ولكن حكايات الجنيّات تذهبُ خطوة أبعد، فهي لا تقتلُ الأم والأب، بقدر ما تحولهم إلى خصوم. وهي مرويّاتٌ بالغة الجرأة - إلى حدِّ الرعونة في نظر المربّين الفضلاء - في استنطاق ما هو مظلمٌ وغير مريح.
فالبطّة الأم ترى فرخها القبيح عُرضة للتنمّر والطرد دون أن تذود عنه. والد رابونزل قايضَ حياته بوهبِ ابنته للساحرة. وبالنسبة لجاك والفاصوليا العملاقة، كيف تجبر الأم طفلها الوحيد - مرة بعد مرة - على الذهاب إلى العماليق لسرقة كنوزهم؟ ولماذا لم يختر والدا سندريلا وبياض الثلج زوجة طيّبة في زواجهما الثاني، كيف يمكن أن يخدعا إلى هذه الدرجة؟
لكن كل تلك القصص تبدو بمثابة تنويعات شاحبة أمام حكاية هانسل وغريتل.
* * *
لم أفهم قط السّبب الذي جعل والدا هانسل وغريتل يرغبان في التخلص منهما. ربما لأن الحكاية نجحت في رصد الواقعة من أعين الطفلين، والطفل لا يمكنه فهم أمرٍ كهذا.
لكن يتّضح مع شيءٍ من التقصّي، وهو ما تطرّقت إليه أروى خميّس في كتابِها "كوب قهوة في جزيرة الكنز"، بأنَّ هذه الحكاية المروّعة لها جذورٌ ضاربة في الحقيقة. فبعد المجاعة العظيمة التي سادت أوروبا في (1315-1321) تولّدت قصصٌ عديدة عن عائلات تتخلى عن أطفالها في قلبِ الغابة، إما لعجزهم عن إطعامهم، أو الأسوأ؛ لتجنّب أكلهم.
في النسخة الأولى من الحكاية، والتي وثّقها الأخوين غريم عام 1812، أراد كلا الوالدين التخلّص من الطفلين. وفي نسخةٍ لاحقة، مخفّفة قليلًا، استبدلت بالأم زوجةِ أبٍ شرّيرة كانت صاحبة الاقتراح.
ولأن الحكايات الجيدة لا تكفُّ عن ولادةِ نفسها، أعاد نيل غيمان حكاية ما حدث بطبعة جديدة من بلومزبيري، مع لوحات للورينزو ماتوتي بالأبيض والأسود، ولكن الحكاية ما زالت هي؛ خذ الطفلين إلى الغابة، ربما يلتقطهما عابر سبيل يعتني بهما أفضل مما نفعل، ويمكن أن تنهشمها وحوش الغابة، لكن لا خيار آخر. الأمرُ منطقيٌّ وبسيط مثل معادلةٍ رياضية، إطعام إثنين أسهل من إطعام أربعة.
* * *
أعتقدُ بأن أجمل قراءاتنا لحكايات الجنيّات والقصص الشعبية والأساطير تتمُّ باعتبارها مسرحًا للنّفس على طريقة كارل يونغ. حيثُ الذات هي توليفة صوتية من جميع شخصيات الحكاية. أي أنَّ الأبوين، والطفلين، والساحرة والغابة والبيت المصنوع من كعك الزنجبيل هي قوى تلعبُ أدوارًا في النّفس، بوعيٍ ومن دونِ وعي.
يرمزُ الوالدان في الحكاية لما هو غير ناضجٍ، ليس فقط بالمعنى المسطّح لشخص لا يريد النهوض بمسؤولياته (أطفاله)، بل تحديدًا في النكوص الأخلاقي إلى المنطق الماديّ، وتغييب أي صوتٍ للعاطفة والتعاضد.
في كتابه (النرجسية والتفرد) يذهب يونغ إلى القول بأن غاية النّفس هي النضج، أي أنها، رغبت بذلك أم لا، ستتحرك دائمًا بهذا الاتجاه، وإنَّ عرقلة هذه الرحلة هو ما يفضي بالمرء إلى عُصاب أو ذُهان، إلى تضخم نرجسي أو تلاشٍ مرضيّ للذات.
ولعلَّ أفضل من هاجرَ بهذه الفكرة من مضمار التحليل النفسي إلى مضمار الأدب هو جوزيف كامبل، حيث رصد في كتابه (البطل بألف وجه) جملة من القواسم المشتركة - بين الأساطير والقصص الشعبية وحكايات الجنيات - عن مسيرة البطل. باختصار؛ عندما يغيبُ النضج، وتحتاج الذات إلى تعلّم درسٍ جديد، ينبغي الخروج في مغامرة؛ ينبغي إرسال الطفلين إلى الغابة.
أي أن رحلة هانسل وغريتل لا تختلفُ جوهريًا عن رحلة جلجامش وإنكيدو، أو عن مغامرات السندباد في ألف ليلة وليلة، أو عن رحلة دورثي إلى بلاد أوز. إنها دائمًا الحكاية نفسها، تعيد ولادة نفسها بتفاصيل جديدة، ضمن سياقات جديدة، لتحكي الشيء نفسه.
* * *
في هانسل وغريتل، كان يتمُ الطفلين مصطنع، وكانت الأم الجائعة تتحرك تجاه غاية واحدة (أن تُثكل بطفيلها)، وكان الأب رخوًا أمام مناشدات الزوجة بضرورة التخلّص من الصغيرين.
تنتهي حكايات الجنيّات غالبًا بشكلٍ مرضٍ، حتى في حالة الموتِ والفقد. فهي تحكي دائمًا رحلة الذات لإنضاج عناصرها الأكثر أنانية وهشاشة، أو التصالح مع قوانين العالم الحتمية؛ مثل الألم والفناء.. وفي حالة هانسل وغريتل، تنتهي الحكاية بأنَّ الثلاثة الناجين (الأب والطفلين) لم يعرفا الجوع بعدها أبدًا.
تشرحُ كلاريسكا بينكولا إستي في كتابها (نساء يركضن مع الذئاب) النتائج الوخيمة لغياب الوالدين المعنويّ، وليس بالضرورة المادي؛ يكبر الطفل بلا إرشاد، فيصبح عاجزًا عن تبيّن الخطر عند مجيئه. إنّه مكسورٌ في حدسه، جهاز الإنذار العضويّ الذي يحمله في جسده معطّل، وعليه فهو أكثر عرضة للأذى من الآخرين؛ تنمّر، تحرّش، اغتصاب، وعلاقات سامة.
لهذا السبب، سيعود الطفلان إلى كوخِهما بعد أن يتمّ التخلص منهما للمرة الأولى، رغم علمهما بأنَّهما قد نُبذا. فالبدائل معدومة، وهذا نمط شائع لمن يعيش في علاقة اضطهادية. لقد ظنّا بسذاجةٍ أن الأمر لن يتكرّر. ولهذا السّبب، أيضًا، سقطا في الغواية أمام كوخ الساحرة المصنوع من كعك الزنجبيل.
إن هانسل وغريتل؛ هذا الجانب الهشّ من الذات، ينبغي أن يتعلّما بعض الأمور.
* * *
تنضح حكاية هانسل وغريتل بالرموز بشكلٍ يكادُ لا يكفّ.
الغابة أولًا، مسرح الأحداث لأبرز حكايات الجنيات والقصص الشعبية، بكل ما توحي به من دلالات؛ تشابك المصائر، التيه، الخروج من الألفة والدُّخول في ما هو وحشيٌ وغير مدجّن، الغرائز، الغرابة، بطن الحوت، سرّة العالم بتعبير جوزيف كامبل، العالم السُّفلي الذي ابتلع عشتار وتمّوز البابليين، بيرسيفوني وديميتر الإغريقيين، أو بلغة يونغ نفسه؛ اللا وعي.
أما بالنسبة للطفلين، فمن الصعب تخيّلهما دون استحضار نظرية يونغ عن الأنيما والأنيموس؛ المبدأ المؤنث والمبدأ المذكّر، أحدهما خطّي ومباشر وعقلاني (الأنيموس)، والآخر غامض وعلائقيّ وحدسي (الأنيما).
كان هانسل هو صاحبُ الحيلة، فهو الذي جعل الحصى علاماتٍ على الدرب حتى يتبيّن طريق العودة إلى الكوخ] المكان نفسه الذي نبذهما[، وهو الذي كان كلما طلبت منه الساحرة أن يمدَّ أصبعه لكي تتفحص اكتنازه باللحم وجاهزيته للأكل يستغل ضعف بصرها ويمدُّ لها عظمة. لقد كانت حيلًا عقلية، ذكية، لكنها لم تكن كافية في ظل غيابِ الحدس؛ العودة إلى الكوخ حيثُ النبذ المحتوم، السقوط في براثن عجوز تأكل لحوم البشر، التعرّض لخطر الموت مرارًا.
لقد كان محتمًّا على غريتل أن تنقذ الذات من نفسها. غريتل بصفتها الأنيما (المبدأ الأنثوي المُعطَّل) التي لم تصدّق أن والداها قررا التخلص منها، والتي لم تمنع شقيقها من أكل كعك الزنجبيل، ولم تشعر بالخطر عندما نظرت إلى الساحرة. ربّما كان ينبغي على غريتل أن تمضي بعض الوقت مع العجوز - آكلة لحوم البشر - لكي تتعلّم الدّرس.
ولكن ماذا بشأن الساحرة؟ تلك العجوز ضئيلة الجسم، الكفيفة القابلة للخديعة، آكلة لحوم البشر، التي تستدرج الأطفال بكعك الزنجبيل، ثم تطعمهم السكاكر والكريما حتى يسمنوا ويصير لحمهم أطرى قبل أكلهم. تحاورُ الساحرة العجوزُ شخصياتٍ أخرى؛ بابا ياغا من الفلكلور السلافي، السعلوة وحمارة القايلة في بعض دول الخليج، الإله كرونوس الإغريقي الذي أكل أطفاله، أو الأبِ في (ألف ليلة وليلة) الذي أكل زوجته (البقرة) وكاد يأكل ولده (العجل)، أو مثل حكاية الأب في الكوميديا الإلهية، الذي حبسَ مع أولاده الأربعة دونما طعام حتى انتهى به الأمر إلى أكلهم، لأنَّ "الجوع أكثر سطوة من الحزن" كما علّق دانتي.
تمثل العجوز الجانب الأكثر أنانية من الذّات، وترمز إلى الغرائز المادية في أكثر أشكالها فجاجة؛ إنها الأمُّ نفسها وقد انتقلت من الكوخ في طرف الغابة إلى كوخٍ مصنوع من كعك الزنجبيل، مدفوعة بفكرة واحدة؛ ألا تجوع. مثل أي شخصٍ "سام"، بقاءه مرهون بقدرته على التهامِ الآخرين، وتقويض حضورهم. إنها استعارة أخرى للذات النرجسية التي تقوم بإلغاء كل ما لا يعمل على "تغذيتها".
* * *
في النهاية، يعود الطفلان - للمرة الثانية - إلى كوخِ الأبوين] المهملين؟[ لكنهما هذه المرّة يعودان محمّلين بالمال والطعام ]فائض القيمة[ بشكلٍ متسق مع جميع المرويات التي تجعل التعلّم شرط العودة إلى البيئة الأم، حيث يعود البطل إلى مسقط رأسه مع شيءٍ ما؛ سيف، عشبة شافية، زوجة أو صديق.
بهذه العودة تكتملُ الدائرة في مسيرة البطل، ويتحقّقُ النضج. يجد الطفلان الأب غارقًا في ندمه ودموعه، يقسمُ بأنه بحث عنهما في الغابة كل يوم. ويجدان أن الأمّ] العنصر الأكثر مادية[ قد توفّيت.
تنتهي حكايات الجنيّات غالبًا بشكلٍ مرضٍ، حتى في حالة الموتِ والفقد. فهي تحكي دائمًا رحلة الذات لإنضاج عناصرها الأكثر أنانية وهشاشة، أو التصالح مع قوانين العالم الحتمية؛ مثل الألم والفناء.. وفي حالة هانسل وغريتل، تنتهي الحكاية بأنَّ الثلاثة الناجين (الأب والطفلين) لم يعرفا الجوع بعدها أبدًا.
----------
جدلية