والله إن غبار حذاء محمد(صلعم) أحب إليّ من أمريكا وأوروبا مجتمعتين!!
هذه الجملة وردت في رسالة شيّعها الوهابي عائض القرني من باريس حيث يعالج فضيلته من مكروه ألم به. وفيها ينعت المسلمين ونفسه بالجلافة والغلظة ويصف أوروبا بالحضارة والنضارة وحسن الطباع والخلق الرفيع . وأهمية هذه الرسالة تتمحور في عدم أهميتها، فهي تندرج في إطار نفس الموروث الكلامي الذي كتبه فقهاء يقول عنهم الفيلسوف الإيراني شايغان أنهم كتبوه على سراج ينطفئ إذا حُبس عنه الهواء، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء معرفة السبب حتى جاء لافوازييه وإكتشف الأوكسجين. فالقرني لم يكن بإمكانه أن يخرج من ثوبه وفضاء متخيّله التاريخي، ولم يستطع إلا أن يُوكل للبلاغة اللغوية النطق بإسمه والتفكير عنه.
لم يدر أن جملته تلك تهين جزء من البشرية وتحتقر العقل بآن معا، إذ يُفترض بالأنبياء أن يكونوا رموز هدى وخلاص للبشرية لا أن تُحتقر الأمم من أجل غبار حذائهم! ولا أظن أن كاردينالا مسيحيا أو هندوسيا أو بوذيا يخطر على باله القول: أن غبار حذاء بوذا أو المسيح أحب إليه من بلاد العرب وجزيرتهم؟ وما قاله القرني نوع من الإنتفاخ الكلامي القروسطي الذي يفترض عالمية رسالة محمد لكنه بنفس الوقت يقدمه كزعيم قبيلة بدوية وهنا تبدأ وتنهي مشكلة الإسلام.
إن أزمة المشرق العربي والإسلامي وصدامه مع العصر، تُختزل في لغته، فهي الإناء الذي ينضح منها عقله، و تتحرك فيها منظومة قيّمه ومخيّلته ووعيه التاريخي و رموزه وهويته. وجوهر الفرق بين الأديان والفرق. يتجسد داخل الفضاء المتخيّل القصصي، الذي ينحت الوجود الجمعي عبر طقوس يؤديها الأفراد منذ فطامهم.
في إحدى المرات نزلت مع رهط من الأصحاب في إحدى قرى جبال الألب النمساوية، في منزل تملكه سيدة طاعنة في السن وتعاني من شحة البصر والسمع، حينها تطوّعت صديقتنا بالترجمة. وأفهمتها أن معظم الضيوف لايأكلون لحم الخنزير؟ أتذكر جيدا إستغراب هذه العجوز ودهشتها، وكأنها لم تسمع بالإسلام بعد، إذ لم تكن تتصور وجود بشر على هذه البسيطة لا يؤمنون بالرب يسوع، في اليوم التالي وقبيل سفرنا قالت صديقتنا : يبدو أن العرب دخلوا قلب العجوز! فقد شاهدتها بالأمس وهي تشعل شمعة أمام صور القديسين وتتضرع للمسيح كي يشفع لهم ويُدخلهم ملكوت السموات ويقيهم عذاب الآخرة !؟
قبل أشهر كنت في أشبيلية، مع عائلة عربية، وتطوعت لأشرح لهم ما أعرفه عن تاريخ المدينة، وبالطبع أخذنا الحديث عن القصر الذي عاش به المعتمد بن عباد ثم سكنه بعده الملوك الكاثوليك وزيّنوه بصالة السفراء وأجمل فنون المدجّن الإسلامي. وكذلك تحدثنا عن الكاتدرال الضخمة التي أقيمت على أنقاض جامع اشبيلية. وبينما كنا نطوف في الشوارع والحكايا، بدأت إحدى السيدات تذرف دموعها حزنا وحرقة على جامع أشبيلية!؟ وتشتم اليهود والنصاري وأمريكا وإسرائيل! بالطبع أخبرتها أن القصة قديمة يتجاوز عمرها 700عام، وهي سنّة دأبت عليها الأمم القديمة. وضربت لها مثال تحويل كنيسة آيه صوفيا على يد العثمانيين إلى جامع، لكن فوجئت بأن السيدة كانت شبه أمية وتجهل قصة الأندلس من أساسها، وكل ما تعلمته لايزيد عن الطبخ والنفخ ( ومشاهدة مسلسل نور)
رغم إختلاف القصتين إلا انهما تلتقيان في الجوهر، فكلتاهما إمتلكت مشاعر صادقة، السيدة الأولى كانت محكومة بعزلة فرضتها بيئة جبلية وحياة إقتصرت على تربية الأبقار والكدح اليومي من مطلع الشمس حتى مغربها، والعيش داخل فضاء دوغما لغوية أنتجت نظرتها للكون. وكذلك هو حال السيدة العربية التي تعيش أيضا رهينة محبسي ( الدوغما، والذكورة) في عصر الجهل المتلفز. لكن الفرق الجوهري أن الأوروبية كانت تعكس رموزا دينية [معوّلمة نسبيا بصورة إله مسيحي حسّي مجسد أمامها في الصور والأيقونات) في حين يُترجم الله المجرد في الإسلام داخل فضاء لغوي موروث كلامي ينضح بقيم أبوية وقبلية وذات طابع أثني وقومي. وهذه ميزة لاتستطيع أدوات عائض القرني اللغوية تمثلها. وبهذا السياق أيضا يمكن للمرء فهم الرموز البوذية المجسدة وكذلك رد الفعل السلمي للعالم البوذي بُعيد تدمير تماثيل بوذا في باميان الأفغانية على يد طالبان، مقابل هيجان العالم الإسلامي إزاء كلّ إحتكاك برموزه.
عوّلمة الرموز
أظن أن الضعف والخيبة المستمرة في المشرق العربي والإسلامي، تعكس في أهم جوانبها عجز النخب (السياسية والثقافية) عن إعادة صياغة الرموز بما يناسب روح العصر، ويرتبط ذلك بفشل إقامة الدولة الحديثة المرتبطة بالعقد إجتماعي. فالدولة كانت غائبة دوما ولم تحضر إلا لممارسة العنف الأبوي السلطوي. أو لتنافس الموروث إرضاء وتملقا له، لهذا لم تميز أجيالنا بين فكرة الدولة (العقد الإجتماعي) والدولة (السلطة القمعية) وبسبب هذا الفشل الذريع ، إضمحلت برامج التربية والتعليم القادرة على "عصرنة" الرموز الكبرى المحركة للوعي الجمعي وأهدرت الفرصة أمام الأجيال الناشئة.
لقد إكتفت النخبة بثقافة الصالونات التي لا تسمن ولا تشبع. وهي أشبه بسحاق لغوي لا ينتج حملا معرفيا، وغدا الإنتاج المعرفي للمفكرين العرب، ومجلدات الجابري عن"نقد العقل العربي" ورد الطرابيشي بمجلدات أخرى " نقد نقد العقل العربي" عبئا مضافا يحتاج نفسه للنقد ( شخصيا قلّبت أوراقها بإبهامي على طريقة لاعب الكوتشينة وأعدتها للرف، فمن العبث هدر العمر لمعرفة ماهية العقل العربي؟ وكما قال أحدهم: لقد ضيّع الجابري عمره في نقد شيئ غير موجود!) ومن هذه الزاوية تبدو أعمال ومشاريع ترجمة الثقافات التي قدمها جيل النهضة وما بعده وجيل محمد أركون وجعيط وهاشم صالح وغيرهم أعمالا غير فاعلة وتسبح في فضاء اللاجدوى، طالما ظلّت غائبة عن برامج التربية وتحفيز روح النقد لدى النشأ ؟
من هذه الزاوية تصبح عوّلمة الرموز الدينية الطريق الأقصر والأجدى، وعمل تستطيع برامج التربية والتثقيف تأهيله، فالناس عموما تمقت جفاء العقل المجرد، ولغة القلسفة المعقدة وتميل لتلقي اللغة الأدبية وصياغاها الشعرية، ومغازلة المشاعر والرغبات الدفينة التي كانت وراء هيمنة اللغة الدينية عموما، ونجاح وسائل الدعاية والميديا الحديثة. وقد يكون طريق العولمة، بترك تلك الرموز عرضة للنقد التاريخي، فالأديان تفهم نفسها رسالة مطلقة للمتعالي، إلا أنها في الحقيقة وجود وصيرورة مشروطة بالتاريخ. ومن المفيد أن يتعرض مؤسسوها لإمتحان تاريخيتهم، بأدوات النقد العقلي وأن يكتشف النشأ بأن حياة وسير هؤلاء العظماء كانت مشروطة بروح عصرهم. ومن العبث أن نسقط معايير عصرنا عليهم. ولا غضاضة أن يعاد النظر في دراسة شخصية مؤسس دين وأمة العرب، بصورة أكثر رمزية ترفع الرواية عن التجسيد الروائي المبتذل ومحاولة التعرف على تقاطعات سيرته مع سير شخصيات ميتاتاريخية "كإبراهيم وموسى وداوود وسليمان" والإعتراف بأن هذه الشخصية قد تمت نمذجتها خلال العصر العباسي في وقت أصبحت فيه رمزا لهوية إمبراطورية كبيرة، هذا ماتقوله بحوث النقد التاريخي المعاصر وعلوم اللغات والأديان المقارن، فكلما ذهبت الدراسات في العمق، إزدادت قتامة الصورة وكثرت ألغازها، حتى وصل الأمر بالألماني جوزيف فان ايس، وهو من أكبر باحثي القرون الهجرية الأولى أن يجزم: بأن القرائن والإثباتات الأكيدة عن إسلام القرن الهجري الأول قليلة للغاية (نقش قبة الصخرة وجامع بني أمية ، وبعض المسكوكات) وكذلك هو حال القرن الثاني تقريبا، إذ لاوجود حقيقي لمخطوطات أصلية تؤرخ الأحداث المبكرة، حتى أن المتعصب هانس أوليغ صاحب كتاب "البدايات المظلمة" إستغرب الغياب الكامل والصمت المطبق للكتابات المسيحية واليهودية التي تتعرض للفتح والتمدد الإسلامي في الهلال الخصيب ومصر، وهذا أمر غريب وجدير بالإنتباه؟؟ سيما وأن هؤلاء إمتلكوا ثقافة كتابية راسخة؟!
وربما تكون شهادة فان ايس المهمة، وثيقة يمكن رفعها بوجه الأرثودكسية التي تعتاش على حرفية الموروث الكلامي ورواياته الشفهية المضطربة، لكنها شهادة ذات حدين فهي تكشف أيضا عبثية النقد الديني الساذج الذي تمارسه جهات أيديولوجية، تعتمد أيضا إضطراب وحرفية الرواية، بدوافع حقد ومنافسة تاريخية سببها إنتزاع الإسلام مفاتيح بيت المقدس، وكسره لإحتكار النبوّة اليهودي.
فما تراه البحوث الحديثة عن صيرورة الشخصية المحمدية في مطلع الدولة العباسية، يتشابه مع ظروف تكوّن شخصية المسيح وتشكيلها وفق تصورات الإمبراطورية الرومانية المقدسة، فنظرة بسيطة إلى لوحة "العشاء الأخير" لدافتشي أو عموم الفن الأوروبي الوسيط فإننا نرى المسيح وتلاميذه أشبه بفرسان أو روّاد حانة في جنوة أو فينيسيا القرن 15م، وهذا يلخص تاريخ مسيحية، تبدو غريبة عن طقوس اليهودية (والثقافة الآرامية المفترضة في فلسطين آنذاك).
أما القرآن مركز العقيدة فهو الرمز المهم، الذي يثير فضول الباحثين والدارسين (شرقا وغربا) ويدفعهم لإعادة ترميزه وتأويله بضوء أركيولوجيا اللغات القديمة، وتاريخ تطور الكتابة العربية [ظهور علامات الإعراب وتنقيط الحروف] وتاريخ الأديان المقارن بإعتباره وثيقة أصيلة عبرت إمتحان القرون بجدارة. لذا فإن عولمتها ( لسانيا) يكون بتخفيف وصاية العربية وهيمنة القواميس والمفسرين القدماء. وقبول فكرة كونها إرث إنساني يجيز للبشرية تداولها كباقي الكتب المقدسة الأخرى، وتعريضها للنقد الدوغماـ تاريخي، سيما وأن النسخ القديمة تظهر بعض الإختلافات الكتابية. وهذا يبدو جليا على سبيل المثال في تحوير إسم [ يحي] النبي المعروف. فهو نفسه [ يوحنا، أو يوحناس] في التراث النسطوري والبيزنطي واليعقوبي والصابئي واليهودي. لقد لاحظ "مرجليوث" أن النسخ القرآنية القديمة ( الغير منطقة) كانت تكتبه: ( يحى: بدون نقاط) وتقصد (يُحنّى) لكن النساخ المتأخرين قرأوا الكلمة (يحي)
ومرة ثانية تبدو رمزية "مكة" بالغة الأهمية، فإعادة فتحها للعالمين ليس مساسا بقدسيتها بل محاولة لأنسنة الحدث الإسلامي المبكر وتحطيم لأصنام البداوة والتعصب والإنغلاق، وإسقاط رمزي للجدار الوهمي بين دار الإسلام ودار الحرب، وهذا أمر حيوي للمسلمين قبل غيرهم، فمن غير الممكن الإنتماء لهذا العصر والتنعم بملذاته ومنجزاته وإرسال الطلبة إلى جامعاته (وملكية 75% من قنوات البورنو في فضائه) ثم إتهام أربعة أخماسه بالنجاسة والكفر والوثنية.
ملاحظة: لابد للمرء أن يكتشف وجود ملامح جديدة في خطاب القرني، فعبارته السالفة تؤشر لمرحلة البترودولار وإنتصار الحذاء على النعال. وبعكسه توجب أن يقول : والله إن قطرة بول بعير أحب إليّ من خمر فرنسا
----------------------------------
الصورة : الشيخ عائض القرني
هذه الجملة وردت في رسالة شيّعها الوهابي عائض القرني من باريس حيث يعالج فضيلته من مكروه ألم به. وفيها ينعت المسلمين ونفسه بالجلافة والغلظة ويصف أوروبا بالحضارة والنضارة وحسن الطباع والخلق الرفيع . وأهمية هذه الرسالة تتمحور في عدم أهميتها، فهي تندرج في إطار نفس الموروث الكلامي الذي كتبه فقهاء يقول عنهم الفيلسوف الإيراني شايغان أنهم كتبوه على سراج ينطفئ إذا حُبس عنه الهواء، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء معرفة السبب حتى جاء لافوازييه وإكتشف الأوكسجين. فالقرني لم يكن بإمكانه أن يخرج من ثوبه وفضاء متخيّله التاريخي، ولم يستطع إلا أن يُوكل للبلاغة اللغوية النطق بإسمه والتفكير عنه.
لم يدر أن جملته تلك تهين جزء من البشرية وتحتقر العقل بآن معا، إذ يُفترض بالأنبياء أن يكونوا رموز هدى وخلاص للبشرية لا أن تُحتقر الأمم من أجل غبار حذائهم! ولا أظن أن كاردينالا مسيحيا أو هندوسيا أو بوذيا يخطر على باله القول: أن غبار حذاء بوذا أو المسيح أحب إليه من بلاد العرب وجزيرتهم؟ وما قاله القرني نوع من الإنتفاخ الكلامي القروسطي الذي يفترض عالمية رسالة محمد لكنه بنفس الوقت يقدمه كزعيم قبيلة بدوية وهنا تبدأ وتنهي مشكلة الإسلام.
إن أزمة المشرق العربي والإسلامي وصدامه مع العصر، تُختزل في لغته، فهي الإناء الذي ينضح منها عقله، و تتحرك فيها منظومة قيّمه ومخيّلته ووعيه التاريخي و رموزه وهويته. وجوهر الفرق بين الأديان والفرق. يتجسد داخل الفضاء المتخيّل القصصي، الذي ينحت الوجود الجمعي عبر طقوس يؤديها الأفراد منذ فطامهم.
في إحدى المرات نزلت مع رهط من الأصحاب في إحدى قرى جبال الألب النمساوية، في منزل تملكه سيدة طاعنة في السن وتعاني من شحة البصر والسمع، حينها تطوّعت صديقتنا بالترجمة. وأفهمتها أن معظم الضيوف لايأكلون لحم الخنزير؟ أتذكر جيدا إستغراب هذه العجوز ودهشتها، وكأنها لم تسمع بالإسلام بعد، إذ لم تكن تتصور وجود بشر على هذه البسيطة لا يؤمنون بالرب يسوع، في اليوم التالي وقبيل سفرنا قالت صديقتنا : يبدو أن العرب دخلوا قلب العجوز! فقد شاهدتها بالأمس وهي تشعل شمعة أمام صور القديسين وتتضرع للمسيح كي يشفع لهم ويُدخلهم ملكوت السموات ويقيهم عذاب الآخرة !؟
قبل أشهر كنت في أشبيلية، مع عائلة عربية، وتطوعت لأشرح لهم ما أعرفه عن تاريخ المدينة، وبالطبع أخذنا الحديث عن القصر الذي عاش به المعتمد بن عباد ثم سكنه بعده الملوك الكاثوليك وزيّنوه بصالة السفراء وأجمل فنون المدجّن الإسلامي. وكذلك تحدثنا عن الكاتدرال الضخمة التي أقيمت على أنقاض جامع اشبيلية. وبينما كنا نطوف في الشوارع والحكايا، بدأت إحدى السيدات تذرف دموعها حزنا وحرقة على جامع أشبيلية!؟ وتشتم اليهود والنصاري وأمريكا وإسرائيل! بالطبع أخبرتها أن القصة قديمة يتجاوز عمرها 700عام، وهي سنّة دأبت عليها الأمم القديمة. وضربت لها مثال تحويل كنيسة آيه صوفيا على يد العثمانيين إلى جامع، لكن فوجئت بأن السيدة كانت شبه أمية وتجهل قصة الأندلس من أساسها، وكل ما تعلمته لايزيد عن الطبخ والنفخ ( ومشاهدة مسلسل نور)
رغم إختلاف القصتين إلا انهما تلتقيان في الجوهر، فكلتاهما إمتلكت مشاعر صادقة، السيدة الأولى كانت محكومة بعزلة فرضتها بيئة جبلية وحياة إقتصرت على تربية الأبقار والكدح اليومي من مطلع الشمس حتى مغربها، والعيش داخل فضاء دوغما لغوية أنتجت نظرتها للكون. وكذلك هو حال السيدة العربية التي تعيش أيضا رهينة محبسي ( الدوغما، والذكورة) في عصر الجهل المتلفز. لكن الفرق الجوهري أن الأوروبية كانت تعكس رموزا دينية [معوّلمة نسبيا بصورة إله مسيحي حسّي مجسد أمامها في الصور والأيقونات) في حين يُترجم الله المجرد في الإسلام داخل فضاء لغوي موروث كلامي ينضح بقيم أبوية وقبلية وذات طابع أثني وقومي. وهذه ميزة لاتستطيع أدوات عائض القرني اللغوية تمثلها. وبهذا السياق أيضا يمكن للمرء فهم الرموز البوذية المجسدة وكذلك رد الفعل السلمي للعالم البوذي بُعيد تدمير تماثيل بوذا في باميان الأفغانية على يد طالبان، مقابل هيجان العالم الإسلامي إزاء كلّ إحتكاك برموزه.
عوّلمة الرموز
أظن أن الضعف والخيبة المستمرة في المشرق العربي والإسلامي، تعكس في أهم جوانبها عجز النخب (السياسية والثقافية) عن إعادة صياغة الرموز بما يناسب روح العصر، ويرتبط ذلك بفشل إقامة الدولة الحديثة المرتبطة بالعقد إجتماعي. فالدولة كانت غائبة دوما ولم تحضر إلا لممارسة العنف الأبوي السلطوي. أو لتنافس الموروث إرضاء وتملقا له، لهذا لم تميز أجيالنا بين فكرة الدولة (العقد الإجتماعي) والدولة (السلطة القمعية) وبسبب هذا الفشل الذريع ، إضمحلت برامج التربية والتعليم القادرة على "عصرنة" الرموز الكبرى المحركة للوعي الجمعي وأهدرت الفرصة أمام الأجيال الناشئة.
لقد إكتفت النخبة بثقافة الصالونات التي لا تسمن ولا تشبع. وهي أشبه بسحاق لغوي لا ينتج حملا معرفيا، وغدا الإنتاج المعرفي للمفكرين العرب، ومجلدات الجابري عن"نقد العقل العربي" ورد الطرابيشي بمجلدات أخرى " نقد نقد العقل العربي" عبئا مضافا يحتاج نفسه للنقد ( شخصيا قلّبت أوراقها بإبهامي على طريقة لاعب الكوتشينة وأعدتها للرف، فمن العبث هدر العمر لمعرفة ماهية العقل العربي؟ وكما قال أحدهم: لقد ضيّع الجابري عمره في نقد شيئ غير موجود!) ومن هذه الزاوية تبدو أعمال ومشاريع ترجمة الثقافات التي قدمها جيل النهضة وما بعده وجيل محمد أركون وجعيط وهاشم صالح وغيرهم أعمالا غير فاعلة وتسبح في فضاء اللاجدوى، طالما ظلّت غائبة عن برامج التربية وتحفيز روح النقد لدى النشأ ؟
من هذه الزاوية تصبح عوّلمة الرموز الدينية الطريق الأقصر والأجدى، وعمل تستطيع برامج التربية والتثقيف تأهيله، فالناس عموما تمقت جفاء العقل المجرد، ولغة القلسفة المعقدة وتميل لتلقي اللغة الأدبية وصياغاها الشعرية، ومغازلة المشاعر والرغبات الدفينة التي كانت وراء هيمنة اللغة الدينية عموما، ونجاح وسائل الدعاية والميديا الحديثة. وقد يكون طريق العولمة، بترك تلك الرموز عرضة للنقد التاريخي، فالأديان تفهم نفسها رسالة مطلقة للمتعالي، إلا أنها في الحقيقة وجود وصيرورة مشروطة بالتاريخ. ومن المفيد أن يتعرض مؤسسوها لإمتحان تاريخيتهم، بأدوات النقد العقلي وأن يكتشف النشأ بأن حياة وسير هؤلاء العظماء كانت مشروطة بروح عصرهم. ومن العبث أن نسقط معايير عصرنا عليهم. ولا غضاضة أن يعاد النظر في دراسة شخصية مؤسس دين وأمة العرب، بصورة أكثر رمزية ترفع الرواية عن التجسيد الروائي المبتذل ومحاولة التعرف على تقاطعات سيرته مع سير شخصيات ميتاتاريخية "كإبراهيم وموسى وداوود وسليمان" والإعتراف بأن هذه الشخصية قد تمت نمذجتها خلال العصر العباسي في وقت أصبحت فيه رمزا لهوية إمبراطورية كبيرة، هذا ماتقوله بحوث النقد التاريخي المعاصر وعلوم اللغات والأديان المقارن، فكلما ذهبت الدراسات في العمق، إزدادت قتامة الصورة وكثرت ألغازها، حتى وصل الأمر بالألماني جوزيف فان ايس، وهو من أكبر باحثي القرون الهجرية الأولى أن يجزم: بأن القرائن والإثباتات الأكيدة عن إسلام القرن الهجري الأول قليلة للغاية (نقش قبة الصخرة وجامع بني أمية ، وبعض المسكوكات) وكذلك هو حال القرن الثاني تقريبا، إذ لاوجود حقيقي لمخطوطات أصلية تؤرخ الأحداث المبكرة، حتى أن المتعصب هانس أوليغ صاحب كتاب "البدايات المظلمة" إستغرب الغياب الكامل والصمت المطبق للكتابات المسيحية واليهودية التي تتعرض للفتح والتمدد الإسلامي في الهلال الخصيب ومصر، وهذا أمر غريب وجدير بالإنتباه؟؟ سيما وأن هؤلاء إمتلكوا ثقافة كتابية راسخة؟!
وربما تكون شهادة فان ايس المهمة، وثيقة يمكن رفعها بوجه الأرثودكسية التي تعتاش على حرفية الموروث الكلامي ورواياته الشفهية المضطربة، لكنها شهادة ذات حدين فهي تكشف أيضا عبثية النقد الديني الساذج الذي تمارسه جهات أيديولوجية، تعتمد أيضا إضطراب وحرفية الرواية، بدوافع حقد ومنافسة تاريخية سببها إنتزاع الإسلام مفاتيح بيت المقدس، وكسره لإحتكار النبوّة اليهودي.
فما تراه البحوث الحديثة عن صيرورة الشخصية المحمدية في مطلع الدولة العباسية، يتشابه مع ظروف تكوّن شخصية المسيح وتشكيلها وفق تصورات الإمبراطورية الرومانية المقدسة، فنظرة بسيطة إلى لوحة "العشاء الأخير" لدافتشي أو عموم الفن الأوروبي الوسيط فإننا نرى المسيح وتلاميذه أشبه بفرسان أو روّاد حانة في جنوة أو فينيسيا القرن 15م، وهذا يلخص تاريخ مسيحية، تبدو غريبة عن طقوس اليهودية (والثقافة الآرامية المفترضة في فلسطين آنذاك).
أما القرآن مركز العقيدة فهو الرمز المهم، الذي يثير فضول الباحثين والدارسين (شرقا وغربا) ويدفعهم لإعادة ترميزه وتأويله بضوء أركيولوجيا اللغات القديمة، وتاريخ تطور الكتابة العربية [ظهور علامات الإعراب وتنقيط الحروف] وتاريخ الأديان المقارن بإعتباره وثيقة أصيلة عبرت إمتحان القرون بجدارة. لذا فإن عولمتها ( لسانيا) يكون بتخفيف وصاية العربية وهيمنة القواميس والمفسرين القدماء. وقبول فكرة كونها إرث إنساني يجيز للبشرية تداولها كباقي الكتب المقدسة الأخرى، وتعريضها للنقد الدوغماـ تاريخي، سيما وأن النسخ القديمة تظهر بعض الإختلافات الكتابية. وهذا يبدو جليا على سبيل المثال في تحوير إسم [ يحي] النبي المعروف. فهو نفسه [ يوحنا، أو يوحناس] في التراث النسطوري والبيزنطي واليعقوبي والصابئي واليهودي. لقد لاحظ "مرجليوث" أن النسخ القرآنية القديمة ( الغير منطقة) كانت تكتبه: ( يحى: بدون نقاط) وتقصد (يُحنّى) لكن النساخ المتأخرين قرأوا الكلمة (يحي)
ومرة ثانية تبدو رمزية "مكة" بالغة الأهمية، فإعادة فتحها للعالمين ليس مساسا بقدسيتها بل محاولة لأنسنة الحدث الإسلامي المبكر وتحطيم لأصنام البداوة والتعصب والإنغلاق، وإسقاط رمزي للجدار الوهمي بين دار الإسلام ودار الحرب، وهذا أمر حيوي للمسلمين قبل غيرهم، فمن غير الممكن الإنتماء لهذا العصر والتنعم بملذاته ومنجزاته وإرسال الطلبة إلى جامعاته (وملكية 75% من قنوات البورنو في فضائه) ثم إتهام أربعة أخماسه بالنجاسة والكفر والوثنية.
ملاحظة: لابد للمرء أن يكتشف وجود ملامح جديدة في خطاب القرني، فعبارته السالفة تؤشر لمرحلة البترودولار وإنتصار الحذاء على النعال. وبعكسه توجب أن يقول : والله إن قطرة بول بعير أحب إليّ من خمر فرنسا
----------------------------------
الصورة : الشيخ عائض القرني