ليست الديمقراطية كمشة الشعارات التي يكثر تردادها في خطاب عموم الأحزاب والقوى والنخب عن التعددية، وصندوق الانتخابات، والدستور، والقوانين، وتحديد حقوق وواجبات الفرد ارتباطاً بمفهوم المواطنة المتساوية بين الجميع وحسب.. إنها أكبر، وأشمل، وأعمق، وهي هنا بقدر ما تكون مدخلاً، وممراً، ونهجاً، وحتى أسلوب تعامل وعمل، بقدر ما هي نتاج ، وكينونة أيضاً .
الديمقراطية كنهج، ونمط حياة، وتعامل وعلاقات ليست حالة إرادوية لبعض المجاميع النخبوية والسياسية، أو ظاهرة قشرية، تماوجية تفرضها عقود الفردية والتهميش وفشل مشاريع النهوض والحداثة والتوحيد والتحرير، وإنما هي مقدمة ونتيجة.. وإذا كانت المقدمات تبدو عامة عبر التكرار الشائع لدى الثورة السورية ومفرداتها السياسية وغيرها، بما يؤكد التوافق العام عليها لقادم الدولة المدنية الديمقراطية وأعمدتها الرئيس..فإن تجسيدها في الواقع، والمجتمع، وبين المواطنين، بل وحتى داخل النخب والقوى السياسية، إن كان ما يخص الحياة الداخلية لتلك القوى، أو نظرتها وعلاقاتها للآخر المختلف عنها عملية تتجاوز السطحي إلى العمق، والراهن إلى المستقبلي، والتكتيكي إلى الاستراتيجي .
ـ لنعترف بداية : أننا جميعاً، وبغض النظر عن التفاوتات النسبية والفردية وسويات التطور بين هذا الشخص أو ذاك، هذه القوة السياسية والفكرية وتلك، نتاج قرون الاستبداد الشرقي المكين الذي كان يعيد إنتاج نفسه بصورة تتناسب والإيغال فيه، وإقامة بنى اجتماعية وفكرية وسياسية متولدة عنه، أو عن آثاره، وأنه وإن عرف تطورات ملحوظة في عقود نظام الطغمة فإن تلك التطورات كانت الأكثر إيغالاً في النسيج الاجتماعي وتشويها له، وفي الذهن السائد الذي فرضته بقوة الجبروت، والثقافة المفروضة، والعمل السياسي بكل مروحته وتنوعه . وأن الاستقلال الأول لبلدنا العزيز الذي أفرز تلك التجربة الديمقراطية القصيرة التي كانت تقطعها سلسلة الانقلابات العسكرية، وهشاشة الوعي والبنى، وتغليب القومي على الوطني والاجتماعي، واستخدام فلسطين لهرس حقوق المواطنة، وترحيل الأزمات إلى خارج سياقاتها.. لم يتجذر بنى ووعياً وعلاقات، حتى إذا ما جاءت مراحل الحزب الواحد، والرأي الواحد، والشخص الواحد، والعائلة، والعشيرة، والطائفة، واللمامة الطفيلية المافيوزية غابت بقايا تلك المرحلة، واستبدلت بمركبات وإفرازات الأنا : الحزبية، ثم الشخصانية، والقدسية، والأبدية، والتوريثية .
ـ نعم لم تتح ظروف كثيرة متراكبة للثورة الديمقراطية، الحداثية أن تنجح في بلادنا العربية على العموم، وسورية التي نعنيها هنا بوجه الخصوص، وكانت للعوامل الخاصة بتركيبة وطبيعة ومستوى ميول ووعي البنى السائدة الدور الفاعل في ذلك، آخذين بالاعتبار عاملين آخرين متداخلين بقوة، وبفعالية : العامل الخارجي الذي شكلت فيه التجزئة القسرية، وليست الإفرازية الطبيعية، واغتصاب فلسطين عنوانها، وعامل العسكرة ودخول المؤسسة العسكرية على خط الفعل الداخلي لقولبته وتكييفه وفقاً لنمطيتها، ووعيها، ودوافعها، فقطع ذلك الطريق على إمكانية التطور الطبيعي لتلك البنى الاختلاطية، وأجبرها على دخول مقهر التدجين والقولبة، فحدث التخلف المتصاعد عن ركب التطور البشري، وتخندقت البنى التقليدية أكثر فأكثر في قوانيمها ومعهودها كقوى مضادة لعمليات التحديث والتطوير، حتى إذا ما ترسخ تجويف، وفشل، وسرقة، وركوب مشروع النهوض الاجتماعي والقومي من قبل الطاغية الأسد وعائلته وفئويته عادت تلك البنى إلى ماضوية أكثر تعضدياً من السابق، وأكثر تعارضاً مع ألف باء التحديث والديمقراطية، وقبول التعددية ، وباتت ثقافة الماضوية هي الأقوى والأكثر فعلاً .
لقد حطم الاستبداد المنهّج، المتخلف، والمدرّع بالشعارات الكاذبة، المنتحرة تحت رايات رفعها ، الفكر والعمل السياسي والثقافي، وكافة مناحي الحياة، في محاولة لإيجاد أوضاع منمّطة على مقاس الفرد الطاغية، ووريثه المعتوه، المفروض بقوة الأجهزة الأمنية والفئوية، فغابت السياسة تماماً عن عدة أجيال، وتمّ تهميش الإبداع والتجديد، والفكر الحداثي، وإطلاق العنان للأحادي المدجن في أسوار مملكة الرعب والصمت والإخضاع، حتى أن قطاعات شعبية متعددة لم تسمع بالديمقراطية إلا في الفضائيات، ولم تع مداليلها إلا عبر الهمس الخائف من بساطير القمع والتصفية والملاحقة، ونام الوطن عقوداً في حواضن الترهيب، والنفاق، والترويض، والتزييف، وعبادة الفرد الطاغية والتمجيد بمنجزاته الخلبية التي لم يكن أيّها حقيقياً .
ـ لا شكّ أن قوى المعارضة، بشتى أجنحتها، ومجموع النخب وهيئات المجتمع المدني، حاولت ما أمكنها المجال لطرح بدائل عن الفكر السائد المغمس بالدماء والإذعان والحذر من الآخر، والشك بالأقربين، ناهيك عن الآخرين، وتقدمت بعض المسافات في الحيز الضيق المتاح لها في بثّ افكار التعددية، والديمقراطية، والتداول السلمي على السلطة، وغير ذلك من أفكار ومنظومة الديمقراطية، لكنها، ولفعل الحصار الكبير والشديد المضروب عليها، وما نتج عن ذلك من تأزمات وأزمات بنيوية وتركيبية..بما في ذلك استنساخ الكثير من ثقافة وإفرازات السائد داخلها، وفي قيادتها وتخليد كثيرهم، وفشل معظمها في تجسيد البدائل في حياتها الداخلية، أو في علاقاتها مع الآخر، ومع الشعب، خاصة مع الأجيال الجديدة ..باتت جزءاً من الأزمة العامة، وتحتاج إلى إعادة جذرية في فكرها وخطابها وممارساتها لتكون جديرة بماهية الثورة، وببناء سورية القادمة .
ـ اليوم، والثورة السورية تفتح أبواب التاريخ لولوج الاستقلال الثاني، فإن صياغة مشروعها الديمقراطي، الحداثي سيكون في مقدمة الأولويات المطروحة على جميع القوى والهيئات والنخب، وبما يتخطى حقيبة الشعارات العامة، والخطاب السياسي التحريضي، والتكتيكي، والتعبوي . مشروع النهوض الديمقراطي لا بد أن يكون ممرحلاً، ينطلق من الآني : المرحلة الانتقالية، ويتوقف عند القادم : تأسيس الدولة المدنية الديمقراطية، ثم يطرح الرؤى المستقبلية لعمليات التغيير والكوننة في سياقات متصلة لا تنفصم، وباتجاه بناء وعي وعلاقات ومناخات وقيم ديمقراطية أصيلة غير قابلة للزعزعة، أو الأرجحة، أو اللبس، تبدأ من الفرد ووعيه فالأسرة، والمدرسة والمحيد، وصولاً إلى المجتمع، وتكريس الديمقراطية حاضنة لشتى التيارات الفكرية والسياسية، والحوار والتفاعل والتنافس وسائل تطوير وفرز وموضعات .
ـ الديمقراطية في ألف باءاتها تعني اليوم : القبول بالآخر : السياسي والفكري والديني والمذهبي والأقوامي كما هو لا كما أريد أنا، أو الآخر، والتعامل مع هذه الوضعية كحقيقة تفرض مرتسماتها في النهج والعلاقات والفكر والشعارات والخطاب، وباتجاه أن تصنع علاقات الحوار والتفاعل مشتركات الوطن الكبرى، والتفاهمات العريضة للمراحل القادمة . وهي تعني أيضاً : عدم ادعاء أي طرف فكري، أو سياسي أنه يمتلك الحقيقة، أو يحتكرها، بعيداً عن، وبغض النظر عن الخلفيات الإديولوجية: دينية كانت أم غيرها، فالحقيقة نسبية، والحقيقة هي التشارك، وهي حقوق الآخر الفردية والعامة وفقاً للدستور الجامع . كما تعني الوعي المجموعي بالوطن الواحد، والمسؤولية عن الأقلية حتى وإن كانت معارضة ومناوئة، ورفض منطق الاستئثار، والانتقام بنهج التسامح والتصالح والتكافل .
ـ الديمقراطية هي تعددية وتكريس لها، والتعددية تعني حق الأقلية، قبل الأكثرية، المكرّس في النصوص والقوانين والاتفاقات، ووفقاً لطبيعة المشروع الوطني الذي يرسخ الوحدة الوطنية، ويعززها في جغرافيا سورية وطن الجميع موحدة سياسياً، ومكرسة للتداول السلمي على السلطة . والتداول السلمي ليس فقط صناديق الاقتراع، بل تجسيد التعددية أولاَ، وحقوق المواطنة المتساوية ثانياً، وتكافؤ الفرص بين جميع المكونات السياسية في العمل والنشاط والدعم ثالثاً، وصولاً إلى العقد الاجتماعي الذي يرسيه اتفاق جميع المكونات وفق دستور عصري يصون ويحدد الحقوق والواجبات، واستقلال القضاء، وحرية العمل السياسي والنقابي والإعلامي وغيره من الحريات العامة والفردية .
ـ إن إبعاد الدين عن الاستخدام السياسي، وتنحية الأدلجة لهذا الفريق أو ذاك عن نطاق العمل الديمقراطي سيفتح المجال لتطوير المفاهيم الديمقراطية، وللتنافس الحر بين جمميع الأطياف السياسية، كما يوفر الأرضية الخصبة لنمو المواطنة بديلاً لبنى العائلة والطائفة والعرق والحزبوية الضيقة، ومن هنا فإن الاتفاق المسبق على هوية الدولة المدنية بما هي ليست دينية، ولا مذهبية، ولا قومجية، ولا علمانية إلحادية.. سيفتح الطريق لصياغة وبناء مشروع النهوض الشاممل لوطننا الحبيب، وبما يؤهله لاستعادة مكانته في وطنه، وفي الإقليم والعالم .