--------------------------------------------------------------------------------
تذكرت الكتاب والعائلة وما قرأته صغيراً وكبيراً عن تاريخ الإمبراطوريات الحديثة وعن الاستعمار وحروبه، تذكرتها جميعاً خلال أيام مثيرة قضيناها في متابعة انهيارات مالية تسبب فيها قطاع من رجال الأعمال تخصص في تجارة المال والمضاربة فيه واقتراضه وتكديسه. وتذكرتها بصفة خاصة وأنا أقرأ خبرين بالتحديد، أحدهما ينبئنا أن مصارف روتشيلد في العالم بأسره قررت التوقف عن التعامل بالذهب، وثانيهما يأتي على ذكر روتشيلد عرضاً إذ يبلغنا أن اللجنة الفيدرالية المكلفة بمراقبة الانتخابات الأمريكية قررت فتح التحقيق في “فضيحة” قبول حملة المرشح الجمهوري جون ماكين تبرعات من جهة أجنبية. ويحكي الخبر أن السناتور ماكين وافق على حضور حفل عشاء أقامه على شرفه البارون جاكوب روتشيلد الرابع وابنه ناثان روتشيلد في قصرهما بوسط لندن في شهر أبريل/نيسان الماضي، وكانت قيمة تذكرة حضور الحفل خمسمائة جنيه إسترليني للفرد. ولا يهمنا التحقيق ولا نتائجه في حد ذاتهما ولكن تهمنا، أو مازالت تهمنا، العلاقة بين المال والسلطة والدور الذي يلعبه المال في إفساد السلطة وكلاهما ليس جديداً، وبالتأكيد ليس جديداً على عائلة روتشيلد، هذه العائلة الأسطورة.
من القصص التي تداولها المؤرخون أن ناثان روتشيلد الكبير، مؤسس فرع العائلة في بريطانيا قام بتمويل عملية الغزو التي شنها اللورد ولنجتون في فرنسا في آخر مراحل حرب بريطانيا مع نابليون بونابرت. حدث هذا قبل قرنين وكان ناثان وقتها، وهو ابن ماير روتشيلد مؤسس العائلة، حديث العهد ببريطانيا وسياسييها وكان للتو قادماً من حي اليهود في فرانكفورت حيث لقنه أبوه فنون المال وعلومه وبعث به إلى بريطانيا حيث صناعة المنسوجات في المهد ومستقبلها في التجارة العالمية مؤكد ومضمون حسب رؤية روتشيلد الأب. كانت مهمة ناثان في هذه الحرب تهريب العملات الذهبية عبر المانش إلى القوات البريطانية، وهو ما فعله حتى تحقق النصر لولنجتون في ووترلو. هذا الجانب من مهمة آل روتشيلد معروف، ما لم يكن معروفاً هو أن الفرع الفرنسي من آل روتشيلد كان يقوم بتمويل جيوش نابليون خلال عمليات زحفها في أوروبا وخارجها. كذلك مولت العائلة حرب بروسيا والنمسا حين قدمت قروضاً كبيرة لحكومتي الإمبراطوريتين عندما بدأتا استعداداتهما للحرب. نعرف أيضا أن العائلة تدخلت بكل نفوذها لتشجيع السيدة مارجريت تاتشر على خصخصة صناعات وخدمات بعينها مولت عملياتها مصارف روتشيلد. وحين أممت حكومة ميتران بعض مصارف روتشيلد أقامت العائلة على الفور مصارف أخرى أكبر وأقوى.
عاش ماير روتشيلد، مؤسس العائلة، في حي اليهود في مدينة فرانكفورت، وكان أبوه مرابياً وصائغاً. وتخصص الابن في تنظيم الحسابات وحفظ الأموال ووضع منذ ذلك الوقت قاعدة ليلتزم بها أولاده من بعده، وهي ألا يعرف أحد حقيقة ثروة العائلة وأين تحفظ. وأنجب ماير خمسة أولاد، بعث بأربعة منهم إلى عواصم أوروبية مختلفة للاستفادة من صعود الرأسمالية ونمو التجارة الدولية. أرسل ناثان إلى لندن وجيمس إلى باريس وسالومان إلى فيينا وكارل إلى نابولي، واحتفظ بالنجل الأكبر أمشيل في بروسيا، وحثهم جميعاً على “التنافس الأخوي” من أجل زيادة ثروة العائلة. وبالفعل أبدع كل من ناثان البريطاني وجيمس الفرنسي كل في مجاله، فكان لكل منهما نفوذ لا يعادله نفوذ في صنع السياسة في كل من بريطانيا وفرنسا ومستعمراتهما في الخارج. كذلك كان نفوذ فرع العائلة في ألمانيا بالغاً حتى أن أحد الكتاب الألمان المعاصرين كتب مؤخراً عن ماير مؤسس العائلة واصفاً إياه بأنه “فخر “إسرائيل”.. إنه الرجل الذي انحنى بتواضع أمام صناديق أمواله أعظم ملوك أوروبا وأباطرتها”. وكتب الروائي المعروف ثاكيريي Thackerey عن ناثان أسطورة روتشيلد البريطانية أنه لم يكن فقط “ملك اليهود ولكن يهودي الملوك”. ويقال عن ناثان إنه ضاعف ثروة روتشيلد عشرين مرة حين راهن على انتصار بريطانيا في حربها ضد فرنسا، وإنه مع أخوته أقام شبكة من العملاء غطت كل القارة الأوروبية ومستعمراتها اعتمدت في نقل رسائلها على قوارب سريعة واستخدمت شفرة خاصة والحمام الزاجل. كان الهدف من إقامة هذه الشبكة الحصول على المعلومات قبل وصولها إلى قصور الحكام حيث توضع السياسات وتعد القرارات. بل إن العائلة اعتمدت على بث الإشاعات التي تخدم خططها الموضوعة سلفاً. ويذكر في هذا الصدد أن ناثان روج شائعة هزيمة اللورد ولنجتون رغم المعلومات المتوفرة لديه عن أن انتصاره شبه مؤكد، كان الغرض حث حكومة الإمبراطورية على مزيد من الاقتراض من روتشيلد ورفع سعر الفائدة أو الحصول على نصيب في أرصدة الإمبراطورية في الخارج. استخدمت عائلة روتشيلد الشائعات، وربما مازالت تستخدمها، لنشر الفزع والرعب بين الناس وأصحاب الأراضي والمصانع والمزارع لتخفيض قيمة هذه الأصول في السوق فتشتريها مصارف روتشيلد. إنه الفزع نفسه والصدمات نفسها التي عادت لتكتب عنها منذ شهور قليلة الكاتبة البريطانية الشهيرة نعومي كلاين وهي تصف أسلوب مدرسة شيكاغو التي أسسها عالم الاقتصاد ميلتون فريدمان. كانت نعومي تصف سياسة عامة انتهجتها مدرسة اقتصادية تحكمت في الاقتصاد الأمريكي، واقتصادات أمريكا اللاتينية ثم أغلب دول العالم، وانتهت، أو لعلها تقترب من نهايتها، على أيدي الأزمة المالية الخانقة والانهيارات الاقتصادية الهائلة في كل البقاع.
كان ناثان روتشيلد يقول “لا تهمني الدمية التي يضعونها على عرش إنجلترا لتحكم الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. إن الشخص الذي يتحكم في الثروة البريطانية هو وحده الذي يحق له أن يتحكم في الإمبراطورية.. وأنا هو هذا الشخص”، وتنقل جريدة “الاندبندنت” في عدد من أعدادها الأخيرة حكاية رويت عنه تقول إن أميراً من أفراد أوروبا دخل على ناثان روتشيلد في مكتبه ومشى متجهاً نحو مكتبه إلا أن ناثان لم يرفع رأسه عن أوراق يقرأ فيها واكتفى بأن طلب من الزائر أن يسحب مقعداً ويجلس. رد عليه الأمير غاضباً أنا أمير ولايتي ثورن وتاكسيس فكيف تطلب مني أن أسحب مقعداً.. أجابه ناثان إذاً اسحب مقعدين واجلس.
ويكتب فيرجسون وغيره من المؤرخين عن القواعد التي وضعها مؤسس العائلة منذ عام ،1744 وهي القواعد التي حافظت على تماسك العائلة وتعاظم الثروة قرنين ونصف قرن، وبعضها حقاً مثير للانتباه، منها مثلاً ألا يسمح أي من أفراد العائلة المسؤولين عن إدارة الشركات والمصارف لأي جهة حكومية أو غير حكومية بإجراء مسح أو عمل جرد لأصول العائلة وثروتها المنقولة. ولذلك لا أحد إلى يومنا هذا يستطيع وضع تقدير مؤكد لثروة آل روتشيلد، بدليل أن التقديرات، وهي عديدة، تتراوح بين عشرين ملياراً وتريليون دولار. ومن القواعد أيضاً أن الابن الأكبر يرث منفرداً إلا إذا اجتمعت العائلة وقررت تعيين خليفة غير الابن الأكبر لأسباب يقدرونها بإجماع الآراء، ومنها، ولعلها من القواعد الأشد لفتاً للانتباه، أن الخلافة تكون للأبناء الذكور فقط، وأن يتزوج هؤلاء من بنات العموم من الدرجة الأولى أو الثانية، ومن يتزوج من خارج العائلة يحرم من الميراث، وفي أحسن الأحوال تمنحه العائلة مبلغاً شاملاً كما تفعل مع إناث آل روتشيلد اللائي لا يرثن ولا يحق لهن العمل في وظائف بمصارف آل روتشيلد وشركاتها ولا حقوق لأولادهن وبناتهن لدى العائلة.
كان ماير، مؤسس العائلة، واعياً للطبيعة البشرية ودارساً متعمقاً في ديانته والسلوكيات المتوارثة عن الأقدمين ولذلك وضع هذه القواعد، إذ بدونها ما استمرت العائلة أكثر من قرنين وما كان لكبيرها في الأزمنة المختلفة وفي ظل أنواع شتى من الحكم أن يتمتع بهذا النفوذ العالمي الهائل الذي تمتع به بارونات الأسرة ومازال يحظى به البارون دافيد دي روتشيلد كبير الفرع الفرنسي الذي حل محل البارون ايفيلين دي روتشيلد الذي عزل حين قرر عقد قرانه على سيدة أمريكية من خارج العائلة وتردد أنها ليست يهودية.
تستحق سيرة آل روتشيلد اهتماماً خاصاً في هذه الأيام. عائلة أجادت لمدة 270 عاماً أو أكثر مهنة التجارة في المال وأبدعت في فنون ممارسة النفوذ وإشعال الحروب وبث الإشاعات وإقامة شبكات جاسوسية وجمع معلومات، أي أجادت ومارست أعمالاً شديدة الخطورة ومع ذلك تمكنت من البقاء هذه المدة الطويلة بينما انهارت وتنهار دول وانفرطت وتنفرط أمم لأسباب أقل شأناً.
جمبل مطر - الخليج الاماراتية