعشق وتكابد الشوق ، الروح التي تراها في لمعة العين حين تتذكر وحين تهفو ، الروح التي سمـًيَ بها عيسى وجبريل والقرآن ، فلا مندوحة من أن نسأل عنها خارج أنساق الذرات والإلكترونات والفوتونوات والكواركات.. علاوة على أن هذه المسميات هي في التحليل الأخير محض تصورات ذهنية . وحين يصل سؤالنا إلى نهاية رحلته ؛ نجد الجواب حاضرا ً مهيمنا ً معبرا ً أجمل وأحكم تعبير : قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا.
للحاسوب السوبر أن يترجم إلى اللغة الصينية قصيدة أمل دنقل عن الزهور التي تتمنى له العمر وهي تجود بأنفاسها الآخرة ، نعم سوف يترجمها بدقة لو ُأعطى شفرة اللغتين العربية والصينية ، ولكنّ المحال هو أن يشعر الحاسوبُ بمعانيها أو يرق لها أو تدمع أمامها عيناه.
فما هو منبع هذا الشعور المنبثق من التجربة الروحية العابرة للفجوة .. والتي تهزم الموت أن يكون نهائيا ً ؟ يقول يسوع : إن الخالق ليس إلهَ موتي ، بل هو إلهُ أحياء . وهو ما يعني أننا ما دمنا قد ُمنحنا نعمة الحياة فلا شك في أن المعطي كان كريما ً كرما ً مطلقا ً، وما دام هو قد متع هذه المخلوقات مرةً بهذه النعمة ، بل وأضاف إليها نعمة الأمل في ألا تفنى ؛ فما من شك في أنه سوف يواصل نعماءه للأبد دون انقطاع .
لو كنت أنا مجرد حاسوب مبرمج فيزيقيا وبيولوجيا مزودا ً بنظام نيورولوجي فائق القدرة مما يسمح لي أن أفكر بهذا النحو؛ إذن لشكرت المبرمج على ما أوصلني إليه . بيد أن كلاما عن حاسوب له هذه المشاعر الفياضة لا ريب يحمل تناقضات أقلها أنه هو نفسه لا يشعر بأنه حاسوب ، بل إنسانا يعي ويدرك ويألم ويحب ويعرف أن الاشتراكية هي أفضل الفلسفات الاجتماعية لحل التناقض بين رأس المال والعمل المأجور وإن احتاجت إلى جدلها بغايات دين النبوة ( وليس دين الدولة ) حيث المحبة والسلام وليس القهر والمغالبة .
في الفتوحات المكية يقول ابن عربي عن الحضرة الإلهية إنها ذات وصفات ، أما الإنسان فالذات لديه ضد على الذات الإلهية التي هي وجود مطلق ، بينما الذات الإنسانية عدم مطلق ، ولهذا ُتري الذات الإنسانية وكأنها تأتي من العدم وتذهب للعدم ، لكن الإنسان قد يتشبه بصفات الإله فيماثله مماثلة الصورة للأصل عندئذ يصبح العدم ممتنعاً إطلاقا ً فليس ثمة عدم مع الله ، فالله هو الظاهر والباطن دون فصل بينهما ، ويتبدي الله ظاهراً في الطبيعة من نواة الذرة وما دونها إلى الإنسان الكامل ، وأما الباطن فلا ُيعرف في حد ذاته وإن اطمأن إليه القلب وسلـّم بوجوده ، فالعلم والفكر واللغة وقوانين الكون جميعا ً لا تجد لها من مرجعية وتبرير سوي في الإيمان بالباطن.
ما سبب رفع فاعل الجملة ؟ وما سر الأعداد؟ ومن أين تأتي قوة الجاذبية ؟ ما الذي يجعل الخير أفضل من الشر؟ والحب أجمل من الكراهية ؟ وما سر الجمال في ذاته وليس في صفاته حسب ُ ؟
تكاد الفيزياء الحديثة أن تقول : هكذا شاء الموجد. أما التصوف فيؤكد أنه ما دامت تلك المشيئةُ محجوبةً عنا أسرارُها فليس أمامنا غير التسليم والرضا والقبول .. شاء الموجد أن كل من يولد يموت ، ففيم إذن الاعتراض علي صاحب الحق الذي أحيا وأمات ؟ بيد أن المشيئة الإلهية أيضا غرست فينا حب البقاء كما غرست فينا كذلك الرغبة في البعث بعد الموت لنلقى الأحبة الذين سبقونا إلى دار الحق. علمنا بالظاهر وحده ربما لا يمنحنا اليقين في أن رغائبنا سوف تتحقق . بينما اليقين يأتينا من الإيمان بأن وراء الظاهر ( أي عالم ما دون الذرة ) باطنا ً صادق الوعد، وهذا هو الفيصل بين الإيمان وبين الكفر . فالكفر يثبت حين يفصل المرء بين الظاهر والباطن ، مكتفيا بالأول معرضاً عن الثاني ، أما الإيمان فهو طوق النجاة للعقل الإنساني ، لأنه يساير الحقيقة ، التي هي الوحدة بين الظاهر والباطن .
تؤكد إحدى نظريات الفيزياء الحديثة ( وهي نظرية الأوتار الفائقة Super String ) بالمعادلات الرياضية أن الكون مؤلف من احد عشر بعداً ، منها ستة أبعاد مطويات Implicated والعلم – بهذا – لا يمكنه أن ينكر إمكانية إعادة بعث الكائن الذي اخترمه الموت في واحد من تلك الأبعاد المطوية - بينما في الفلسفة سنرى نيتشة يتحدث عن العود الأبدي بواقع ما يقال عن الدورة الكبرى ، وتلك في الحقيقة رؤية مفزعة لأن معناها الرجوع إلى نفس الحياة وتكرار ذات الأخطاء وتجرع نفس الآلام . أما الدين فيفسح للأمل طريقا لبعثنا في عالم جديد فيه يثاب الأخيار ويعاقب الأشرار .
*** *** ***
على نقيض ابن عربي يرى "جاكوب بوهم" أن الموت يفضح توهم المرء بأنه حر " فلو أتيح لي – والقول هنا لبوهم - أن أختار بين توجهي للحياة وبين التوجه للموت لاخترت الحياة طبعا لأنها تبقيني بما أنا عليه ، ولكن بما أنني لست حرا ً فأنا لست حيا ً " وتلك رؤية إلحادية ناجزة لا غش فيها . مقابلها يقول التصوف إن الموت ليس عدواً بل يقظة من حلم الدنيا، فهو إذن مجرد عتبة تنقلنا إلى حياة أخرى . ومع ذلك فحلمنا الدنيوي حقيقة وليس وهما ً خاصة حين نختار ما اختاره لنا الخالق من ضرورات النضال من أجل حياة أفضل. وبهذا الوعي تحل مشكلة الحرية ، وآية ذلك أنني - بوصفي ملكا ً لله - أعتبر نفسي حرا ً سياسيا ً واجتماعيا ً لي كل صلاحيات الاختيار بين المواقف، قبولا ً لاستحقاقات الثورة ، ورفضاً للزائف من الخطابات( خاصة ما يذيعه المتاجرون بالدين ) تلك التي تضلل الشعوب وتغطرش على الحقائق .
-----------------------------
نهضة مصر
فما أشد حاجة العقل العربي والإسلامي إلى تجديد خطابه الديني في ضوء هذه المنجزات العلمية والعقلية والروحية لجنس الإنسان !