فليس ثمة مسيرة موضوعية واضحة المعالم لأية فعالية عامة في أي حقل تنموي، ثقافي أو اقتصادي، أو عمراني شامل. لا شيء ينبئ عن حقائق هذه الفعاليات إلا المزيد من أعطالها وأخطارها. تحدث الانفجارات عندما تسنح الفرص السياسية وحدها بانفلات المكبوت والمقموع. فلا يكون للانفجار الاجتماعي المفاجئ سوى التفسير السياسوي الجاهز. وبالتالي تفوت فرصة الوعي بجذور الحدث العام المداهم. تتلعثم الأسئلة بالأجوبة القديمة الجاهزة. يتابع الأمسَ التهامُ ثمرات أحداث اليوم والغد.
في الوقائع الجماهيرية للشوارع الإيرانية، هل هي الثورة من داخل الثورة أم عليها. زعماؤها ينتمون إلى عين المدرسة التي خرَّجت رموز السلطة الدينية منذ ثلاثين عاماً. لكن قواعدها خارجة عن إطاراتها السابقة. هنالك جيل أو جيلان بالأقل ترعرعا في كنف المؤسسة الدينية الحاكمة، ومارسا طقوسها اللاهوتية. تربَّت عقول الشبيبة على مناهج تفكيرها وسلوكها. ونطقت الألسن دائماً تحت طائلة الالتزام العفوي أو الآلي بالشعارات السياسية كرديف للشعائر الدينية. لكن يقع الانفصام تدريجياً بين معيشة مكبلة بأوامر عليا غيبية، ومعيشة أخرى تخص حياة الإنسان الفرد وشؤونه الحميمية.
النظام الذي ابتدأ لاهوتياً خالصاً مدعياً إعادة إنتاج المجتمع قدسياً سماوياً، وخاصة سياسياً، ينتهي إلى أن يصير هو نفسه سلطوياً خالصاً وراء هالة سياسة الحكم وحدها. في هذا الطور تتساقط محرمات القداسة وحماياتها من حول أقانيمه ومراتبه العليا، يغدو كأي نظام دنيوي آخر، قابلاً لتوصيفه بحسب أفعاله وأفكاره ومواقفه. يكتشف (الرعايا) أنهم ليسوا محكومين بالدين، إنما برجال دين. فالفوارق شاسعة ومتعددة بين التوصيفين. القداسة والسياسة لا تجتمعان إلا لتختلفان. الواحدة منهما لا تعترف بالأخرى، لا تتواجدان في المكان الواحد، ولا تتعاصران في الزمن الواحد. ولقد حاولت ثورة إيران المديدة أن تنتصر على هذه الاستحالة في المفهوم وفي التاريخ معاً، أن تثبت الفكرة الشائعة أن الإسلام دين ودنيا معاً. لكنها لا تقول شيئاً عن كيفية العلاقة بينهما. من هذه النقطة انطلق التحدي الإيراني معتقداً أنه يتجاوزها في خط مستقيم بعيد عنها، لكنه مع انفجار شوارع المدن الإيرانية يرى نفسه أنه أمسى خطأ منحنياً يدور حول تلك الاستحالة البدئية، بل المبدئية. دون أن يخترقها أو يغادرها قيد أنملة.
واقعية الدولة الدينية تسيء إلى قداستها التي تدَّعيها. فهي في الوقت الذي تنشئ نظام حكم وسيطرة بقوة البيروقراطية المغلف بالعنف الثوري، فإنها تخوض يومياً معارك النفوذ بين رجالها ومواقعهم. فليست نصوص الدين هي التي تحكم فعلاً، بالرغم من ابتكار الخمينية لتعددية في مؤسسات السلطة العليا التي تراقب بعضها، لكنها سوف تتنافس سراً أو علناً ما بين تنظيماتها. لقد اعتقد رجال الرعيل الأول أنهم حين يعيدون هيكلة السلطة بحسب نمط التراتبية اللاهوتية في الهرم المذهبي للشيعة الإيرانية، إنما يحققون بذلك وحدة معيارية بين القانونين السماوي (الشريعة) والوضعي. ذلك النمط الصعب المعروف عن تجارب الدول الدينية، سواء في التاريخ الإسلامي أو الغربي. فالبيروقراطية الدولانية المنظِّمة عادةً لأجهزة الحكومات أصبحت من التعقيد الإداري والرسوخ العملي، بما يجعل آليتها العملية مستقلة عن أية إيديولوجيا تُقحم عليها من خارج إيقاعها الذاتي. فلقد تهاوت نماذج الدولة الموصوفة بالشمولية في أوطانها الأصلية. إذ لعبت الإيديولوجيا دور الدروع الحامية للسلطات القائمة، ضداً على الرقابة المجتمعية، ما جعل سياسة زعمائها وأخطاء إداراتها في منأى عن النقد والتصحيح قبل بلوغها حدود المفاسد والأعطال الكبرى المهددة لمصير الدولة ودفعها إلى نهايتها المحتومة المعروفة.
فما يقال عن خصائص الدولة الشمولية من صفات السلطوية الأحادية، وازدواجية المعايير بين المبادئ المعلنة وتطبيقاتها المتعارضة معها، بما يفرض مصادرة الحريات العامة والخاصة تحت وطأة التعميم لنموذج شخصاني اعتباري على سلوك الأفراد والجماعات، هذه السمات المشتركة في مختلف التجارب الدولانية المؤدلجة، لم يخترعها العقل النظري، بل كابدها القرن العشرون المنصرم، حتى أضحت أشبه بمسلمات تصم الديكتاتوريات السياسية المقنعة وراء الأفكار الكلية. وفي عالمنا العربي لم يكن الاستبداد المتوارث بحاجة حقاً إلى الأدلجة كيما يعيد إنتاج إكراهاته العتيقة. ومع ذلك فقد تساقطت الدولة الوطنية المستقلة حديثاً فريسةً لنوعيْ هذين الاستبدادين، الموروث عن التخلف البنيوي الحضاري، والآخر الأدلجي المستورد. كانت تلك هي مرحلة النهضة الثانية التي عثرت على مطامحها الأولى من خلال ثقافة (الثورة). اختزلت مفاهيمها في الشعارات الجماهيرية، اعتقاداً منها بقدرة الثورة على تفجير طاقات الجماهير المكبوتة، واستثمارها في إشادة عمرانها، الإنساني والمادي معاً وفق إيقاع تسارعي من حرق المرحل التنموية. غير أنه تبيّن بعد التجربة أنه لا تلازم منطقي أو تفعيلي بين النهضة والثورة. لا ضمانة للنهضة في احتفاظها بدور العقل المسير والمراقب والمتدخل في مسيرة الثورة، خاصة عندما تمسك هذه بمقاليد السلطة. فالثوريون الحكّام سرعان ما ينسون أنهم كانوا ثوريين، كما لو أنهم ولدوا حكاماً وسيظلون هكذا إلى أبعد جيل في سلالتهم.
على أطلال هذه الحقبة التاريخية من التخاطف بين النهضة والثورة على صعيد التنظير والممارسة معاً، ولدت فجأة الثورة الإيرانية فيما يسمى بالعمق الاستراتيجي للمشرق العربي.
انت ثورة وطنية وجماهيرية عارمة قادتها مختلف تلاوين النخب التقدمية، في البداية.
قوضت نظام أوتوقراطية إمبراطورية قروسطية، أشبه بمحمية من العصر الاستعماري الغربي المنقرض. كانت هناك جبهة عريضة من شرائح وأصناف المعارضة الشعبية والثقافية، مما تحفل به ساحات الوطن العربي والعالم الثالث أثناء الربع الأخير من القرن الماضي. لكن العنوان الإسلامي هو الذي أضحت له الغلَبةُ العملية في الأشهر الأولى من عمر الثورة، على بقية العناوين الأخرى. لم تكن الأذن السياسية تألف آنذاك عبارة الثورة الإسلامية. فاللفظان متعارضان: الثورة والإسلام، نظراً إلى واقع بعض الدول الخليجية المنشغلة بحربها الضروس ضد كل ما هو ثورة أو ثوري في محيطها العربي، والمتحصنة وراء الإسلام كإيديولوجيا مضادة للشيوعية، ومن ثم ضد كل شعارات الأنظمة العربية الرافعة لثقافة التحرر السياسي والاجتماعي؛ فما كان يفصل آنذاك بين المعسكرين الموصوفين بالتقدمي والرجعي، الذي انقسم إليه الواقع السياسي، على مستوى الدول ومجتمعاتها، هو وضع ثقافة التدين في وجه التطور والحداثة. من هنا كان على الثورة الإيرانية أن تبرهن على أن تسييس الإسلام يمكن أن يصب في خانة الأهداف التحررية عينها التي فشل اليسار العربي والعالمثالثي في تحقيقها بناء على الإيديولوجيات العلمانية التي كان يتبناها.
لقد سمح انهيار المعسكر الاشتراكي العالمي من ناحية، وما تبعه من زعزعة الأنظمة التقدمية إجمالاً، وخاصة في الوطن العربي، باستيقاظ حركة استعمار جديد، مرتدة على العالمين العربي والإسلامي، هادفة إلى استئصال أبسط عوامل الاستقلال والسيادة لأقطارهما. فقد ربط المشروع الإمبراطوري الأمريكي مستقبله، باستعادة السيطرة الكاملة على مصادر الثروات الاستراتيجية. وإذا كانت الردة الاستعمارية هذه قد خسرت جولاتها العسكرية الأولى، حتى اليوم، ما بين العراق وأفغانستان، إلا أن المشروع الإمبراطوري يغيّر حالياً من أدواته وإعلامه المتغطرس. يستغل الأوبامايا من أجل تقويض ما تبقى من بعض الأنظمة الصامدة في وجهه، وذلك بأساليب التقويض من الداخل، وما يصاحبها من حملات الضغط العالمي الخارجي المنظم.
الثورة الإيرانية هدف مركزي ناهض إلى أعلى مستوى في الاستراتيجية الكونية لصراع الغرب ضد الشرق؛ وبالتالي فالقضاء عليها أو تحجيمها، أو تعديل أساسيات في ثقافتها وهيكلتها الدولانية والمجتمعية، سوف يحقق واحداً من أهم رهانات الحرب العالمية على الإرهاب، أو الإسلام، كما هو في مضمون الصراع الحقيقي الذي يشنه الغرب ضد آخر جبهات المقاومات الوطنية، الصامدة في وجه سلطانه.
هذا لا يعني أبداً أن الثورة الإيرانية معفية من التبصر بأحوال الكثير من أعطالها، وأنها ربما كانت على شفا ثورة مدنية يتطلع إليها مجتمع متطور يطالب بحقوقه وحرياته إزاء ممارسات التزمت والتضييق على عقول الناس وسلوكهم، والشباب منهم بصورة خاصة. فمن الواضح في الحدث الأخير الذي يبتدئ غضباً ضد تزوير أو خطأ انتخابي، ليفجر نيراناً صامتة تحت أكوام من المتناقضات والصراعات في ميادين مختلفة، يصعب التنبؤ بمضاعفاتها، من الواضح أن هناك ثلاثة مراكز قوى كبرى تتوزع الخارطة الذاتية للكيان السلطوي. هنالك في عمق الخارطة مؤسسة العقل المدبر للنظام المتجسد في الحوزات الدينية القائمة في (قم).
هنالك مؤسسة الحكم المتداخلة ما بين سلطات مجالسها التراتبية المتعددة ابتداءً من ولاية الفقيه نفسها والرئاسة الجمهورية ومجلس صيانة الدستور وسواه؛ ويأتي ثالثاً القطاع الأمني العلني والخفي، وفي واجهته (الحرس الثوري) الذي وحده يكاد يؤلف أكثر من جيش آخر موازٍ لجيش الدولة؛ بل يضم نوعاً من مجتمع عسكري مدني معاً مغلق يخص مؤسسة الثورة في ذاتها. خارج مركزيات القوة الثلاث هذه، أو تحت سلطانها وفي حواشيها تعيش الأمة تطوراتها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وحتى السياسية بمنأى عن رقابة الأجهزة بالرغم من شموليتها وتغلغلها في تفاصيل المعيشة اليومية لأجيالها الصاعدة ، على وجه التحديد؛ ففي هذه المساحة الإنسانية النابضة بالحيوية الشبابية، وطلائعها من الطلاب والمثقفين عامة، تنمو الأفكار والأهواء والتطلعات خارج أقسى القوالب التوجيهية المفروضة بسلطة التراتبيات الفوقية، أكثر مما تمتلك من قدرات الإقناع والاستهواء.
تاريخ الدول الناشئة في كنف الثورات مليء بالنماذج المفجعة، ولن تشذ عن هذا المصير إلا تلك التجارب القليلة والنادرة التي استطاعت أن ترسم حدوداً لمصطلح شرعية الثورة، وتضعه تدريجياً تحت معيارية المشروعية المدنية، بما يساعد المجتمع الناهض الجديد على استرداد حرياته الأساسية وتوظيف طاقاتها في بناء المشروع النهضوي الذي لم تأتِ الثورة أصلاً إلا كأداة انتقالية واضطرارية لجعل ذلك المشروع قابلاً للتحقق والاستمرارية المنشودة.
اللحظة الراهنة للتجربة الإيرانية لها عنوان واحد هو اللحظة الإصلاحية. والتحدي المباشر هو السؤال عمن يمسك بالمبادرة. فالرهانات هائلة ومتناقضة. والقوى المتحفزة للتصيّد في الماء العكر داخلياً وخارجياً، هي اليوم في أوج فعاليتها لانتهاز فرصتها الخبيثة. لكن الساحة الخلفية لمراكز السلطة المتعددة تبقى هي المرشحة المميّزة للعب الأدوار الحاسمة، وذلك قبل فوات الأوان، وخروج الشارع، وخلفياته الغامضة، بالمقابل، عن السيطرة.
هل دقت ساعة الدخول (الثوري) إلى مرحلة القبول بالاستقطاب الاجتماعي التقليدي، بانقسام أهل الثورة أنفسهم إلى قطب الموالاة والمحافظة، وإلى قطب الإصلاح والمعارضة. أم أن الأمة الإيرانية مقبلة على الحقبة الأخطر في تاريخها، حينما تغدو القداسة امتداداً للسياسة وليست راعية لها من بعيد فحسب..
في الوقائع الجماهيرية للشوارع الإيرانية، هل هي الثورة من داخل الثورة أم عليها. زعماؤها ينتمون إلى عين المدرسة التي خرَّجت رموز السلطة الدينية منذ ثلاثين عاماً. لكن قواعدها خارجة عن إطاراتها السابقة. هنالك جيل أو جيلان بالأقل ترعرعا في كنف المؤسسة الدينية الحاكمة، ومارسا طقوسها اللاهوتية. تربَّت عقول الشبيبة على مناهج تفكيرها وسلوكها. ونطقت الألسن دائماً تحت طائلة الالتزام العفوي أو الآلي بالشعارات السياسية كرديف للشعائر الدينية. لكن يقع الانفصام تدريجياً بين معيشة مكبلة بأوامر عليا غيبية، ومعيشة أخرى تخص حياة الإنسان الفرد وشؤونه الحميمية.
النظام الذي ابتدأ لاهوتياً خالصاً مدعياً إعادة إنتاج المجتمع قدسياً سماوياً، وخاصة سياسياً، ينتهي إلى أن يصير هو نفسه سلطوياً خالصاً وراء هالة سياسة الحكم وحدها. في هذا الطور تتساقط محرمات القداسة وحماياتها من حول أقانيمه ومراتبه العليا، يغدو كأي نظام دنيوي آخر، قابلاً لتوصيفه بحسب أفعاله وأفكاره ومواقفه. يكتشف (الرعايا) أنهم ليسوا محكومين بالدين، إنما برجال دين. فالفوارق شاسعة ومتعددة بين التوصيفين. القداسة والسياسة لا تجتمعان إلا لتختلفان. الواحدة منهما لا تعترف بالأخرى، لا تتواجدان في المكان الواحد، ولا تتعاصران في الزمن الواحد. ولقد حاولت ثورة إيران المديدة أن تنتصر على هذه الاستحالة في المفهوم وفي التاريخ معاً، أن تثبت الفكرة الشائعة أن الإسلام دين ودنيا معاً. لكنها لا تقول شيئاً عن كيفية العلاقة بينهما. من هذه النقطة انطلق التحدي الإيراني معتقداً أنه يتجاوزها في خط مستقيم بعيد عنها، لكنه مع انفجار شوارع المدن الإيرانية يرى نفسه أنه أمسى خطأ منحنياً يدور حول تلك الاستحالة البدئية، بل المبدئية. دون أن يخترقها أو يغادرها قيد أنملة.
واقعية الدولة الدينية تسيء إلى قداستها التي تدَّعيها. فهي في الوقت الذي تنشئ نظام حكم وسيطرة بقوة البيروقراطية المغلف بالعنف الثوري، فإنها تخوض يومياً معارك النفوذ بين رجالها ومواقعهم. فليست نصوص الدين هي التي تحكم فعلاً، بالرغم من ابتكار الخمينية لتعددية في مؤسسات السلطة العليا التي تراقب بعضها، لكنها سوف تتنافس سراً أو علناً ما بين تنظيماتها. لقد اعتقد رجال الرعيل الأول أنهم حين يعيدون هيكلة السلطة بحسب نمط التراتبية اللاهوتية في الهرم المذهبي للشيعة الإيرانية، إنما يحققون بذلك وحدة معيارية بين القانونين السماوي (الشريعة) والوضعي. ذلك النمط الصعب المعروف عن تجارب الدول الدينية، سواء في التاريخ الإسلامي أو الغربي. فالبيروقراطية الدولانية المنظِّمة عادةً لأجهزة الحكومات أصبحت من التعقيد الإداري والرسوخ العملي، بما يجعل آليتها العملية مستقلة عن أية إيديولوجيا تُقحم عليها من خارج إيقاعها الذاتي. فلقد تهاوت نماذج الدولة الموصوفة بالشمولية في أوطانها الأصلية. إذ لعبت الإيديولوجيا دور الدروع الحامية للسلطات القائمة، ضداً على الرقابة المجتمعية، ما جعل سياسة زعمائها وأخطاء إداراتها في منأى عن النقد والتصحيح قبل بلوغها حدود المفاسد والأعطال الكبرى المهددة لمصير الدولة ودفعها إلى نهايتها المحتومة المعروفة.
فما يقال عن خصائص الدولة الشمولية من صفات السلطوية الأحادية، وازدواجية المعايير بين المبادئ المعلنة وتطبيقاتها المتعارضة معها، بما يفرض مصادرة الحريات العامة والخاصة تحت وطأة التعميم لنموذج شخصاني اعتباري على سلوك الأفراد والجماعات، هذه السمات المشتركة في مختلف التجارب الدولانية المؤدلجة، لم يخترعها العقل النظري، بل كابدها القرن العشرون المنصرم، حتى أضحت أشبه بمسلمات تصم الديكتاتوريات السياسية المقنعة وراء الأفكار الكلية. وفي عالمنا العربي لم يكن الاستبداد المتوارث بحاجة حقاً إلى الأدلجة كيما يعيد إنتاج إكراهاته العتيقة. ومع ذلك فقد تساقطت الدولة الوطنية المستقلة حديثاً فريسةً لنوعيْ هذين الاستبدادين، الموروث عن التخلف البنيوي الحضاري، والآخر الأدلجي المستورد. كانت تلك هي مرحلة النهضة الثانية التي عثرت على مطامحها الأولى من خلال ثقافة (الثورة). اختزلت مفاهيمها في الشعارات الجماهيرية، اعتقاداً منها بقدرة الثورة على تفجير طاقات الجماهير المكبوتة، واستثمارها في إشادة عمرانها، الإنساني والمادي معاً وفق إيقاع تسارعي من حرق المرحل التنموية. غير أنه تبيّن بعد التجربة أنه لا تلازم منطقي أو تفعيلي بين النهضة والثورة. لا ضمانة للنهضة في احتفاظها بدور العقل المسير والمراقب والمتدخل في مسيرة الثورة، خاصة عندما تمسك هذه بمقاليد السلطة. فالثوريون الحكّام سرعان ما ينسون أنهم كانوا ثوريين، كما لو أنهم ولدوا حكاماً وسيظلون هكذا إلى أبعد جيل في سلالتهم.
على أطلال هذه الحقبة التاريخية من التخاطف بين النهضة والثورة على صعيد التنظير والممارسة معاً، ولدت فجأة الثورة الإيرانية فيما يسمى بالعمق الاستراتيجي للمشرق العربي.
انت ثورة وطنية وجماهيرية عارمة قادتها مختلف تلاوين النخب التقدمية، في البداية.
قوضت نظام أوتوقراطية إمبراطورية قروسطية، أشبه بمحمية من العصر الاستعماري الغربي المنقرض. كانت هناك جبهة عريضة من شرائح وأصناف المعارضة الشعبية والثقافية، مما تحفل به ساحات الوطن العربي والعالم الثالث أثناء الربع الأخير من القرن الماضي. لكن العنوان الإسلامي هو الذي أضحت له الغلَبةُ العملية في الأشهر الأولى من عمر الثورة، على بقية العناوين الأخرى. لم تكن الأذن السياسية تألف آنذاك عبارة الثورة الإسلامية. فاللفظان متعارضان: الثورة والإسلام، نظراً إلى واقع بعض الدول الخليجية المنشغلة بحربها الضروس ضد كل ما هو ثورة أو ثوري في محيطها العربي، والمتحصنة وراء الإسلام كإيديولوجيا مضادة للشيوعية، ومن ثم ضد كل شعارات الأنظمة العربية الرافعة لثقافة التحرر السياسي والاجتماعي؛ فما كان يفصل آنذاك بين المعسكرين الموصوفين بالتقدمي والرجعي، الذي انقسم إليه الواقع السياسي، على مستوى الدول ومجتمعاتها، هو وضع ثقافة التدين في وجه التطور والحداثة. من هنا كان على الثورة الإيرانية أن تبرهن على أن تسييس الإسلام يمكن أن يصب في خانة الأهداف التحررية عينها التي فشل اليسار العربي والعالمثالثي في تحقيقها بناء على الإيديولوجيات العلمانية التي كان يتبناها.
لقد سمح انهيار المعسكر الاشتراكي العالمي من ناحية، وما تبعه من زعزعة الأنظمة التقدمية إجمالاً، وخاصة في الوطن العربي، باستيقاظ حركة استعمار جديد، مرتدة على العالمين العربي والإسلامي، هادفة إلى استئصال أبسط عوامل الاستقلال والسيادة لأقطارهما. فقد ربط المشروع الإمبراطوري الأمريكي مستقبله، باستعادة السيطرة الكاملة على مصادر الثروات الاستراتيجية. وإذا كانت الردة الاستعمارية هذه قد خسرت جولاتها العسكرية الأولى، حتى اليوم، ما بين العراق وأفغانستان، إلا أن المشروع الإمبراطوري يغيّر حالياً من أدواته وإعلامه المتغطرس. يستغل الأوبامايا من أجل تقويض ما تبقى من بعض الأنظمة الصامدة في وجهه، وذلك بأساليب التقويض من الداخل، وما يصاحبها من حملات الضغط العالمي الخارجي المنظم.
الثورة الإيرانية هدف مركزي ناهض إلى أعلى مستوى في الاستراتيجية الكونية لصراع الغرب ضد الشرق؛ وبالتالي فالقضاء عليها أو تحجيمها، أو تعديل أساسيات في ثقافتها وهيكلتها الدولانية والمجتمعية، سوف يحقق واحداً من أهم رهانات الحرب العالمية على الإرهاب، أو الإسلام، كما هو في مضمون الصراع الحقيقي الذي يشنه الغرب ضد آخر جبهات المقاومات الوطنية، الصامدة في وجه سلطانه.
هذا لا يعني أبداً أن الثورة الإيرانية معفية من التبصر بأحوال الكثير من أعطالها، وأنها ربما كانت على شفا ثورة مدنية يتطلع إليها مجتمع متطور يطالب بحقوقه وحرياته إزاء ممارسات التزمت والتضييق على عقول الناس وسلوكهم، والشباب منهم بصورة خاصة. فمن الواضح في الحدث الأخير الذي يبتدئ غضباً ضد تزوير أو خطأ انتخابي، ليفجر نيراناً صامتة تحت أكوام من المتناقضات والصراعات في ميادين مختلفة، يصعب التنبؤ بمضاعفاتها، من الواضح أن هناك ثلاثة مراكز قوى كبرى تتوزع الخارطة الذاتية للكيان السلطوي. هنالك في عمق الخارطة مؤسسة العقل المدبر للنظام المتجسد في الحوزات الدينية القائمة في (قم).
هنالك مؤسسة الحكم المتداخلة ما بين سلطات مجالسها التراتبية المتعددة ابتداءً من ولاية الفقيه نفسها والرئاسة الجمهورية ومجلس صيانة الدستور وسواه؛ ويأتي ثالثاً القطاع الأمني العلني والخفي، وفي واجهته (الحرس الثوري) الذي وحده يكاد يؤلف أكثر من جيش آخر موازٍ لجيش الدولة؛ بل يضم نوعاً من مجتمع عسكري مدني معاً مغلق يخص مؤسسة الثورة في ذاتها. خارج مركزيات القوة الثلاث هذه، أو تحت سلطانها وفي حواشيها تعيش الأمة تطوراتها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية، وحتى السياسية بمنأى عن رقابة الأجهزة بالرغم من شموليتها وتغلغلها في تفاصيل المعيشة اليومية لأجيالها الصاعدة ، على وجه التحديد؛ ففي هذه المساحة الإنسانية النابضة بالحيوية الشبابية، وطلائعها من الطلاب والمثقفين عامة، تنمو الأفكار والأهواء والتطلعات خارج أقسى القوالب التوجيهية المفروضة بسلطة التراتبيات الفوقية، أكثر مما تمتلك من قدرات الإقناع والاستهواء.
تاريخ الدول الناشئة في كنف الثورات مليء بالنماذج المفجعة، ولن تشذ عن هذا المصير إلا تلك التجارب القليلة والنادرة التي استطاعت أن ترسم حدوداً لمصطلح شرعية الثورة، وتضعه تدريجياً تحت معيارية المشروعية المدنية، بما يساعد المجتمع الناهض الجديد على استرداد حرياته الأساسية وتوظيف طاقاتها في بناء المشروع النهضوي الذي لم تأتِ الثورة أصلاً إلا كأداة انتقالية واضطرارية لجعل ذلك المشروع قابلاً للتحقق والاستمرارية المنشودة.
اللحظة الراهنة للتجربة الإيرانية لها عنوان واحد هو اللحظة الإصلاحية. والتحدي المباشر هو السؤال عمن يمسك بالمبادرة. فالرهانات هائلة ومتناقضة. والقوى المتحفزة للتصيّد في الماء العكر داخلياً وخارجياً، هي اليوم في أوج فعاليتها لانتهاز فرصتها الخبيثة. لكن الساحة الخلفية لمراكز السلطة المتعددة تبقى هي المرشحة المميّزة للعب الأدوار الحاسمة، وذلك قبل فوات الأوان، وخروج الشارع، وخلفياته الغامضة، بالمقابل، عن السيطرة.
هل دقت ساعة الدخول (الثوري) إلى مرحلة القبول بالاستقطاب الاجتماعي التقليدي، بانقسام أهل الثورة أنفسهم إلى قطب الموالاة والمحافظة، وإلى قطب الإصلاح والمعارضة. أم أن الأمة الإيرانية مقبلة على الحقبة الأخطر في تاريخها، حينما تغدو القداسة امتداداً للسياسة وليست راعية لها من بعيد فحسب..