تظهر القراءة المتأنيّة لهذا العقد وبنوده، أنّ الهدف الأساس للإدارة الذاتية من فرض هذا العقد في مناطق سيطرتها محاولتها ترسيخ الواقع السياسي في المنطقة، التي يُشكل العرب غالبية سكانها، لإعلان هذه المنطقة إقليماً شبه كونفدرالي، وهذا ما يمكن تلمّسه من خلال تغيير اسم الجمهورية العربية السورية في العقد الجديد إلى "جمهورية سورية الديمقراطية"، وكذلك الإعلان عن تشكيل محكمة لحماية العقد الاجتماعي (محكمة دستورية) والمكتب المركزي النقدي والمالي (بنك مركزي). ومن هنا، وضع باحثون ومراقبون عديدون هذه الخطوة في إطار الخطوات التصعيدية الهادفة إلى تعزيز النفوذ وإضفاء نوع من المشروعية في المنطقة التي تسيطر عليها "قسد"، من خلال كتابة دستور خاص، تفترض الإدارة الذاتية أنّه سيكون المرجع القانوني والشرعي لها في هذه المنطقة لإعلان الانفصال في أي تسوية مستقبلية مقبلة للقضية السورية. ويبدو هذا الأمر غاية في الأهمية في نظر الإدارة الذاتية، التي تحاول أيضاً من خلال هذا العقد إقناع أهل المنطقة أنّ هناك محاولة جدّية منها لتحويل المنطقة من منطقة نفوذ وسلطة حزب واحد إلى منطقة تقوم على مؤسّسات وقوانين وتشريعات.
ولأنّ الحكم على الشيء جزءٌ من تصوّره، وفي ظل المنطق السياسي الذي يقول إنّ العقود الاجتماعية والدساتير لا تُكتب في أثناء الحروب وفي فترات عدم الاستقرار، بل عند الانتهاء منها والتوافق على تجاوزها، يبدو أنّ هذا العقد يواجه، منذ اللحظات الأولى لإقراره والمصادقة عليه، مجموعة من الأسئلة والتحدّيات المتعلقة بالمشروعية، أهمّها أنّ هذا العقد جاء في أوضاع أمنية وسياسية غير آمنة وغير مستقرّة، كما أنّه لم يُبنََ على أية توافقات وطنية سورية، وإنّما جاء ليعبّر عن أهداف وتصوّرات جهة حزبيةٍ محدّدة، هي حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، بعيداً عن المشاركة الفعليّة والتوافق بين كل الأطراف السياسية، يُضاف إلى ذلك أنّ أعضاء اللجنة التي كُلّفت بوضع العقد الجديد لم يتم انتخابهم أو تكليفهم من جهات ممثلة للشعب بطريقة شرعية ومنتخبة، وإنّما جرى اختيارهم بانتقائية مبتذلة من الشخصيات التي هي من صلب الحزب الواحد أو من أحزاب الجبهة التي هي قد شكلتها، في وقتٍ جرى فيه إقصاء الممثلين الحقيقيين عن التنظيمات الأخرى، والشخصيات الأكاديمية والاجتماعية والمدنية الفاعلة، وتلك لها دور مميز في المجتمع ومؤثرة في الرأي العام، أي أنّ هذا العقد جاء من دون إرادة أبناء المنطقة، ليعبّر فقط عن إرادة جهة واحدة، حزب الاتحاد الديمقراطي، بعيداً عن الأطر السياسية، مثل المجلس الوطني الكردي، والاجتماعية مثل العشائر العربية، ومن دون إشراك الفكر غير المنسجم مع الإدارة. لذا من المنطقي أن يواجه هذا العقد عديدا من أسئلة المشروعية وتحدّياتها، سواء المتعلقة بمستوى التمثيل السياسي لأهم الفعاليات والمكوّنات في مناطق الشمال السوري، أو المرتبطة بغياب معايير القبول الشعبي، ناهيك عن عدم قبول حكومة النظام السوري، أو أية حكومة أخرى لهذا العقد.
ختاماً، يمكن القول إنّ الإدارة الذاتية في شمال شرق سورية تُحاول التعامل مع قضية العقد الاجتماعي الجديد كسلطة شرعية قائمة، كما تُحاول من خلال طرحها العقد الاجتماعي الجديد تطويع الظروف والمعطيات الراهنة وشراكتها في "الحرب على الإرهاب"، لتقديم مخرجاتٍ تساهم في جعلها طرفاً أساسياً في "الصراع"، وتعزّز عوامل تمكينها السياسي والعسكري والاجتماعي، متجاوزة مبدأ الحوار والتوافق الوطني مع باقي المكوّنات بشأن القضايا الرئيسية الإشكالية، كاسم الدولة وشكل نظام الحكم وغيرها، وهذا ما يجعلها تنهج سلوكياتٍ مضطربة ومزدوجة، الأمر الذي يدفع إلى القول إنّ إصرار الإدارة الذاتية على فرض هذا العقد الاجتماعي الجديد يعبّر، في جانب كبير منه، عن استمرارية حالة "التيه المؤسّساتي"، وكذلك عن استمرارية الحالة الشعبوية القائمة على دغدغة مشاعر الناس البسطاء من إخوتنا الكرد لاستغلالهم، من خلال بيع الأوهام ونشر الشعارات الفضفاضة واللعب بعواطف الناس، لتحقيق مآرب ومصالح شخصية وحزبية، على حساب فئةٍ كان جُلّ همّها العيش بأمان ومساواة.
-------------
العربي الجديد: