لايمكن اعتبار هذه الطروحات بالبريئة, لكن من ينظر إلى الأمور بعمق ويملك تفكيرا استراتيجيا لأوضاع المنطقة، يعلم تماما أن ما طرحته الجريدة ذات السمعة الشهيرة في الخريطة؛ هي أضغاث أحلام وأمنيات ليس إلا، فالمفاجآت التي أصابت هذه المنطقة مؤخرا، أدهشت الجميع، وبخاصة مراكز الاستخبارات العربية والعالمية، إضافة إلى مراكز التفكير والتخطيط الاستراتيجي الكبرى وبالتالي أدهشت صناع القرار الدولي الذين سعوا للحاق بقطارها منذ اللحظة الأولى، فقد أعادت الحسابات السياسية والإستراتيجية إلى نقطة الصفر، ولن يسمع لقائل بالتنظير: إن ما حدث ويحدث، هو "الفوضى الخلاقة" التي بشرت بها الولايات المتحدة خلال غزوها واحتلالها للعراق، فقد أتت هذه الثورات والحراك الاجتماعي والسياسي بخلاف مصالحها، وبخاصة الثورة السورية، ولم نشاهد بعد غزو العراق أي فوضى إلا في العراق نفسه، من فوضى هدامة وعمياء، دفع العراق والعرب ثمنها.
ومع انطلاقة الشرارة الأولى لثورات الربيع العربي ضد أنظمة الاستبداد كانت البداية لواقع جديد اعترفت واشنطن وغيرها بصدمته المفاجئة بداية. قد يكون اتفاق "سايكس بيكو" مر في غفلة من الزمن، وفي ظروف ملتبسة و قاهرة، عندما كان الوطن العربي يئن تحت الاستعمار العالمي، وكذلك معظم الدول من العالم الثالث.
في الظروف الآنية، لم يقتصر تشابك المصالح وتقاسمها بين الدول الكبرى، بل امتد ت المصالح إلى الدول الإقليمية المؤثرة بالمنطقة، والتي قد تكون هي أيضا مهددة بالتقسيم والتفتت مثل بقية دول المنطقة، طالما تحمل نفس المكون الإثني والديني الطائفي، مثل تركيا وإيران ومصر، فيما لو تحقق فعلا سيناريو التقسيم المزمع، حيث لم يتناول التقرير مصير هذه الدول المهمة، المتشابهة بمكوناتها الديمغرافية إلى حد التطابق مثل تركيا وإيران ! صحيح أن المارد الطائفي و الإثني قد تم استثارته بقصد إعادة صياغة لمفهوم المواطنة والوطن وكحامل لمشروع التقسيم، وتشكيل المنطقة جيوسياسيا على هذا الأساس، - ولكن أغفلها التقرير بالنتيجة- ، فإن أقصى ما يمكن أن يقوم أو يمكن واقعا، هو إدارة محلية أو ذاتية لتلك المناطق التي تتنازع عليها الأقليات أو المجموعات الإثنية أو الطائفية, وهو قد يكون إحدى الحلول المطلوبة ظرفيا! ولن يتم تقطيع المنطقة على هوى ومصالح بعض الدول الكبرى لتشابك مصالحها وتعارضها مع الدول الإقليمية المؤثرة.
أتصور أن مثل هذا السيناريو بعيد عن الواقع لبعده عن الإرادة الدولية للمنطقة ومتطلبات الأمن الإقليمي والعالمي استراتيجيا، وعلى سبيل المثال، سوريا التي لم تعرف أي حرب أهلية في تاريخها المنظور أو في مدى تاريخها الطويل كجذور مؤسسة لما يتم الآن، وأن تأسيس أو تسييس للحرب الطاحنة الآن بين الشعب والنظام، ما هي إلا نتيجة لنظام استبدادي قمعي نتج عنه سوء إدارة وانفلاتها، وإن محاولة تطييف الثورة إلى حرب أهلية، لتبرير قيام دويلة علوية، إضافة إلى دفع النظام لقيام امتداد لإقليم كردستان العراق لقيام دويلة كردية، هي لخلط الأوراق و محاولة للخروج من الأزمة، وتعقيد المسألة أمام الدول، ودفعها بعيدا عن الغوص و التدخل في "حرب أهلية" مفترضة في دولة واحدة، وكذلك للهروب من نتائج القمع والقتل الممنهج من النظام السوري البوليسي، وليست الثورة السورية في الحقيقة وليدة مشكلة طائفية في سوريا، وإن كانت الأقلية الطائفية هي المسيطرة على النظام ومقدرات الدولة، فقبل هذا النظام كانت الطوائف تعيش فيه بسلام وأمان ورضا، وسوريا من الدول الأكثر أعراقا وأجناسا وطوائف، مثلها مثل العراق وتركيا !
وبالعودة إلى خريطة النيويورك تايمز المزعومة، التي قامت على تقسيم سوريا إلى ثلاث دويلات، علوية وكردية وسنية، بحيث تطبق الدويلة العلوية على الساحل، وتواصل الدويلة الكردية شرق وشمال سوريا مع كردستان العراق، بينما تتصل الدويلة السنية مع سنة العراق، في دويلة واحدة، تجاورها دولة شيعية تسيطر على شط العرب بالكامل، وتبقى الدويلة السنية محاصرة من جميع الجهات.
يتضح حجم الجهل الاستراتيجي في قيام مثل هذا السيناريو، عندما تتفجر الدولة السنية باندفاعها للوصول على منفذ تتنفس منه إلى البحر الأبيض المتوسط أو إلى شط العرب. وكذلك الأمر أغفلت الخريطة وكاتبها الأساس أو المبدأ الذي سيتم الاستناد إليه لتقسيم المملكة العربية السعودية إلى خمس دويلات، يقابلها الأمر ذاته بالنسبة إلى دولتي ليبيا واليمن، حيث تصل عدد الدول حسب الخريطة إلى خمس عشرة دولة!
وخلاصة ما تقدم، يمكن القول إن ما ورد في خريطة "نيويورك تايمز" لا يمكن تخيلها واقعا إلا في شطح عقل كاتبها، ونشرها في جريدة مثل "نيويورك تايمز" لا يمنحها الحياة أو القابلية المنطقية للوجود، فكثير ما تنشر هذه الجريدة الدراسات والأبحاث والاستراتيجيات كونها عناوين بحثية مطلوبة في الوقت الراهن أو مناسبة لها، أو مقدمة لأمور أخرى، منها إشاعة الخوف والقلق لأبناء وقيادات المنطقة للرضوخ أو لتمرير إرادتهم أو مشاريعهم، دون الالتفات إلى حقائق وفهم أعمق لتفاصيل وطبيعة المنطقة وتاريخها، وهي ما تتقاسمه الجريدة وكتابها مع سياسة الولايات المتحدة في المنطقة.
-------------
زمان الوصل
-------------
زمان الوصل