لم يطل الوقت حتى وصلت أخبار البلاء الذي وقعت فيه مدينة مونستر إلى العالم الخارجي في ذلك الوقت. الأسقف الكاثوليكي فرانز فان والدك، الذي نجح في الفرار من مونستر، تمكن من تجهيز جيش من المرتزقة (الصحوات!) أحاط بالمدينة وألقى عليها الحصار. مع اشتداد الحصار، هيمن الإضطراب والفوضى على المدينة. ومن بين صفوف المتمردين اللامعموديين ظهر قائد إسمه جون بيوكلز من لايدن، وعرف على نطاق شعبي باسم "جون اللايدني (وليس أبو بكر البغدادي!). كان من أول ما فعله هذا الزعيم أنه دعى إلى اجتماع عام للبلدة (وليس إلى صلاة الجمعة!) حيث أعلن فيه:
لقد اختارني الله الآن لأن أكون ملكاً (ليس خليفة!) على كل العالم .. ولكن ما أفعله أنا مأمور بفعله، لأن الله قد انتخبني من أجل هذه الغاية. أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، دعونا نشكر الله على هذا.
مع تقدم الحصار حلت المجاعة، وحاول جون الحفاظ على سيطرته عن طريق اختلاق اندفاعات رؤية بصورة دورية، يستحضر فيها أجزاء من النص المقدس. عندما لم يكن هذا كافياً، كان تطبيق القوة العارية أسلوبه المعتاد؛ كل اعتراض كان يسحق بدون رحمة. بعد محاولة انقلاب فاشلة، أشرف جون على عمليات التعذيب وقطع الرؤوس للمتآمرين (وليس المرتدين!). تم دفن الجثث في مقبرتين جماعيتين في سوق المدينة (وليس على أطراف بلدة أطمة شمالي إدلب!). تكررت الإعدامات وتقطيع الأوصال، وكانت جثث القتلى تعلق على الأشجار وعلى البوابات لتكون عبرة للآخرين.
في الخامس والعشرين من حزيران من عام 1535، أي بعد ستة عشر شهراً من سيطرة المتمردين، تم تحرير مونستر أخيراً. تمكنت قوات الأسقف من القبض على جون اللايدني حياً، وعلى مدى الستة شهور المقبلة كان يساق مقيداً بالسلاسل من قرية إلى قرية عبر شمال ألمانيا كأسير حرب. في الثاني والعشرين من كانون الثاني من عام 1536، أعيد مجدداً إلى مونستر، وتم في احتفال عام هناك تم تعذيبه حتى الموت باستخدام قضبان من الحديد المجمّر. تم وضع جثته بعد ذلك في قفص ترك ليتدلى من فوق كنيسة القديس لامبرت. يقال أن هذا القفص ما يزال معلقاً في مونستر حتى اليوم.
إن استدعاء هذه الحادثة التي تشكل نموذجاً لحركات التطرف الديني التي شاعت في القرن السادس عشر المسيحي مهم جداً لإلقاء الضوء على الحركات الدينية المتطرفة التي تعم العالم الإسلامي حالياً، خصوصاً إذا تذكرنا أن الإسلام يعيش الآن في النصف الأول من قرنه الخامس عشر الهجري. لا يمكن لهذا التشابه الشديد، بين أتباع جون اللايدني في شمال ألمانيا وأتباع أبي بكر البغدادي في شرق سوريا، والذي ألمحت إليه عند سرد حادثة مونستر، أن يكون مجرد صدفة لا معنى لها.
أزعم أن هذا التشابه العرضي يعود إلى شبه أصلي بين الحالة القلقة والمضطربة التي كانت تمر بها أوربا المسيحية في القرنين الخامس والسادس عشر، أي قبل بداية عصر التنوير ثم الثورة الصناعية ودخول العصر الحديث من جهة، والحالة القلقة وشديدة الإضطراب التي تمر بها منطقة الشرق الإسلامي منذ بدايات القرن العشرين والتي يبدو أنها تصل إلى ذروتها في هذه الفترة، مطلع القرن الواحد والعشرين. أي إن القاسم المشترك هو خضوع كلا المجتمعين لتحولات عميقة في جميع المجالات.
لقد شهدت أوربا منذ مطلع القرن السادس عشر ظهور الأسئلة الأساسية عن علاقة الكنيسة والدولة والمجتمع، والإعتراض على انحرافات الكنيسة الكاثوليكية وفساد رجال الدين، هذا الإعتراض الذي انتج تياراً دينياً جديداً هو المذهب البروتستانتي. وشهدت كذلك انتشار الإكتشافات العلمية واستطلاع ما وراء البحار، وما رافقها من الدخول في العصر الرأسمالي والإستعماري بشكل جدي وحاسم. أضف إلى ذلك نمو المدن وزيادة نسبة التحضر وانتشار الطباعة الذي جلب معه أفكاراً جديدة وأشعل روح التساؤل والبحث، وبشكل فائق الأهمية جعل الكتاب المقدس منتجاً ديمقراطياً متاحاً لعامة الناس بلغتهم المحكية التي يفهمونها، بحيث أمكن لأي رجل عادي أن يقرأه وأن يكوّن عقيدته الدينية والسياسية بنفسه بعيداً عن سلطة الكهنوت المكرس. هذه ليست مبالغة أبداً، لقد اعتبر الفيلسوف الإنكليزي هوبز أن قدرة العامة على قراءة الإنجيل من أحد الأسباب الرئيسية لاندلاع الثورة الإنكليزية 1640-1660. يمكن مقارنة كل هذا مع ما شهدته منطقة الشرق الإسلامي طوال فترة القرن العشرين، وخصوصاً منذ نصفه الأخير وحتى اليوم، من تغيرات اجتماعية وسياسية عميقة عانت منها جميع المجتمعات الإسلامية: نهاية عصر الإستعمار وما تبعه من ظهور عدد كبير من الدول المستقلة إسمياً، لم يكن لسكان أغلبها أي دور في بنائها؛ صعود لعسكر وتكرر ظاهرة الإنقلابات العسكرية؛ الحروب بين الدول؛ الثورات؛ الفورة النفطية؛ التدخلات الخارجية؛ الزيادة الكبيرة في عدد السكان ونمو التحضر، وما يصاحبهما من تغيرات سوسيو-اقتصادية ومن تفاقم عدم المساواة. إن قوى العولمة الإقتصادية والإجتماعية والثقافية قد ساهمت إلى حد كبير في تغيير طريقة الحياة التقليدية للمجتمعات الإسلامية، وإن هذا التغيير السريع معطوفاً على الغياب الكامل للديمقراطية في هذه المجتمعات قد أدى إلى انتاج كثير من الرضوض الإجتماعية، وأكثرها أهمية ظاهرة التطرف والأصولية الدينية.
القصة الرئيسية إذاً في الحالتين هي قصة المرور الصعب والمؤلم إلى الحداثة، وبشكل أدق هي ما يسميها الفيلسوف تشارلز تايلور "وعكة الحداثة"؛ تلك الحالة العامة من الضيق والإرتباك والشعور بالضياع والخوف عندما تبدأ عملية التحول إلى الحداثة في تدمير البنى الاجتماعية والفكرية التقليدية وما كانت تقدمه من شعور بالإستقرار والأمان؛ تفكك جماعات القرابة وعلى رأسها الأسرة؛ تراجع السلطة الأبوية، وسلطة النخب السياسية والفكرية والدينية المكرّسة؛ انتشار الجريمة وتعاطي الكحول والمخدرات وارتفاع نسبة الطلاق؛ طغيان الفردية بشكل خاص وفقدان المعنى للهويات الجمعية القديمة مع البحث من جهة أخرى عن إعادة تكوين الهوية من جديد. هنا يتقدم الدين بوصفه ملجأً أميناً يقدم دواء قديماً ومجرباً لعلة حديثة، مع ضمانة إلهية أكيدة.
هناك كما هنا، كان صعود الحركات الدينية رد فعل على تقدم الحداثة. وهناك كما هنا، حاربت هذه الحركات وتحارب الآن كل ما تتضمنه الحداثة من علمانية وديمقراطية وفردانية ورأي مستقل حر. والأكثر دلالة من كل ذلك أن عملية التحول هذه قد ترافقت، هناك كما هنا، بحرب مذهبية طويلة وأليمة؛ داخل المسيحية هناك، وداخل الإسلام هنا. إن من يعتقد أن الصراع الدائر في سوريا هو مجرد صراع سياسي على السلطة بين مكونات اجتماعية مختلفة، أو أنه مجرد صراع جيوبوليتيكي بالنيابة بين قوى إقليمية ودولية ذات مصالح مختلفة، لا يرى إلا جزءاً فقط من الصورة. الصراع يدور أيضاً بين السنة والشيعة والعلويين على معنى الإسلام نفسه، وهو بهذا المعنى صراع الإصلاح الديني كما حدث في أوربا مطلع القرن السابع عشر. الإصلاح الديني شكل الأساس لكل الثورات الحديثة في أوربا فيما بعد كما يؤكد تشارلز تايلور؛ إنه "أم الثورات"!
عند دراستهم للحركات الدينية المتشددة في أوربا، بيّن علماء الإجتماع والسياسة الغربيون، وعلى رأسهم المفكر مايكل والزر، كيف أسهمت تلك الحركات في تعميم الحداثة ونشرها وادخال أوسع الفئات الاجتماعية فيها، وكيف زرعت بذور الحداثة، بدون أن تقصد ذلك طبعاً، في أشد المناطق تقليدية وأكثرها بعداً عن التأثر بالأفكار الحديثة، وكيف تم هذا خلال حربها بالذات على مظاهر الحداثة. هل يصح مثل هذا القول عن الحركات الإسلامية المتشددة اليوم في سوريا؟
لا يمكننا الجواب على هذا السؤال الصعب بسهولة هنا، ولكن علينا قبل محاولة الإجابة أن نفهم على الأقل أن الحداثة هي تجربة اجتماعية معاشة، وليست وصفة جاهزة يمكن تلقينها للجاهلين المتخلفين بعد تعلمّها من الكتب الأجنبية المترجمة. لقد قطع المثقفون لدينا المراحل بسرعة كبيرة جداً حتى وصلوا الآن إلى مرحلة ما بعد الحداثة، وباتوا يشغلون أنفسهم بنقدها على اعتبار أنها أصبحت معطى منجزاً وكاملاً يجب تجاوزه وكشف أخطائه. وعلى العكس فإن ما أقترحه هنا أن نتركهم هناك، وأن ننظر بتواضع أكبر إلى ما يجري تحت أعيننا من المحاولة الجدية الأولى، والتي تشارك فيها جميع الشرائح والفئات في المجتمع الإسلامي، من أجل الهجرة أخيراً من العصور الوسطى للإسلام، والدخول للمرة الأولى في عصر الحداثة. يحتاج هذا القول إلى شرح وتفصيل أكبر، ومكانه بالتأكيد في مقال آخر.