نظرا للصعوبات الاقتصادية التي رافقت الجائحة وأعقبتها اضطررنا لإيقاف أقسام اللغات الأجنبية على أمل ان تعود لاحقا بعد ان تتغير الظروف

الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بخمس لغات عالمية
الهدهد: صحيفة اليكترونية عربية بأربع لغات عالمية
Rss
Facebook
Twitter
App Store
Mobile



عيون المقالات

العالم والشرق الأوسط بعد فوز ترامب

17/11/2024 - العميد الركن مصطفى الشيخ

إنّه سلام ما بعده سلام!

17/11/2024 - سمير التقي

( ألم يحنِ الوقتُ لنفهم الدرس؟ )

13/11/2024 - عبد الباسط سيدا*

طرابلس "المضطهدة" بين زمنين

13/11/2024 - د.محيي الدين اللاذقاني

اليونيسيف ومافيا آل كابوني دمشق

12/11/2024 - عبد الناصر حوشان

هل يشعل العراق حرباً إقليمية؟

09/11/2024 - عاصم عبد الرحمن


أفكار في النقاش السوري العام






تشيع في النقاشات العامة بين السوريين فكرتان تتعلّقان بالديمقراطية، تعكسان قدراً لا بأس به من الاختلاط فيما يخصّ فهم النظام الديمقراطي أو تصوّره، بصفته بديلاً مقترحاً من نمط الحكم العائلي المُنحطّ الذي يستعمر الدولة السورية. تنطلق الأولى من طبيعة قليل أو كثير من الأشخاص معارضي الطغمة الحاكمة في سورية، أشخاص في مواقع بارزة سياسياً أو إعلامياً، أو سوى ذلك، تستنتج أن الطغمة الأسدية هي، بعد كلّ شيء، أفضل أو ليست أقلّ سوءاً من هؤلاء المعارضين الذين يطالبون بإسقاط النظام،


  وإنّ هؤلاء المعارضين إذا قُيّض لهم أن يحكموا فلن يكونوا أقلّ إجراماً وفساداً من النظام الذي يطالبون بإسقاطه. وهناك إضافات وحواشٍ "شعبية" كثيرة على هذا المتن، من نوع أنّ من تعرفه خير ممّن تتعرّف إليه، وأنّ من يأتي جديداً إلى الحكم سيكون أكثر نهماً للسرقة والفساد قياساً على من شَبع وامتلأت جيوبه، وأنّ كلّ حاكم، كائناً من يكون، سيملأ الدولة بجماعته، وأنّ ما يُحرّك هؤلاء المعارضين ليس الحرص على البلد أو الصالح العام كما يزعمون، بل الحسد والطموح الشخصي وحُبّ السلطة... إلخ. وتُشفَع هذه المحاكمات والقناعات بالإحالة إلى سلوك سيئ أتي به هذا "القائدُ" المُعارِضُ أو ذاك، أو إلى تصريح طائفي أو إقصائي من هذا أو ذاك، ممّن تكلّموا أو يتكلّمون باسم "الثورة"، بوصفها شهادات تُؤكّد الفكرة.
يجد هذا التصوّر طريقه إلى الحديث اليومي على هيئة تعابير "شعبية" مثل مديح شخص بأنّه ديمقراطي، ليس بمعنى أنّه يرى في الديمقراطية نظام حكم مناسبا، وينحاز ويعمل من أجل هذه الغاية، بل بمعنى أنّه من طبيعة شخصية تقبل الرأي الآخر، وتقبل التعدّدية والاختلاف. يمكن وصف الشخص بأنّه نزيه أو حكيم أو عادل... إلخ، ولكنّ وصفه بأنّه ديمقراطي على هذا النحو يُؤشّر إلى مفارقة استخدام صفة نظام سياسي (آليات وعلاقات قوى) لوصف طبيعة شخصية. لكنّ الأكثر أهمّية أن نزع هذه الصفة (الديمقراطية) عن شخصيات مُعارِضة لنظام الأسد، بسبب تصرّفاتٍ أو تصريحاتٍ سيّئة، واعتبار أنّ ذلك يُسوّغ استمراره، ينمّ عن مشكلةٍ في التصوّر، وكأنّ بناء نظام حكم ديمقراطي يتطلّب توفّر جماعة ذات طبيعة شخصية "ديمقراطية" تقوم بالمهمّة. هذا مُتعذّرٌ بطبيعة الحال، إذ من أين لنا أن نحصل على هؤلاء في وسط استبدادي مُزمِنٍ في المستويات كافّة، وليس في المستوى السياسي فقط؟ وإذا افترضنا أنّ هذا تحقّق لنا، يبقى: كيف نضمن تعاون هؤلاء "الديمقراطيين" واتفاقهم، وتجانس تصوّراتهم السياسية؟ وكيف يمكن منحهم السلطة الكافية لبناء نظام سياسي كامل؟ بعد ذلك، كيف نضمن أنّ السلطة التي سيَحوزها هؤلاء لبناء الديمقراطية الموعودة لن تغيّر نفوسَهم، وينتهوا إلى فرض أنفسهم إلى الأبد على الجميع، كما فعل غيرهم؟ فالسلطة مفسدة.
هذه النظرة شائعة، وتحتاج مناقشةً لأنّ انتصارها ينتهي في الواقع إلى أسوأ نتيجة سياسية يمكن تصوّرها، وهي الركون إلى الأمر الواقع السوري، الذي يصعب تصوّر ما هو أسوأ منه. يفهم أصحاب هذه النظرة التغيير الذي يريده السوريون في أنّه تغيير فئة حاكمة مُستبدّة واستبدال فئة أخرى ديمقراطية بها. والحال أنّ تغيير الأفراد لا يُعوّل عليه للتغيير في نظام الحكم، ذلك أنّ نظام الحكم أقوى من الأفراد. نظام الحكم القائم على أسس الاستبداد السياسي لن يفشل في صناعة "رئيس" مُستبدّ، وسوف يحيل الفئة الحاكمة إلى فئة مُستبدّة، بصرف النظر عن الطبيعة الشخصية للأفراد. النظام القائم على آليات استبدادية سوف يختار ويصنع في النهاية الأفراد المناسبين له، وسوف يُهمّش أكثر فأكثر النزيهين، وذوي الآراء المُستقلّة، وينبذهم بشتّى السبل، طالما حافظ هؤلاء على نزاهتهم واستقلاليتهم.
في المقابل، من شأن نظام الحكم القائم على أسس ديمقراطية (آلية إنتاج الشرعية السياسية المترافقة مع آليات للرقابة والمحاسبة) أن يضع حدوداً يصعُب تجاوزها في وجه الأفراد ذوي الميول التسلّطية والفاسدة والإقصائية. على هذا، يصحّ أكثر أن نقول إنّ نظام الحكم يصنع الفئة الحاكمة، من أن نقول إنّ الفئة الحاكمة تصنع النظام. وما يُرسي أسس النظام الديمقراطي هو توازن قوى بين جماعات مصالح وفئات لا تمتلك أيٌّ منها القدرة على سحق البقيّة، فتتواضع على آليات الحكم. ولا بدّ كي تتحقّق معايير ديمقراطية معقولة، أن يكون للمجتمع حضور واعٍ وقوي من خارج الدولة. لا يمكن أن يكون سلوك الفرد دليلاً كافياً على فساد أفكاره السياسية أو صوابها ونجاعتها. إذا كان أمين الخزنة يسرق ويزوّر الأوراق، ويضع المؤسّسة في عجز دائم، لن يكون الحلّ بتغيير الشخص، بل بابتكار آليات (برامج حواسيب وكاميرات مراقبة مثلاً) تمنع أمين الخزنة من التلاعب. وقد يبتكر هذه الآليات ويقترحها أحد أقلّ الأشخاص أمانة.
الفكرة الثانية، التي تشيع في النقاش السوري العام، أنّ شعوبنا لا تُحكَم إلا بالبسطار العسكري، وأنّ أيّ حكم آخر هو سبيل إلى الفوضى. إذا كانت الفكرة الأولى أكثر شيوعاً بين عموم الناس، فإنّ لهذه الفكرة جمهورا واسعا في وسط النُخبة. لها مساند وحُجّج ليست قليلة، وهو ما يُفسّر شيوعها بين كثيرين من المثقّفين العامّين، على أنّه شيوع "سرّي" في الغالب، تحت ضغط سيطرة الموجة الديمقراطية على العالم اليوم، فقليلون من يجرؤون على هذا القول إلّا في المجالس الخاصّة، مخافة أن يفقد الاتّساق مع "سمة العصر". هناك كتبٌ وتنظيراتٌ مضادّة للديمقراطية، مثل كتاب هانس هيرمان هوبه "الديمقراطية: الإله الذي فشل" (Democracy, The God That Failed)، الذي لا يخلو من أفكار وجيهة، ولكن يشدّ الانتباه أنّ هذا الكتاب صدر بالإنكليزية في 2001، وتُرجِم إلى العربية في 2019، ويجري تداوله بكثرة هذه الأيام. قد يكون في الأمر التماس مواساة ما، إلى جوار الحاجة إلى الفهم.
حديثاً، يُستدلّ على صحة الفكرة المُضادّة للتغيير بالمقارنة بين حال البلدان العربية قبل "الثورات العربية" وبعدها. والحال، إذا وضعنا جانباً مزايا النظام الديمقراطي وعيوبه، كلّها، فإنّ هذه المقارنة هي بالضبط ما يُؤكّد، على الضدّ ممّا يُراد منها، أهمّية النظام الديمقراطي بوصفه النظام الذي يسمح باستيعاب الخلافات السياسية، وفتح سبل الخروج منها بأقلّ قدر من الخسائر.
مشكلة النظام المُستبدّ أنّه لا يمتلك وسيلة سوى العنف في وجه الاحتجاجات، وفي ظروف مُعيّنة، كالتي توفّرت في الثورات العربية، انتهى الأمر إلى تدمير كلّ ما يمكن اعتباره إنجازات للنظام المُستبدّ. من هذه الزاوية، يمكن تشبيه النظام المُستبدّ ببناء لا يمتلك أمام الزلازل سوى الانهيار، ولا يمكن لأحد أن يضمن عدم حدوث الزلازل. التغنّي بالاستبداد على أنّه نظام الأمن وانعدام الفوضى، وتثقيل وزن البلد، وجعله رقماً صعباً بين الدول... إلخ، يُكافِئ، فضلاً عن تغافله التام عن الفساد المستشري والقمع الواسع والنقص المُتعدّد الجوانب لكرامة الأهالي، المقامرةَ بكامل مصير البلد، كما هو حال سورية اليوم.
----------
العربي الجديد
 

راتب شعبو
الجمعة 26 يوليوز 2024