وربّما أمكن اعتبار الاستبداد امتداداً لقوانين الطبيعة المتمثلة في الصراعٍ المستدام ضمن دورة الحياة البيولوجية من أجل استمرار الأنواع. لكن هذا يعني أنّ المجتمعات البشرية لم تخرج من حيّز المملكة الحيوانية، ولا من أفقها البيولوجي المحدود، أو كأنّها لم تُكرّم بالعقل الممنوح من الخالق، أو أنها لم تتطوّر لتصنع فارقاً يميّزها عن محدودية الحاجات وينقلها إلى آفاق الفكر. هذا التناقض في فهم البشر ذواتهم، ثم قبولهم بالتراتبية المفروضة بالقوة من خارجها، يجعل التأمل في أسباب بقاء الاستبداد أمراً واجباً على الدوام.
توافقَ البشرُ عبر الزمن على الذهب والفضة معترفين بقيمتهما وسيطين يحملان ضمناً القابلية لمعايرة غيرهما من المواد، وهذا ما مكّنهم لاحقاً من اختزال القيم الماديّة بالنقد، وقد تطوّرت هذه المفاهيم لتصل بنا في نهاية المطاف إلى السوق الرأسمالي الحالي. لم تقتصر معايرة القِيم بالذهب على الأشياء فقط، بل عمد البشر إلى تقييم القضايا الإنسانية التي تخصّهم، فكانت الأجورُ والرواتبُ المُهور والديّات والغرامات بمثابة تقييم لمسائل لا تُوزن ولا تُعدّ ولا تُكال. اعترافُ البشر بقيمة الأشياء، وافتراضهم وجود معادلاتٍ لها قادرة على قياسها، هو ما جعل الحيازة أو الملكية أمرا مرغوبا، فالملكية الخاصّة لا تعني شيئاً من دون الاعتراف الاجتماعي بها، أي من دون تقديرها وإعطائها القيمة المفترضة بها ضمناً، والتي تجعلها ليس فقط قابلة للحيازة، بل ومحلّ اهتمام وسعيٍ دائمين.
لم يخلُ التاريخ البشري من شواهد على الثورات ضد الظلم، من ثورة العبيد بقيادة سبارتاكوس إلى آخر ثورات العصر الراهن ضد بشار الأسد وأمثاله
وفي خضمّ سعي البشر إلى تثبيت حيازاتهم وملكياتهم الخاصة، تطوّرت الحدود بين من يملك ومن لا يملك. وهكذا بدأ البشر يرسمون لأنفسهم قواعد تنظّم الحقوق والواجبات. وبعد أن كانت حرية الإنسان البدائي كامنةً في الطبيعة، باعتبارها متوافقةً مع شكل حياته البيولوجي، باتت حرّيته مرتبطة بالاجتماع، أي بتموضعه ضمن الجماعة البشرية التي بدأت تخرج من فطرتها التي تتماثل فيها مع مملكة الحيوان، لتصل به إلى مصافّ جديدة يحكمها العقل بكل تفاصيله، بإيمانه بالخرافات والأساطير بدايةً، ثم بهدايته عبر الرسالات السماوية، وتالياً بالمنطق والفلسفة، وأخيراً بالعلم الذي بدأ يصبح كأنه دين العقل الجديد، وليس فقط طرق الإنسان للبحث والتجريب للوصول إلى الحقيقة.
عندما توسّعت مدارك الإنسان، وعندما وجد في استغلال قوّة عمل أخيه الإنسان وسيلة للرفاهية، وعندما ازدادت شراهة المالكين للمزيد من الملكية، بدأت السلطة بالظهور والتركز، فتوسّعت قدراتهم عبرها، وأخذت حرياتهم معانيها المسيطرة، بينما تقلّصت حريات من لا يملك من باقي البشر المحكومين. ولفرض الخضوع لهذا الاختلال بين البشر، كان لا بدّ من الظلم. طاول الظلم عبر العصور جميع الفقراء، وكانت الجنانُ الموعودة أملهم في التخلص منه، أو هي التعويض النهائي في الحياة الآخرة. ولكن، ليس كل الفقراء خانعين، ولم يخلُ التاريخ البشري من شواهد على الثورات ضد الظلم، من ثورة العبيد بقيادة سبارتاكوس إلى آخر ثورات العصر الراهن ضد بشار الأسد وأمثاله.
لكنّ الثورات، مثل المُلكية الخاصّة، لا تعني شيئاً إن لم تحُز على اعتراف واسع من قوى المجتمع المعني بها. هذا ما حصل في الثورتين السورية والمصرية على الأقل، فقد بقي جزءٌ كبير من المجتمعين، السوري والمصري، بعيدين عن اتخاذ موقف حاسم مع الثورة ولصالحها. وعلى الرغم من وجود فرق كبير جداً بين ردّة فعل السلطة السياسية والجيش وأجهزة الأمن بين البلدين، إلا أنّ النتيجة النهائية كانت شبه متماثلةٍ فيهما. في مصر، عاد العسكر إلى صدارة المشهد بعد انحناءة ذكيّة وقصيرة المدى أمام العاصفة الشعبية، بينما بقي الأسد على قمّة عرش الدم والدمار على الرغم من حتف الجميع.
إذا ما استطاعت الجماعة أو الجماعات الثائرة أن تُنتج نخبتها القادرة على تمثيلها، فإنها تختصر نصف المسافة نحو النصر
يبدأ المرء بالتشكيك بنفسه عندما يشعر بالهزيمة، كذلك تفعل الجماعات والشعوب. هنا تتحوّل الطاقات الكامنة في النفس البشرية التوّاقة للمساواة والحريّة والتفرّد، إلى عناصر تثبيط وتشاؤم وانكسار. يبدأ الإنسان بالتفكير بصوابيّة اختياراته، عندما يصطدم بالعقبات التي تعترضه، فإذا ما كانت الاختيارات جماعية، كحالة الثورات التي تقوم بها الشعوب أو بعض فئاتها الاجتماعية، ضدّ الحكام المستبدّين، فإنّ الانكسارات تكون أكبر، لأنّ الهزيمة هنا لا تقف عند حد الذات الفردية، بل تتسع لتشمل المجتمع كلّه والأمّة ذاتها، خصوصا إذا ما ترافق ذلك بعنفٍ مستطيرٍ ينتج عنه، بشكل أو بآخر، تشتيت المجتمع وتذرير كيانات أفراده خارج إطار وحداتهم الاجتماعية المعتادة.
تبدأ الثورات من وصول جماعةٍ أو جماعاتٍ متشابهة في المجتمع إلى إحساسٍ شديد بالظلم، يترافق مع قناعةٍ باستحالة التغيير نحو الأفضل باتباع الطرق المعتادة، أو بانسداد أفق التغيير التراكمي. أي إن الثورات تبدأ بحالة تضامنٍ جماعيّ ضدّ الاستبداد، وإذا ما استطاعت الجماعة أو الجماعات الثائرة أن تُنتج نخبتها القادرة على تمثيلها، فإنها تختصر نصف المسافة نحو النصر، لأنها تكون قد حققت بعض الشروط الذاتية للتغيير، فإذا ما كانت الشروط الموضوعية مساعدةً على الانتقال، فإنّ الفوز يصبح أقرب أكثر فأكثر. هنا يقترب الفرد من المجموع بشكل واضح، لأنه يجد فيه ذاته، ويتلقّى منه الحماية والرعاية والتمثيل. تبدأ في مثل هذه الحالات عاداتٌ جديدةٌ وعلاقاتٌ نوعيةٌ بالتبلّور، فالنجاح في تحقيق التغيير يُطلق الطاقات الكامنة ويحرّر الأفكار ويفكّك القيود.
إذا لم نعمل على هزيمة الاستبداد في داخلنا، فسنبقى مطايا للمستبد، وسنبقى عبيداً له ولذواتنا الفردية
ولكنّ الثورات لا تسير نحو النصر دائماً، وأحداث التاريخ مليئةٌ بأمثلة الثورات الفاشلة أو المغدورة، فإذا تعثّرت الجماعة في سعيها وانهزمت لسببٍ أو لآخر، فإنّ أفرادها ما يلبثون أن يتحوّلوا من حالة التضامن الجماعي إلى حالة الخلاص الفردي. هنا يرجع الأفراد إلى وحداتهم الأصغر كالعائلة، لتلقي الحماية والمحافظة على الذات، منطلقين من مبدأ أوْلى لك فأوْلى. لكن، ما إن يأمن هؤلاء على حياتهم، حتى يسارعوا مجدّداً للتجمّع ضمن أطرهم القديمة، وهذا ما نراه في تجمّعاتهم الجديدة خارج مدنهم وقراهم بعد الهجرة أو التهجير، حيث يبحث الناس عن العيش بقرب من ألفوهم سابقاً. وهنا تُعيدُ الدورة ذاتها، فترجع العلاقات القديمة والروابط السابقة، بما فيها من رواسب وتراكمات، لتشدّ أزر الجماعة المهزومة، لكنّها تشدّها نحو الماضي لا نحو المستقبل.
هنا، وهنا بالذات تبدأ هزيمتنا أمام الاستبداد، عندما نسمح له باسترقاقنا مقابل النجاة بذواتنا. يسقط بعض منّا في مسار الصراع الطويل، وتنجو الغالبية العُظمى. لكنّ النجاة بالجسد لا تعني النجاة بالروح، فالهزيمة هي أن نعتبر ذواتنا منفصلةً عن مجموعنا، وأن نقبل العودة إلى ما كنّا عليه قبل ثورتنا، فإذا لم ندرك هذا التناقض بين البقاء والفناء، وإذا لم نعمل على هزيمة الاستبداد في داخلنا، فسنبقى مطايا للمستبد، وسنبقى عبيداً له ولذواتنا الفردية.
-----------
العربي الجديد