لكن مسعى تركيا الدائم للتعاطي مع شؤون أمنها القومي غالباً ما كان يتصادم مع الإرادات الدولية التي تعتقد أنه بإمكان أنقرة تحقيق مبتغاها دون اللجوء إلى الحرب، الأمر الذي جعل الخصم اللدود لتركيا يرى في المساعي الدولية وخاصة من جانب الولايات المتحدة وروسيا كابحاً ناجعاً لأي عملية عسكرية شاملة من جهة، وكذلك يرى في المسعى ذاته هامشاً متاحاً له لابتزاز أنقرة وإحراجها أمام حاضنتها الشعبية، كما هو الحال في تفجير إسطنبول، في الوقت الذي يقف فيه حزب العدالة والتنمية الحاكم أمام استحقاق مقبل قد يكون الأهم من بين الاستحقاقات الأخرى.
لكن يبدو أن حسابات حزب العمال الكردستاني لم تستقِم هذه المرة، وأن رهاناته على الكابح الدولي للقوة العسكرية التركية ربما لن تكون دقيقةً. لعله من الصحيح أن موسكو وطهران استطاعتا إقناع تركيا أثناء قمة طهران في 19 تموز/يوليو، بالعدول عن العملية العسكرية تجاه قسد، كما أفلحت موسكو وطهران معاً في إتاحة خيارين بديلين لأنقرة عن الخيار العسكري، يتمثل الأول بالموافقة الضمنية الروسية-الإيرانية معاً على حق تركيا بحماية أمنها القومي من خلال قيامها باستهداف جوي لمواقع وقيادات قسد في العمق السوري، على أن يكون هذا الاستهداف الجوي يتجسّد في عمليات محدودة وانتقائية، اعتقاداً منهما أن هكذا عمليات ربما تفي بالغرض من جهة أنها ستكون موجعة ورادعة لقسد أولاً، وكذلك من جهة أنها ستكون مُعزِّزةً لخطاب حزب العدالة والتنمية أمام الشعب التركي ثانياً. ولكن واقع الحال يؤكّد أن ما جرى في تفجير إسطنبوع ربما أدّى إلى خلط الأوراق من جديد نظراً للتداعيات التي نتجت عنه سواء من حيث رمزية المكان الذي استهدفه التفجير أومن حيث عدد الضحايا، الأمر الذي جعل الحكومة التركية أمام استحقاق جديد أمام الرأي العام التركي الذي قد تختلف بعض أطرافه مع الرئيس أردوغان في مسائل عديدة، إلّا أنها تتوحّد جميعها حين يكون الأمن التركي عرضةً للخطر.
من جانبها لم تبتعد واشنطن عما فعلته روسيا حين أتاحت للطيران التركي أن يحلق في الأجواء التي من المفترض أن تكون تحت سيطرتها، ليستهدف مواقع عسكرية وشخصيات قيادية في العمق القسدي، وذلك في محاولة من الإدارة الأميركية لاحتواء جموح تركيا نحو العملية العسكرية البرية، إلّا أن ما يجري الآن ربما يكون قد تجاوز التوقعات الأميركية والروسية معاً، فبالتزامن مع توسع رقعة الأهداف التي طالتها الضربات الجوية والمدفعية التركية التي شملت أهدافاً جديدة وصلت الى أكثر من 70 كيلومتراً في عمق الجغرافيا السورية، لمواقع عسكرية مهمة شملت قادة عسكريين وأمنيين مهمين للتنظيم كان أبرزهم مسؤول هيئة الدفاع السابق في الإدارة الذاتية ومقرات قيادة والتحصينات الهندسية ومستودعات السلاح والذخيرة وطرق الإمداد بالإضافة إلى أهداف أخرى اقتصادية أصابت أحد حقول النفط بهدف حرمان تلك التنظيمات من موارد مالية مهمة، كل هذا التصعيد في العمليات العسكرية التركية وما تبعها من ردة قسد باستهداف المدن التركية الحدودية (قرقميش، كلس) وسقوط ضحايا أتراك مدنيين، يؤشر إلى أن الضربات الجوية التركية لم تبقَ مجرد ضربات انتقائية محسوبة بدقة وفقاً للفهم الأميركي والروسي.
تحولت كثافة الطلعات الجوية التركية إلى شبه حرب جوّية لا تقل ضراوة عن أية حرب برية، الأمر الذي يوحي بمزيد من التعقيد بفهم ماذا تريد تركيا من هذه العملية، وما يزيد من تعقيد المشهد وضبابية الصورة هو تلك التصريحات المتضاربة التي تصدر عن المسؤولين الأتراك ومسؤولي الدول المتداخلة والفاعلة في الشأن السوري وخاصة الروس والأميركيين. ففي الوقت الذي أعطى الكرملين المبرر بان عمليات تركيا شمال سوريا حق مشروع لها ونتفهم مخاوفها الأمنية، دعا المبعوث الروسي الى سوريا الكسندر لافرنتييف تركيا إلى عدم استخدام القوة المفرطة في سوريا.
هذا التناقض والحيرة موجودان أيضاً في تصريحات المسؤولين الأميركيين. ففي حين اعتبر البيت الأبيض أن تركيا تتمتع بالحق الكامل بالدفاع عن نفسها أمام التهديدات الإرهابية على حدودها الجنوبية، أصدرت الخارجية الأميركية مساء الأربعاء، بياناً حول التصعيد العسكري التركي في مناطق حدودية شمال سوريا، حثّت فيه على الوقف الفوري للتصعيد. وقال الناطق الرسمي باسمها نيد برايس: "نشعر بقلق بالغ إزاء الأعمال العسكرية الأخيرة التي تزعزع استقرار المنطقة وتهدد هدفنا المشترك في محاربة داعش، وتعرض السكان المدنيين وكذا الأفراد الأميركيين للخطر، في الوقت نفسه عبرنا باستمرار عن مخاوفنا الجدية بشأن تأثير التصعيد في سوريا على اهدافنا في مكافحة داعش وعلى سلامة المدنيين على جانبي الحدود".
لعل حالة التردّد واضطراب المواقف الدولية حيال ما تقوم به تركيا، يعكس إلى حد بعيد الحالة الحرجة لكل من موسكو وواشنطن في آن معا، ولعل مكمن الحرج هو تجاوز العملية الجوّية التركية لما كان يتوقعه الروس والأميركيين، إذ لم تعد المخاوف قائمة من حدوث عملية عسكرية برية فحسب، بل ربما بدا أيضاً من الاستراتيجية التركية الجديدة التي لم تعد تكتفي بالضربات التي تستهدف مواقع عسكرية وقيادات أو كوادر كردية فحسب، بل ترمي أيضاً إلى ضرب موارد التمويل والبنى التحتية بهدف شل البنية التنظيمية والإدارية لمنظومة قسد أيضاً، الأمر الذي يجعل واشنطن ترى في الاستراتيجية التركية تلك طريقة ممنهجة للقضاء التدريجي على قسد أو إعطابها اقتصادياً وتنظيمياً، وربما هذا ما جعل وتيرة الضغوطات الروسية الأميركية ترتفع في الآونة الأخيرة تجاه تركيا سعياً لوضع حد للتصعيد التركي.
على أية حال ليس ثمة -حتى الآن- ما يوحي بعملية عسكرية برية وشيكة، رغم قيام الشريك المحلي برفع الجاهزية القتالية، والمقصود هنا الجيش الوطني السوري، وهذه ليست المرة الأولى التي يقوم بها بذلك، ورفع الجاهزية بالنسبة لتلك الفصائل لا يعطي أي مؤشر حقيقي على احتمالية القيام بعملية برية فهذا يحصل عند أصغر مشكلة فيما بينها.
لعل ما هو ثابت، أن مسألة قيام عملية عسكرية تركية أو عدم قيامها إنما هو مرهون لا محالة، بالتفاهمات القائمة والمستمرة بين كل من أنقرة وواشنطن من جهة، وأنقرة وموسكو من جهة أخرى، ومهما ارتفعت الشعارات وحملت من مضامين إلّا أن حجم المصالح هو المعيار الأكثر دقة ورجحاناً، ولا شك أن المصالح المشتركة بين روسيا وتركيا لا يمكن التغاضي عنها، إذ يكفي أن تركيا هي الآن مركز توزيع الغاز الروسي للعالم، فضلاً عن استثناء تركيا من العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا، إضافة إلى حرص تركيا على أن تبقى هي المهندس لاتفاقية الحبوب بين روسيا وأوكرانيا. لعل مجمل هذه المصالح في الظرف الراهن يجعل تركيا أكثر حرصاً على عدم إدارة الظهر إلى موسكو، وكذلك يمكن الذهاب إلى أن الظرف التركي الراهن لا يتيح لها المزيد من المساحة لإذكاء التوتر مع واشنطن، ذلك أن الحفاظ على تماسك الاقتصاد التركي والتحكم بحجم التضخم المالي هو أمر في غاية الأهمية بالنسبة إلى الرئيس أردوغان الذي يعلم ربما قبل سواه أن التبعات الاقتصادية لأي خصومة مع واشنطن ربما تكون الأن أكثر ضرراً من أي وقت آخر.
------
المدن