ومن أوضح الدلائل على هذا «العقم» السياسي الوطني التعامل مع تطورات المسألة الفلسطينية باعتبارها مناسبة لتسجيل مواقف عابرة، أو التعاطي مع الأزمة السورية بوصفها مسألة إزاحة سلطة ومجيء أخرى. فلا سؤال يطرح عن حجم النازحين ومستقبلهم ودورهم على أرض لبنان سياسياً واقتصادياً وأمنياً، ولا عن الفوضى المتسعة التي تتجاوز الحدود، ولا على احتمالات لا يملك أحد بعد حصرها في مدى الأزمة وفي مخاطر التقاسم الدولي والإقليمي وبالتالي تكرار المشهد اللبناني والتفكّك والتطييف وما سيكون عليه حال «المجموعات الطائفية» السورية وعلاقتها باللبنانيين.
وعلى فرض أن المشهد سيكون إيجابياً، وأن العنف سيتوقف، فما هو مصير العلاقات بين الدولتين، وما هي مساهمة اللبنانيين في إعمار سوريا، وهل سيكون على لبنان أن يتحمّل أكثر اليد العاملة، وكيف له أن يؤسس لعلاقات طبيعية وقد تورّط في هذه الأزمة؟ وأبعد من سوريا، كيف يتعامل لبنان مع هذه الموجة الإسلاموية الصاعدة في المنطقة وما قد تفرضه من تحديات على ثقافة المنطقة السياسية وبين مكوّنات المجتمعات المتنوعة والتعددية؟
لكن من أين يأتي هذا الاهتمام أو الوعي وقد وطّدت الطبقة السياسية نفسها على جني المكاسب وتحصين الذات كمصدر من مصادر ديمومتها بمعزل عن مصير البلد وأهله. وكأن قناعة قد ترسخت بأن خوف الطوائف وأمنها يمكن أن يظلا سبباً لارتهان هذا الجمهور لنموذج الزعيم «المتعهّد» في الداخل والخارج خطة الحماية بمسايرة الدول وتنفيذ مصالحها. وفيما تخرج الملايين في العالم العربي طلباً لعيش كريم وحريات وديموقراطية ومن أجل إزالة الاستبداد وإزالة كل مظاهر التمييز بين المواطنين في الحقوق والواجبات، يعتقد كثيرون عندنا أن التاريخ يتقدم نحوهم لكي يكونوا «أمراء» على طوائفهم، غير مدركين أن غلبة الحركات الدينية أو غلبة الحركات المدنية تشكلان في الحالين تحدياً لمنطقهم السياسي ولوجودهم ذاته. ولو أقبل اللبنانيون اليوم على حوار وطني حقيقي لاستبعاد المخاطر الوافدة أو لتنحية مسائل خلافية تتعاظم بسبب المغالبة الطائفية على دولة لم تعد تحتمل هذه التجارب، لاستطاعوا أن يطوّروا صيغة اجتماعهم السياسي فيظل لبنان خارج احتمالات التفكك والانهيار. لكن في ما يبدو أن طبائع الاستبداد ليست محصورة في موقع من مواقع السياسة العربية، بل هي نمط سلوك وثقافة توطّدت في علاقة كل سلطة وتسرّبت بقوة إلى كل المؤسسات السياسية، بما فيها الحركات السياسية والأحزاب المعارضة. كما أن السياسة التي تقوم على التحشيد الشعبي بشعارات تخاطب الغرائز أو تخاطب نقاط الضعف الإنساني والعواطف قد فعلت فعلها حتى الآن في مناخ الفوضى الضاربة والعنف المستشري نتيجة ما يروّج عن حروب الثقافات والحضارات والهويات. ولا ندري كم ستصمد هذه الموجة في وجه احتياجات الناس اليومية المعاشية، وهي تستنزف في مواجهات ومعارك لا تخدم تقدمها الاجتماعي.
ففي لبنان بالذات تضغط الظروف الاقتصادية على أوسع الفئات الشعبية والقطاعات، وتتهاوى مواقع الطبقة الوسطى أمام الكمّ الهائل من استقطاب الثروة واحتكارها وهي في معظمها ثروة مسروقة من جيوب الناس وحقوقها. وإذا كانت هذه الأزمة لم تجد تعبيرها السياسي الاجتماعي بعد في انشقاق واسع عن وصاية سلطات الطوائف، إلا أنها صارت جزءاً من المشهد السياسي الوطني وفرضت على الحكومة ومكوّناتها جدلاً لم يحسم بعد في حجم التنازلات المطلوب تقديمها لاحتواء كتلة شعبية هي قاعدة انتخابية تساهم في تجديد شرعية السلطة. إلى ذلك ليس بسيطاً حجم المشكلات الأمنية السياسية والجنائية وظاهرات التمرد والطفر والتذمرات والشكاوى من تراجع الخدمات والإدارة اليومية لحياة اللبنانيين في الطرقات وفي الكهرباء والماء والهاتف والمدارس والمستشفيات والبيئة.
ولقد تفتحت عيون اللبنانيين على المفارقات العجيبة بين التوظيفات العملاقة، وأكثرها يستولي على الملك العام ويحظى بامتيازات سلطوية، وبين أزمة سكن معظم الشباب اللبناني المنتج في لبنان. بل ان صورة الحروب الصغيرة الدائرة في طرابلس تنتسب في جذورها إلى بيئة الحرمان الذي يصبح مرتعاً سهلاً لصيد تجار الحروب و«عطاءاتهم المشروطة»، وليس بعيداً من هذا حجم الأمراض الجسدية والنفسية التي يكتسبها الناس من الضغوط الكثيرة ومن الغذاء والهواء والدواء والماء وما فيها من سموم لا تقوى الدولة على مراقبتها ولا محاسبة المسؤولين عنها.
كما صار جزء من المجتمعات الطائفية أكثر هروباً نحو أشكال من التديّن السلبي الانهزامي أمام صعوبات الحياة، ونحو أشكال من التعصب المذهبي الذي يحيل الأزمات إلى الأطراف الأخرى عن واقع هو مسؤولية قيادة المجتمع كله. ويكاد المرء يضيق بهذه الظواهر إلى حد طلب التغيير، أي تغيير، أو «انفجار» على ما نسمع من ردود الأفعال الشعبية البسيطة.
فلقد ثبت أن الحرب الاقتصادية التي وقع اللبنانيون ضحيتها كإحدى وسائل الصراع السياسي والإقليمي، قد أوجعت الناس على الأقل نفسياً أكثر من الحروب المسلحة أو هكذا يخيّل إليهم. فهم لا يدركون العلاقة القائمة بين هذين الشكلين من الحروب ومن «الاستثمار». ويجب ألا ننسى أن الذين يموّلون حروب الفقراء كما في طرابلس أو غيرها الكثير إنما يقتلون الناس مرتين. فلا حروب عادلة هذه وظيفتها بدلاً من الحلول السياسية الضرورية والممكنة. فهل بتنا نتحدث عن يأس أو عجز؟ لعلنا شارفنا على هذا المصير ما لم تحدث صدمة إيجابية ترفع عن صدورنا هذا الكابوس.
وعلى فرض أن المشهد سيكون إيجابياً، وأن العنف سيتوقف، فما هو مصير العلاقات بين الدولتين، وما هي مساهمة اللبنانيين في إعمار سوريا، وهل سيكون على لبنان أن يتحمّل أكثر اليد العاملة، وكيف له أن يؤسس لعلاقات طبيعية وقد تورّط في هذه الأزمة؟ وأبعد من سوريا، كيف يتعامل لبنان مع هذه الموجة الإسلاموية الصاعدة في المنطقة وما قد تفرضه من تحديات على ثقافة المنطقة السياسية وبين مكوّنات المجتمعات المتنوعة والتعددية؟
لكن من أين يأتي هذا الاهتمام أو الوعي وقد وطّدت الطبقة السياسية نفسها على جني المكاسب وتحصين الذات كمصدر من مصادر ديمومتها بمعزل عن مصير البلد وأهله. وكأن قناعة قد ترسخت بأن خوف الطوائف وأمنها يمكن أن يظلا سبباً لارتهان هذا الجمهور لنموذج الزعيم «المتعهّد» في الداخل والخارج خطة الحماية بمسايرة الدول وتنفيذ مصالحها. وفيما تخرج الملايين في العالم العربي طلباً لعيش كريم وحريات وديموقراطية ومن أجل إزالة الاستبداد وإزالة كل مظاهر التمييز بين المواطنين في الحقوق والواجبات، يعتقد كثيرون عندنا أن التاريخ يتقدم نحوهم لكي يكونوا «أمراء» على طوائفهم، غير مدركين أن غلبة الحركات الدينية أو غلبة الحركات المدنية تشكلان في الحالين تحدياً لمنطقهم السياسي ولوجودهم ذاته. ولو أقبل اللبنانيون اليوم على حوار وطني حقيقي لاستبعاد المخاطر الوافدة أو لتنحية مسائل خلافية تتعاظم بسبب المغالبة الطائفية على دولة لم تعد تحتمل هذه التجارب، لاستطاعوا أن يطوّروا صيغة اجتماعهم السياسي فيظل لبنان خارج احتمالات التفكك والانهيار. لكن في ما يبدو أن طبائع الاستبداد ليست محصورة في موقع من مواقع السياسة العربية، بل هي نمط سلوك وثقافة توطّدت في علاقة كل سلطة وتسرّبت بقوة إلى كل المؤسسات السياسية، بما فيها الحركات السياسية والأحزاب المعارضة. كما أن السياسة التي تقوم على التحشيد الشعبي بشعارات تخاطب الغرائز أو تخاطب نقاط الضعف الإنساني والعواطف قد فعلت فعلها حتى الآن في مناخ الفوضى الضاربة والعنف المستشري نتيجة ما يروّج عن حروب الثقافات والحضارات والهويات. ولا ندري كم ستصمد هذه الموجة في وجه احتياجات الناس اليومية المعاشية، وهي تستنزف في مواجهات ومعارك لا تخدم تقدمها الاجتماعي.
ففي لبنان بالذات تضغط الظروف الاقتصادية على أوسع الفئات الشعبية والقطاعات، وتتهاوى مواقع الطبقة الوسطى أمام الكمّ الهائل من استقطاب الثروة واحتكارها وهي في معظمها ثروة مسروقة من جيوب الناس وحقوقها. وإذا كانت هذه الأزمة لم تجد تعبيرها السياسي الاجتماعي بعد في انشقاق واسع عن وصاية سلطات الطوائف، إلا أنها صارت جزءاً من المشهد السياسي الوطني وفرضت على الحكومة ومكوّناتها جدلاً لم يحسم بعد في حجم التنازلات المطلوب تقديمها لاحتواء كتلة شعبية هي قاعدة انتخابية تساهم في تجديد شرعية السلطة. إلى ذلك ليس بسيطاً حجم المشكلات الأمنية السياسية والجنائية وظاهرات التمرد والطفر والتذمرات والشكاوى من تراجع الخدمات والإدارة اليومية لحياة اللبنانيين في الطرقات وفي الكهرباء والماء والهاتف والمدارس والمستشفيات والبيئة.
ولقد تفتحت عيون اللبنانيين على المفارقات العجيبة بين التوظيفات العملاقة، وأكثرها يستولي على الملك العام ويحظى بامتيازات سلطوية، وبين أزمة سكن معظم الشباب اللبناني المنتج في لبنان. بل ان صورة الحروب الصغيرة الدائرة في طرابلس تنتسب في جذورها إلى بيئة الحرمان الذي يصبح مرتعاً سهلاً لصيد تجار الحروب و«عطاءاتهم المشروطة»، وليس بعيداً من هذا حجم الأمراض الجسدية والنفسية التي يكتسبها الناس من الضغوط الكثيرة ومن الغذاء والهواء والدواء والماء وما فيها من سموم لا تقوى الدولة على مراقبتها ولا محاسبة المسؤولين عنها.
كما صار جزء من المجتمعات الطائفية أكثر هروباً نحو أشكال من التديّن السلبي الانهزامي أمام صعوبات الحياة، ونحو أشكال من التعصب المذهبي الذي يحيل الأزمات إلى الأطراف الأخرى عن واقع هو مسؤولية قيادة المجتمع كله. ويكاد المرء يضيق بهذه الظواهر إلى حد طلب التغيير، أي تغيير، أو «انفجار» على ما نسمع من ردود الأفعال الشعبية البسيطة.
فلقد ثبت أن الحرب الاقتصادية التي وقع اللبنانيون ضحيتها كإحدى وسائل الصراع السياسي والإقليمي، قد أوجعت الناس على الأقل نفسياً أكثر من الحروب المسلحة أو هكذا يخيّل إليهم. فهم لا يدركون العلاقة القائمة بين هذين الشكلين من الحروب ومن «الاستثمار». ويجب ألا ننسى أن الذين يموّلون حروب الفقراء كما في طرابلس أو غيرها الكثير إنما يقتلون الناس مرتين. فلا حروب عادلة هذه وظيفتها بدلاً من الحلول السياسية الضرورية والممكنة. فهل بتنا نتحدث عن يأس أو عجز؟ لعلنا شارفنا على هذا المصير ما لم تحدث صدمة إيجابية ترفع عن صدورنا هذا الكابوس.