وصدرت مؤخرًا عدة مؤلفات ودراسات تناولت علاقة الإنسان بالموسيقى، وأخضعتها للبحث من جوانب مختلفة، حيث يتناولها الباحث والموسيقي الكندي، ميشيل روشون، في كتابه "الموسيقى والعقل: ماذا يحدث عندما نستمع للموسيقى؟" (ترجمة أماني مصطفى، العربي للنشر، القاهرة، 2024) من جهة الارتباط بين الفن والعلم، والذي يعود تاريخه إلى بداية الإنسانية، حيث تظهر الثقافة العلمية أن الموسيقى تشكل جزءًا من الثقافة الإنسانية بشكل عام. ويسعى في كتابه إلى تبيان ما يلقيه العلم من أضواء على أصول الموسيقى وعلى طريقة تأثيرها في الإنسان، وعلى طبيعتها الفيزيائية، إضافة إلى العمل الاستكشافي لتطويرها، بغية إثبات دورها في الثقافة الإنسانية، واكتشاف الكيفية التي يعمل وفقها العقل لإدراك الموسيقى أو عزفها، وكذلك الكيفية التي يمكن للباحثين أن يستهدفوا وفقها أبحاث العلاج بالموسيقى بدقة أكبر، فضلًا عن استخدامها لفهم أفضل لكيفية دخول الذكاء الاصطناعي إلى عالم الموسيقى.
ينطلق المؤلف من تساؤلات حول ألغاز الموسيقى، يطرحها بوصفه عالمًا في وظائف الأعضاء في المجال الطبي، إلى جانب كونه موسيقيًا في المجال العلمي. وتطاول تساؤلاته أسباب تأثير الموسيقى بقوة في الناس، حيث قطع العلم خطوات عملاقة على مدى العقود القليلة الماضية، وبنى تصورات تزداد دقتها عن مدى تأثرهم بالموسيقى. وتمتد تلك التساؤلات إلى أسباب افتتان العديد من الأطباء والباحثين بالموسيقى، إذ على الرغم من أن شغفهم بها قديم للغاية، وربما تجاوز الألف عام، إلا أنه لا يزال حاضرًا في عصرنا الراهن، ويثير رغبة العلماء من أجل فهم الدور الذي يلعبه تناغم الأصوات في تطوّر البشرية بالطريقة نفسها التي يؤثر بها في عقول البشر.
يخبرنا المؤلف أن إحدى عازفات التشيللو أسرّت له ذات مرة، أنها ظلت تعزف في حفلات مختلفة أثناء فترة حملها، حتى أنجبت، وكانت تجربة فريدة بالنسبة إليها، أن تستند الآلة مباشرة إلى بطنها، وأن جنينها كان يتفاعل بقوة مع الموسيقى حسب إيقاع اللحن. وكما أثرت الموسيقى بالجنين في رحم والدته، استطاعت أيضًا أن تغير تاريخ الإنسانية وتشكله، فالموسيقى هي اللغة البشرية الأولى، والحياة دون موسيقى هي بكل بساطة عبارة عن خدعة وشقاء ومنفى، حسبما قال الفيلسوف الألماني نيتشه ذات يوم.
تحفز الطبيعة المعقدة للموسيقى أجزاء مختلفة من الدماغ، الأمر الذي يعزز الوظائف المعرفية، ويمكن للموسيقى تحسين الذاكرة والانتباه، ومهارات حل المشكلات، حيث يجد معظم الناس أن الاستماع إلى الموسيقى أثناء قيامهم بالعمل يساعدهم على التركيز. ويفيد هذا النوع من التحفيز، على وجه الخصوص، الأفراد الذين يعانون من ضعف إدراكي أو اضطرابات عصبية. وليست الموسيقى لغزًا، لكنها اكتشاف متجدد باستمرار، وبما أنها تؤثر في مناطق عديدة من الدماغ، فإنها لا يمكن إلا أن تغيّر الناس. إن السيمفونية الموجودة في أدمغة البشر هي إحدى عجائب الطبيعة العظيمة. ولا تقتصر التأثيرات المفيدة للموسيقى في الدماغ على نوع واحد من الموسيقى، إذ يمكن لكل نوع منها، سواءً أكانت موسيقى الجاز أو الروك أو حتى الميتال، أن يعطي النتائج ذاتها، ما دام يتماشى مع تفضيلات الناس. وقد يكون لنمط الموسيقى دور في حالات أخرى، إذ يساهم كل نوع على حِدة في حلّ مشكلة معينة، وفقًا للعلماء والخبراء. يمكن للموسيقى المبهجة، متضمنة الأغاني ذات الكلمات الإيجابية على سبيل المثال، أن تزيد من طاقة الإنسان وتحفز عقله على التعلم، في حين تساعده الموسيقى الهادئة على التركيز عندما يحتاج إلى قراءة مواد معينة أو كتابتها أو دراستها مثلًا. كما يمكن لبعض أنواع الموسيقى أن تساعد في ممارسة اليقظة الذهنية والتأمل، حيث تخلق الإيقاعات المتكررة والألحان الهادئة أجواء مناسبة للتأمل الداخلي والاسترخاء، ويمكن أيضًا أن تريح العقل وتضعه في حالة تأملية. وقد يتجه بعض الناس إلى استخدام موسيقاهم المفضلة، سواءً أكانت هادئة أم صاخبة، من أجل مساعدتهم على إنجاز المهام التي يتوجب عليهم القيام بها.
أحيانًا، لا يمكن للكلمات التعبير عن مشاعر الإنسان المعقدة، فيما توفر الموسيقى وسيلة رائعة لنقل هذه المشاعر التي قد يصعب التحدث عنها. كما أن المشاركة في إنتاج الموسيقى من خلال العزف على الآلات أو الغناء أو التأليف، يوفر متنفسًا إبداعيًا يتيح التعبير عن ذات الإنسان.
يقوم المؤلف برحلة استكشافية عبر الزمن، ويتوغل في عالم الطب والموسيقى، من أجل فهم عجائب العملية الطويلة التي أفضت إلى ظهور الموسيقى وإبداعها، والطريقة التي يدرك بها الإنسان الموسيقى، واستشراف مستقبلها في عالم متغيّر، ويرى بأن الموسيقى التي ينتجها الإنسان، هي ببساطة، مؤلفة من سلسلة من الموجات الصوتية المنظمة، التي تنتقل بواسطة الهواء، لكنها أيضًا هي شكل من أشكال التعبير عن الهوية الإنسانية. وعليه يطرح التساؤل حول كيفية تمييز الدماغ البشري بين الأصوات المتناغمة وغير المتناغمة في الطبيعة، وكيفية تطوره لإدراك هذه الموسيقى، وربط سلسلة كاملة من الوظائف والذكريات والأفكار بها. وقبل أن يفكك الدماغ الموجات الصوتية ويحللها، فإنها تدخل الأذن، التي تتكون من مزيج خاص جدًا من الغضاريف والأربطة والعضلات، حيث تقوم الأذن بإنتاج مجسم للصوت يسمح بتحديد موقعه في الفضاء بدرجة عالية من الدقة، ثم يتولى الدماغ عملية السماح للإنسان بإدراك الموسيقى بكل روعتها، من خلال عمل العشرات من خلاياها وفي مناطق محددة للغاية. وبغية فهم كل ذلك، يقدم المؤلف رسمًا توضيحيًا لخرائط الدماغ الموسيقية، وينطلق من اعتبار أن الموسيقى تتكوّن من عناصر مختلفة، تحدّدها بالنغمات والألحان والتناغم والإيقاع. وهذا التركيب المعقد يصل إلى الأذن، حيث يقوم كل من الأذن والدماغ بعمل معقد بشكل لافت في تفكيك عناصر الموسيقى المختلفة ثم إعادة تركيبها من جديد. وتبدأ العملية من إدراك الأذن للصوت أولًا، ثم يُقسم الصوت في الأذن الخارجية إلى تردّدات مختلفة بواسطة القوقعة التي تحوّلها إلى نبضات كهربائية متميزة على طول العصب السمعي. وهكذا تبدأ الرحلة إلى الدماغ حين تبدأ الإشارة الكهربائية في العصب السمعي بالمرور عبر سلسلة من مناطق النظام البدائي للدماغ تدعى جذع الدماغ. وتصل الإشارة الكهربائية أولًا إلى القشرة السمعية الأولية الموجودة على جانبي الدماغ، وتمثل خط إدخال الصوت في القشرة، التي تقوم بتحليل جميع وظائف الإنسان العليا. وتقع القشرة السمعية في الفص الصدغي، وهي منطقة مركزية لإدراك السمع واللغة والذاكرة. وتقوم القشرة السمعية الأولية بفك تشفير كل نغمة من المقطوعات الموسيقية. أما الوظيفة التي تحدّد حدّة وتردّد كل نغمة موسيقية فتنتشر في الجانب الأيمن من الدماغ، ومع ذلك، فإن اللحن باعتباره سلسلة من عدة نغمات، أي سلسلة من الدرجات، يُفهم داخل ما يسمى القشرة السمعية الثانوية أو الترابطية، الموجودة بجوار القشرة السمعية الأولية، ولا تقوم هذه المنطقة بفك شيفرة اللحن فقط، بل لديها القدرة على اكتشاف أي نغمة خاطئة في اللحن الموسيقي أيضًا. وتوجد المنطقة التي تفك شيفرة الإيقاع الموسيقي في القشرة السمعية الثانوية في الجانب الأيمن من الدماغ. وحين يكون الإيقاع بسيطًا، فإن مناطق إضافية من القشرة تبدأ في العمل والتفاعل، ممثلة بالأجهزة اليسرى من الجبهة والفص والمخيخ، المسؤول عن تنسيق الحركات. أما إذا كانت المقطوعة الموسيقية ذات إيقاع معقد، فإن مناطق أخرى أكبر من القشرة الدماغية تستدعى للعمل، بما في ذلك المناطق الحركية والمخيخ. وهناك مناطق مع الفص الجبهي، وهي القشرة الحزامية، هي المسؤولة عن اكتشاف وإدراك التناغم، حيث يمكن للدماغ تمييز معزوفات وأنغام عدة آلات. كما يمكنه فك شيفرة الموسيقى على مستويين في نفس الوقت، من خلال تعامل القشرة الدماغية مع الترددات والإيقاعات والبنية.
في الختام، يرى المؤلف أن دماغ الإنسان مهيأ بشكل عجيب ومجهز لاستيعاب الفروق الدقيقة اللانهائية في الموسيقى، للسماح له بتذوق محتواها اللحني والتناغمي والإيقاعي، وكي ينقل شحنتها العاطفية إليه. وقد استخدمت الكائنات الحية الأولى وسائل اتصال للبقاء على قيد الحياة، وكانت ولادة الموسيقى هي نتيجة مسار تطوّري طويل، وعرف الإنسان العاقل كيفية التقاط وفهم واستغلال التناغم الصوتي للطبيعة، حيث تمكن وعيه، بطريقة ما، أن يوحد جميع مناطق الدماغ التي تنقل الموسيقى القادمة إلى أذنه بلا كلل. فضلًا عن أن الموسيقى هي أيضًا محفز معقد جدًا وغني لدرجة أنه يتطلب عملًا كبيرًا من دماغ الإنسان، كي يتم فصل جميع المكونات لإعادة تركيبها بعد ذلك بشكل مستمر، وهذا بمثابة دليل رائع على فعالية نشاطه الكهربائي، وهو في حد ذاته ظاهرة غير عادية.
-----------
ضفة ثالثة