فما الذي يريده لومير؟ إنه يريد أن يكون الاتحاد الأوروبي أداة استراتيجية تؤسس لاستقلال أوروبا وتعيد تموضعها بين اللاعبين الكبار. لكن الواقع الراهن للعلاقات الدولية يؤكد، كما لم يفعل أبداً، أن أي تضافر استراتيجي لا بد أن يستند بعمق إلى تضافر وتكامل في النموذج الاقتصادي والسياسي.
وبينما تعيد الحرب الأوكرانية تشكيل العمران الاستراتيجي للعالم، تتقطع أوصال العولمة الاقتصادية، وتتفكك السوق الدولية وسلاسل التموين، لتخلي المكان لانقسام العالم إلى أقاليم اقتصادية واستراتيجية. في هذا المناخ العام، يتفاقم الشعور بانعدام الوزن لدى معظم دول العالم.
إضافة الى الأرجنتين والهند وتركيا، تقف فرنسا واحدة من الدول النادرة في العالم التي تسمح لها مواصفاتها نظرياً بأن تكون ركيزة ومحركاً لمنظومة اقتصادية واستراتيجية لإقليم واسع، يمتد من بحر الشمال وصولاً إلى أفريقيا، وبأن تحول الأزمة إلى فرصة. إنها لحظة تاريخية وحقيقية! ولكن! لكن النخب الفرنسية تحتاج إلى عزيمة ذاتية كبيرة، وهي التي تعاني أصلاً أزمة بنيوية عميقة. لكن من دون هذا التحول، لن تتمكن فرنسا من اقتناص الفرصة.
بالأصل منحت الجغرافيا فرنسا موقعاً كونياً فريداً. ورغم الأفول التدريجي لدورها بداية القرن الماضي، وما تلاه من افتقادها موقعها كقطب دولي بعد انقسام العالم إلى قطبين، بعدما أصبحت فرنسا جزءاً من هذه الماكينة الغربية الكبيرة.
لكن، رغم ضغوط التاريخ والأمر الواقع، سمح تكامل الموارد وقوة العامل البشري لفرنسا، بالاحتفاظ باستقلاليتها النسبية، وحماية قاعدتها الإنتاجية الوطنية وسوقها الداخلية، حتى تجاه أوروبا، كما حافظ جيشها على بنية مستقلة من دون أن يذوب أطلسياً.
الأزمة - الفرصة التي يتيحها التحول التاريخي الراهن، تسلط الضوء من جديد على فرنسا. فمع تفكك العولمة أمام عيوننا، يتحوصل البنيان الاقتصادي للعالم، ليتمحور حول مراكز اقتصادية استراتيجية وأسواق إقليمية للموارد والبضائع، إذ إننا نشهد الآن بداية "أقلمة" كونية، تبحث خلالها كل الدول عن ركيزة إقليمية مركزية لتستند إليها. وكي تكون دولة ما مؤهلة لذلك الدور، ينبغي أن تكون مكتفية، متكاملة، ومؤهلة ودينامية، لتنسج شبكتها الإقليمية حول نسيجها الوطني وتوحد الموارد والأسواق.
هنا بالذات وفي هذه اللحظة، تبرز الفرصة الفرنسية. فبالنسبة إلى الكثير من دول أوروبا، ودول جنوب المتوسط، بل ولقسم كبير من أفريقيا السوداء، تمثل فرنسا فرصة كبيرة. فلقد بنت فرنسا دورها السابق عبر القرون كقوة أوروبية متوسطية-أفريقية، ثم كقوة كونية. وهي تستند الآن إلى المواصفات ذاتها كقاطرة اقتصادية استراتيجية في إقليم واسع يبحث عن قطب مركزي.
تتمتع فرنسا بواحدة من أكثر مناطق الأرض خصوبة، وحتى في أصعب أيام كوفيد، أظهرت فرنسا قدرتها على إدارة سلاسل الإنتاج الداخلية، وتخفيف آثار الانكماش. وإذ تمتد شبكتها النهرية والبرية كشرايين تدمج القوم والثقافة والاقتصاد والسياسة الفرنسية، تصبح فرنسا، بالنسبة إلى إقليمها، حاجة تقنية متقدمة، وقوة سياسية، وضرورة دبلوماسية. فلقد أمنت هذه الخصائص أطول تاريخ من التماسك العرقي والثقافي لفرنسا، رغم ما يخلفه إدمان الفرنسيين للثورات من هزات خطرة على كيانهم.
ورغم ما حقق الفرنسيون بفضل نموذج الدولة المركزية والليبرالية الاجتماعية، لكن الاستجابة لضرورات الفرصة الراهنة، ستتطلب من الشعب والنخب الفرنسية، قدرة كبيرة على التحول لتجاوز النموذج الراهن بعدما صار يكبل مفاصل المجتمع.
ثمة عقبات كبيرة تتطلب تحولات لاقتناص الفرصة التاريخية. ستتطلب تحولات في تموضع فرنسا تجاه شركائها الأوروبيين والأطلسيين، بما فيها إيطاليا وإسبانيا وبولونيا ودول البلطيق، وتركيا، وتحولات في سياساتها الجيو اقتصادية نحو جنوب المتوسط وأفريقيا، والأخطر هو التحولات الضرورية في الداخل الاجتماعي، والتكيف مع التغيرات الديموغرافية والاقتصادية، سواء علي صعيد الدولة المركزية أم مفاهيم الهوية ودور المؤسسات.
علي الصعيد الأوروبي، أمسكت فرنسا وألمانيا بتلابيب الاتحاد الأوروبي إمساكاً خانقاً. ولا أدل إلى ذلك، من الإفلاس الزاحف في الأرجاء الأوروبية الأضعف. وفيما تذرعت الدول الأوروبية القوية بـ"الكسل المتأصل" لدى شركائها الأوروبيين الشرقيين، كمبرر لتجنب مساعدتهم، كانت اقتصادات دول "الأطراف" الأوروبية، تتهاوى الواحد تلو الآخر.
فمن إفلاس قبرص إلى اليونان إلى أزمة الديون الخانقة في إيطاليا وإسبانيا ورومانيا وبلغاريا، إلى حد وصلت الأمور بالرئيس الهنغاري للقول إنه سيدفع ديونه للاتحاد الأوروبي بالفورينت الهنغاري وليس باليورو، ليتضح خطر استمرار السياسات النقدية الراهنة التي تجعل من المستحيل على الاقتصادات الأضعف في أوروبا أن تقلع وتندمج في الاتحاد.
حقيقة الأمر أن الكسل كان فرنسياً ألمانياً في إنتاج الحلول للمشكلات الأوروبية المزمنة، سواء تجاه الاستراتيجية العسكرية والأمنية لمرحلة ما بعد الشيوعية وما بعد أوكرانيا، أم تجاه تقديم بديل تنموي ممكن للدول الأوروبية الأضعف، وتجاه تطوير علاقاتها مع جوارها المتوسطي الأفريقي، وفشلها في أن تكون بوتقة صهر إيجابي لثقافات المهاجرين، وكسلها في مقاربة ركام قضاياها الاجتماعية، إضافة إلى ما أصبح بديهياً من أن عليها أن تقرن القول بالفعل تجاه روسيا وتجاه وحدة السوق ووحدة القوة الأوروبية.
يقرع الجنوب المتوسطي باب فرنسا من جديد، لكن الكثير سيتوقف على مقدرة النخب الفرنسية على مجابهة لحظة الحقيقة.
نعم، وكما في الولايات المتحدة، ثمة في فرنسا نخب آفلة تقطع الطريق على نخب صاعدة وتخاطر بإدخال البلاد في مرحلة من الشعبوية المدمرة. وحين يرتبط الاستقرار الاجتماعي والنمو الاقتصادي بتجديد كبير في مقاربات الدولة الأمة لهويتها ووظائفها الاقتصادية والاجتماعية، تكون الأمة أمام تحد كبير. إزاء تحول عميق من هذا النوع، تحتاج النخب الفرنسية لتطويق الشعبوية المتأصلة بتعبيراتها المختلفة، والتي تدفع كل أقطاب المجتمع للتطرف والصدام.
لقد أصبحت استعادة التماسك المجتمعي الذي هزته الاضطرابات الاجتماعية الأخيرة، مهمة سياسية-ثقافية واقتصادية. فبقدر ما تنفتح الظروف الجيو-استراتيجية أمام فرنسا، بقدر تهددها بالمقابل مخاطر الصدام الاجتماعي. وكمثال علي ذلك، كتبت مجموعة من 50 جنرالاً متقاعداً أواخر نيسان (أبريل) رسالة تحذر من شبح حرب أهلية ضد "جحافل إسلامية من الضواحي". مجرد كتابة هذه الوثيقة، تظهر خطورة الانقسام في البلاد.
إنها أزمة نخب. وسيكون من المؤسف والمكلف جداً لفرنسا ولدول الإقليم ألا تتمكن فرنسا من تجاوز هذه العقدة.
-------
النهار العربي
-------
النهار العربي