فبعد نصف قرن من تكريس دفن الإرث الكارثي الفادح لماو على يد خلفائه "المخلصين"، وبعدما تحققت أعظم قفزة تنموية في تاريخ البشرية شملت ربع سكان الأرض، تدخل الصين حقبة جديدة.
في عهده، هندس دينغ هسياوبينغ بإبداع القطيعة مع ماو. فلقد دمر ماو الاقتصاد، ونسيج المجتمع، في سلسلة من الحروب الأهلية سمّاها الثورة الثقافية والقفزات. وتمت تصفية جسدية لخيرة النخب، ودمرت صروح الثقافة الصينية العظيمة، وراح ضحيتها 20-25 مليون، (بحسب المصادر الحزبية) من "المحرفين والمفسدين بالثقافة الغربية، والعملاء"، لتتحول الصين دولة نامية لا يزيد دخلها عن 3% من الاقتصاد العالمي.
أخمد دينغ الصراع المجتمعي، وردّ الحمى العقائدية للماركسية الصينية التي كادت تفجّر الصين، وحرّر المدن "الحرة"، لتصبح منصة لقاعدة صناعية هائلة، ولتمضي البلاد نحو الاندماج الكامل في العولمة، تأسيساً لنهضة رأسمالية اقتصادية خارقة، لكنها بقيت رأسمالية مقطوعة الرأس سياسياً.
وبفضله أصبحت الصين قبلة رؤوس الأموال والمبدعين، وأعيدت هيكلة الاقتصاد. وعلى عكس الفاسدين من البيروقراطيين الحزبيين والطفيليين الفاسدين، صارت هذه الطبقة إوزّة خارقة تبيض ذهباً بالمليارات.
كما أعيدت هندسة أيديولوجيا الحزب، لتصبح خلطة مبدعة من شيوعية فلاحية مطعّمة بجرعة قومية عالية. ورغم مبادئ "المادية التاريخية"، أمكن نزع فتيل الصراع الاجتماعي إلى حين، ليدفن عميقاً كبركان مؤجل قد يهدد الثورة.
أتاحت هذه السياسة، قمع التناقضات الفلكية في مستويات التطور وتوزيع الثروة، وانضم حيتان المال إلى الحزب، ووضعوا على صدورهم صور ماو، لتفتخر بيكين الشيوعية بأنها العاصمة الأولى التي تجول فيها أكثر 25 ألف سيارة فارهة، ثمن كل منها أكثر من نصف مليون دولار. واستخدمت الأدوات الإدارية لخنق الصراع بين الريف والمدينة، ولينشأ عالمان متفاوتان اجتماعياً وسياسياً، يتشاركان الأرض ويتناقضان حتى العظم.
لكن استحقاقات التاريخ لا تفنى وتبقى جمراً تحت الرمال، إذ لا تتسامح الديموغرافيا ولا الصراعات الاجتماعية مع العبث الذي قامت به البيروقراطية الحزبية الصينية. فبين ريف مكتظ وفقير ومتخلف يتكاثر، وحواضر مدنية أسطورية الثراء والحداثة يعيش فيها أقل عن خمس السكان، وبين سياسة الطفل الواحد، التي خفضت الصين كلفة رعاية الجيل الجديد، لكنها دخلت في مأزق الهوة شاسعة، بين عدد الرجال والنساء تمتد لأجيال، تحولت المدن الصينية الفارهة ملاذاً لأكثر من مئتي مليون مهاجر غير شرعي من الريف في وطنهم، يشكلون وقود التنمية، لكنهم محرومون من حقوق أساسية في المواطنة، مثل الرعاية الصحية، والتوظيف والاندماج في الحياة المدنية التي لم يعرف أبناؤهم إلا الحياة فيها. وبذريعة الصراع والمخاوف الأمنية، تم إلغاء مسار الارتقاء في الحزب والدولة المستند إلى الكفاءة والمقدرة، ليصبح المسار الوحيد المتاح للارتقاء لأبناء الشيوعيين المخضرمين، وضاقت بالتالي قاعدة التجديد والتحالف في الحزب.
فيما تنضج معجزة رجال الأعمال المنتجين، هدرت البيروقراطية وسماسرتها مئات المليارات من دولارات القروض الحكومية، في مشاريع "مدن الأشباح"، لنشهد اليوم الهدم المحزن لملايين الأبراج إثر الانهيار المتدحرج للفقاعة العقارية.
وفوق كل ذلك جاءت كوفيد19، والسياسة المسدودة الأفق لسياسة "صفر إصابات" التي تزيد في تراجع التنمية وتسرع هروب رأس المال والتقنيات والمبدعين.
في نهاية الأمر، تضافرت مجمل التناقضات المقموعة والمؤجلة، سياسياً أو إدارياً وحزبياً، لتولد معضلة اجتماعية غاية في التعقيد.
وتضافر تراجع خصوبة الطبقة المتوسطة المدينية، مع سياسة الطفل الواحد، مع التفاوت الشاسع في مستويات التطور بين الساحل والداخل والريف والمدينة، مع المشكلات القومية الكامنة، لتبلغ الصين قمة طاقتها الديموغرافية، وتبدأ في الانزلاق بعيداً من الاستقرار والسّلم المجتمعي، ديموغرفياً واقتصادياً، والأهم سياسياً.
لا يكمن جوهر هذه المعضلات في كيفية حل هذه التناقضات، بل في الطريقة التي سيختارها الزعيم شي جينبينغ لحلها.
كانت المعضلات ماثلة، ولا شك في خاطر أعضاء المؤتمر العشرين للحزب، حيث يخاطب الحزب نفسه ومجتمعه والعالم، ليذكرنا بأنه ما زال شيوعياً حتى العظم، ولكن!
وكغيرهم من الماركسيين اللينينين، ما إن تختلط الثروة بالثورة، حتى تصيب الثوريين "الحكة الرأسمالية"، وتغرق في الفساد. وبعدما كان التصور أن تذهب الصين نحو نموذج هجين من رأسمالية لتتدرج نحو ديموقراطية اجتماعية ليبرالية، تشير وثائق المؤتمر العشرين إلى منحى آخر.
وثائق الحزب هي الحديث الداخلي للحزب مع نفسه. ومن الوهم الاعتقاد أنها مجرد مراسم مضبوطة لتنصيب الزعيم. وهي لم تكن يوماً كذلك. إنها لقطة لحظية لصورة الصراع السياسي والاجتماعي والعقائدي في الحزب والمجتمع. وإذ يعكف المختصون على قراءة متأنية لنصوص المؤتمر، يدرك، حتى أنصار الصين، أننا على عتبة خطرة تقطع الأنفاس.
في المؤتمر تم إلغاء الفقرات في النظام الداخلي، وكرّس شي جينبينغ تكريساً شبه نهائي. لكن ملامح الغموض في بعض الفقرات تؤكد أن مآلات الصراع الداخلي هي التي ستحدد الأجوبة. وفيما يعلو صوت الفرق الحزبية في الجامعات والمعامل الخاصة، ويتم فرض قوائم المرشحين للمناصب على كل المستويات، يدخل الاقتصاد في عطالة وأفق مسدود بسبب سياسات صفر كوفيد، ويشعر رجال الأعمال بالخوف ويغادرون.
يُعرف شي جينبينغ بقوته الداخلية الراسخة، والإحساس العميق بوجهة البلاد. وإذ يستوحي الرجل ثقافته من الماركسية اللينينية وتاريخ الحزب، يبدي صرامة منقطعة النظير في التخلص من منافسيه. وإذ يقول شي إن الشيوعية تسري في عروقه، تشير وثائق المؤتمر إلى نهج جديد، يهدف إلى قطع الرأس الاقتصادي والسياسي للرأسمالية الصينية الجبارة، وتقليصها لتهيمن الشركات الحكومية والحزب على مجالس الإدارة. ففي جو يعبق بالفساد والتحالف بين البيروقراطية ورجال الأعمال المضاربين، تصبح الرأسمالية المنتجة ومشاريع الإقلاع المبدعة، فريسة سهلة.
يدرك شي ببراغماتيته المعهودة، سر إوزّته التي تبيض ذهباً، لتحقق نسب النمو العالية. لكنه يفترض أن يدرك أيضاً، أن كل ذلك ما كان يمكن تصوره، من دون الاندماج في السوق العالمية، والسلام المجتمعي، وإطلاق قدرات رجال الأعمال المنتجين والمبدعين، والحرية الأكاديمية والمنافسة الفردية.
يرجح المراقبون أن يترسخ الانعطاف الصيني نحو اليسار، لكن لا يزال ثمة أمل أن لا يقدم شي على التضحية بإوزته الذهبية. إذ من يستطيع تصور كارثة كونية أخرى في الصين؟
---------
النهار العربي
---------
النهار العربي